الحكومة الإسلامية

قبل أن أوضح موضوع (الحكومة الإسلامية) سيكون من الأفضل أن أبين أولا بعض تعاليم الإسلام الأساسية، وأسلّط الضوء على حياة مؤسسها النبي محمد . وبهذه الطريقة سيكون من الأسهل فهم الأهداف التي تأسس عليها الحكومة الإسلامية.

إن كلمة الإسلام تعني (السلام) وتعني أيضا الخضوع الكامل لمشيئة الله، وتعلمنا أن الإنسان عليه أن يخدم الآخرين ويجاهد من أجل التقرب إلى الله.

ظهر دين الإسلام في العالم قبل 1400 سنة عن طريق النبي محمد الذي أصبح أيضًا حاكمًا، والذي سأطرح عليكم بعض الأمثلة عن كيفية إدارته لأمور الدولة وتنفيذه لتعاليم الإسلام.

وُلد نبينا محمد في (مكة) في الجزيرة العربية سنة 570 م. تُوفي والده قبل ولادته وتُوفيت أمه عندما كان في السادسة من عمره، وبالتالي فقد تربى يتيمًا عند جده أولاً، ثم عند عمّه.

كان في طفولته يرعى الغنم لأهل مكة في الوديان والجبال المجاورة. وكان يؤدي كل واجباته بإخلاص وبأمانة شديدة حتى أن الناس أطلقوا عليه لقب (الأمين).

وقد اتفقت (كتب التاريخ) على أنه شابًّا متواضعًا ومثاليًا في أخلاقه. وبما أنه كان بطبعه مائلا إلى الدين فكان يعتكف للصلاة والتعبد في معظم الأحيان في مغارة (حراء) بجبل قريب من مكة المكرمة.

وعندما بلغ سن الأربعين، نزل عليه الوحي التالي:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 2 – 6).

بهذه الآيات كانت أول ما نزل على محمد المصطفى وأصبحت جزءًا من القرآن الكريم، كتاب المسلمين. ارتعد محمد أولاً من الخوف ولكن فيما بعد توكل على الله ولبَّى دعوته لإعلان وحدانية الله في العالم وللقضاء على عبادة الأصنام، ولإحياء الدين الحقيقي، والخضوع إلى الله، ولإقامة الأخوة بين كل البشر.

وفي البداية لم يؤمن به إلا قليل من الناس، لأن معظم أهل مكة عارضوه، واضطهدوه مع أتباعه وعذبوهم وقتلوهم بوحشية. وبعد المـُعاناة الشديدة لمدة 13 سنة من أهل بلده أمَره الله بالهجرة إلى مدينة كانت تسمى (يثرب) التي تقع على بعد حوالي 300 ميل من مكة. وهناك آمن به أهل يثرب. ولكن أهل مكة لم يكفوا عن ملاحقته محاولين القضاء على الدين الجديد. فأرسلوا جيوشا للهجوم عليه، ووقعت عدة حروب تاريخية بين الجانبين. ومن الضروري أن نعرف أن الرسول محمدًا في كل هذه الأحداث كان في حالة الدفاع والحفاظ على عقيدته، والسبب الوحيد لدخوله في الحرب كان دفع ظلم المعتدي وحماية قومه ودينه.

ثم اتفقوا على معاهدة، ولكن أهل مكة نقضوها. وقاد محمد عشرة آلاف من أصحابه إلى مكة ودخلها فاتحًا بعد غياب عشرة سنوات. كيف عامل الرسول هؤلاء الناس الذين عارضوه بعنف في السنوات المبكرة وقتلوا أتباعه بوحشية، وحاولوا بكل الطرق القضاء عليه وعلى دعوته. هذا السؤال الطريف سوف أجيب عليه فيما بعد.

بعد ذلك دخلت الجزيرة العربية بأسرها في الإسلام. وتوفي سيدنا محمد في سنة 632م. وفي خلال 63 سنة من حياته المباركة تعرض لكل أنواع التجارب البشرية. من فقر وغنى، وفشل ونجاح، وضعف وقوة، واضطهاد على أيدي الأعداء وحكم على الأعداء، وإخلاص لله تعالى ثم كونه أعظم  نبي لله تعالى.

لقد استمر طوال حياته يتلقى من الله تعالى الوحي الذي كون القرآن الكريم.. ذلك الكتاب الذي يؤمن المسلمون أنه الكلمات الحقيقة المباشرة من عند الله نفسه. وسوف أقتبس كثيرًا من القرآن الذي يلاحَظ فيه أن الله قد خاطب الإنسان مباشرة. وبعد الإحاطة بالخلفية أتناول الآن الموضوع الأساسي. إن كلمة (الحكومة) تعني كما هو واضح في قاموس أكسفورد الإنجليزي:

(Dictionary English Oxford) نظام الحكم، أو جماعة أو جماعات متتابعة تحكم الدولة. ولكن يوجد لهذه الكلمة معنى أعمق، ونجده في القرآن الكريم كالتالي؛ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا (النساء 59). ويعني ذلك أن الحكومة هي أمانة. وهذا يشكل مفهوم الحكومة في الإسلام أي أن الحكومة في الجوهر مِلك الشعب ويوكل بها بعض الناس الذين يُعتقد بأنهم أحسن من يؤدي الأمانة. والآية تقول أيضًا:

وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ (النساء:59).

تتضمن هذه واجبين: أحدهما يلزم الناس بأن يختاروا مندوبهم بالحكمة. والآخر يلزم من اختيروا أن يستخدموا سلطتهم بالمساواة والعدل، وهذا هو جوهر النظام السليم.

والآية تنتهي بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وتشير إلى أن الله يراقب الجميع. فكل الناس وخاصة من تقع عليهم المسؤولية. سيحاسبهم الله.

الإسلام يعلمنا أن سيادة الكون هي لله وأن الإنسان قد أُعطيَ السُلطة على الأرض كأمانة، وسوف يُسأل أمام الله لأداء مسؤوليته بأمانة. ولقد قال الرسول : “كلكّم راعٍ وكلكّم مسئول عن رعيته”. وهذا يبين أن المـَلك مسؤول عن قومه، وكل إنسان مسئول عن بيته وعن أفراد أسرته، وكل امرأة مسئولة عن بيتها وعن أولادها، وكل خادمٍ مسئول عن أملاك سيده وما هو تحت رعايته.

والإسلام يعتبر الحاكم كراعي الغنم، المسئول عن القطيع الذي يجب عليه أن يراعي كل رؤوسه بالكامل. وبالمثل فإنه من واجب الدولة الإسلامية أن تحمي أفرادها بكل طريق، وأن تسدَّ كافة احتياجاتهم المادية والروحانية.

إن الإسلام هو أول من قدم تصور نظام حكمٍ مسئولٍ عن رفاهية المواطنين، وقد اهتم الإسلام باحترام (العمل). أمسك النبي الكريم مرة يدي عامل ووضعهما بين كفّيه الطاهرين ودلكهما برقة وقال: (هذه الأيدي محبوبة عند الله). وكوصية هامة قال لأصحاب العمل: (آتوا الأجير “العامل” أجره قبل أن يجف عرقه).

لقد ركز الإسلام على أن الدولة مسئولة أن تضمن سداد ضروريات الحياة العامة لجميع مواطنيها، وهذا يعتبر أدنى متطلبات المنظمة الاجتماعية السليمة.

وفي الدولة الإسلامية يجب توفير كافة الوسائل المناسبة لإقامة العدل، وعن هذا يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 136).

وهنا وضّح القرآن أن العدل يجب أن يقام بكل صدقٍ وبدون أي تحيز حتى أن الرسول قال في إحدى المرات: “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.

حتى ولو كان الطرف الثاني أعداء للمسلمين فمع ذلك يجب على المسلمين أن يكونوا عادلين في الحكم عليهم كما قال الله تعالى في القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة: 9)

إن الإسلام يعطي حرية كاملة في الفكر والعقيدة. هذا ما أكده القرآن في الآية التالية:

لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 257).

هناك اعتقاد خاطئ بأن الإسلام قد انتشر بقوة السيف، وأريد أن أبين أن هذا ليسَ صحيحًا، ولم يُذكر أبدًا في القرآن أنه يجب إدخال الناس في الإسلام بالقوة. والحقيقة أن القرآن صرّح..

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ .

إن كل الحقوق البشرية الجوهرية بما فيها العقيدة وممارستها ونشرها مضمونة لكل المسلمين وغير المسلمين بالتساوي في الحكومة الإسلامية.

وهنا أريد أن أذكر حادثة طريفة وقعت في حياة الرسول . مرةً زاره وفد مسيحي في (المدينة المنورة) للنقاش في أمور الدين، دار الحديث في المسجد النبوي، واستمر لساعات. كان ذلك يوم الأحد هو وهو يوم عبادة المسيحيين. فاستأذن الوفد النبي للخروج من المسجد إلى مكان مناسب لأداء عباداتهم. ولما سمع الرسول ذلك قال: إن المسجد بُني لعبادة الله. وسمح لهُم بأداء عبادتهم في المسجد وعلى طريقتهم.

وكما قلتُ من قبل إن كلمة الإسلام تعني (السلام). والحكومات والأنشطة التي تحاول عرقلة جهود الأمن والسلام يُدينها القرآن كما قال الله تعالى:

وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: 78).

وفي مجال العلاقات العالمية يعلّمنا الإسلام أن على كل الدول أن تتعاون بعضها مع بعض. وليس من حق أي دولة أن تسيطر على دولة أخرى. والمقصود من المعاهدات والمفاوضات بين الدول هو التعاون بين الدول المشتركة وليس من أجل استغلال الدول الضعيفة. واحترام المعاهدات واجب على الجميع. وفي حالة الحرب يجب على المسلمين ألا يكونوا معتدين ولكن مُدافعين دائمًا. وأحد العوامل التي تؤدي كثيرا للخلافات أن اللغة المستخدمة في المعاهدات عمومًا غير واضحة. وهذا يؤدي إلى الشك في الإخلاص بين الأحزاب ورجال السياسة. ومنعًا لذلك أكّد القرآن الكريم بوضوح تام أنه عندما يعطي أحد عهدًا أو ميثاقا يجب عليه أن يكون واضحا تماما فيما ينوي عمله. ويجب ألا يكون هناك أي تضارب في فهم الميثاق، كما ذكر الله في القرآن الكريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (الأحزاب: 71 -72).

إن المواطنين الذين يعيشون في دولة إسلامية يجب عليهم أن يحترموا القانون والنظام. وفي هذا الصدد قال الرسول بأن على المسلم السمع والطاعة إلا في معصية الله.

وضح الرسول في هذا الصدد أن على الشعوب ألا تؤيد الأهداف العدوانية لحكومتها المعتدية. إنه ليس من الوطنية الحقيقية أن يؤيد أحد حكومته حتى في العدوان بأن الوطنية العمياء وحبّ الإنسانية لا يتفقان. إن الرسول قد عبّر عن هذا المبدأ في عبارة قصيرة قال: “أنصُر أخاك ظالما أو مظلوما” فقيل له: نعلم كيف ننصر أخانا المظلوم، ولكن لا نعرف كيف ننصر أخانا الظالم. فقال: “بالأخذ على يده ومنعه من ارتكاب الظلم”. ومن واجبات الحكومة أن تتعامل مع الناس مغاملة طيبة. فقد قال الله سبجانه وتعالى في القرآن الكريم:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل: 91)،

وقال الرسول بأن ٌأقرب الحكام مجلسا إليه يوم القيامة أعدلهم وأرفقهم بالرعية وأبغضهم إليه من لا يعدلون ولا يرحمون.

لقد كان الرسول أسوة حسنة للحاكم الطّيب والعادل. بعد سنين طويلة من احتمال الذل والاضطهاد والعذاب الوحشي من قِبل أهل بلده غادر بلده مكة ورجع إليها فاتحا على رأس 10000 من أتباعه المخلصين. وهؤلاء الذين عاملوه بقسوة كانوا تحت رحمته. وفي الحقيقة إنهم جميعا كانوا يستحقون العقاب الشديد. وكانوا يتوقعونه. ولكنهم طلبوا العفو من الرسول وقالوا: افعِل ما فعل يوسف بإخوانه. فأعلن الرسول حينما سمع ذلك: “لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا. أنتم الطلقاء”. وهكذا عفا عنهم ناسيًا جميع أعمالهم العدوانية الشديدة التي لا تغفر.

وجدير بالذكر هنا أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حينما نُوقش موضوع مُجرمي الحرب الألمان قام عضو البرلمان الأسترالي وقال: “تَعالوا نجعل هذا اليوم كيوم محمد”. كان يشير إلى نفس الحادثة التي حدثت يوم فتح مكة حينما عفا نبي الإسلام عن جميع أعدائه. وبذلك أقام مثلاً فريدا من نوعه في تاريخ البشرية. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك