أمّـة فقيـرة

أمّـة فقيـرة

 تحليل للعلاقة بين نقص التعليم والفقر .. للبروفسور عبد السلام -الحائز على جائزة نوبل- ومدير المركز الدولي للفيزياء النظرية، تریستا، إيطاليا. نشرت هذه الكلمة في المجلة الشهرية الأردية “تهذيب الأخلاق” بجامعة عليكره الإسلامية – الهند في يناير۱۹۸۹وترجمها إلى الإنجليزية السيد زکریا فیرك -کنجستن- کندا .

نقلها إلى العربية: أبو رباح – مصر

قُبلتُ في كلية جهانج بباكستان عام ۱۹۲۸ م في سن الثانية عشرة الغضَّة، ومكثت بها أربع سنوات. كانت في ذلك الوقت كلية متوسطة؛ يدرس الطالب فيها مقررات الصف ۹، ۱۰ ثم السنة الأولى والثانية. وكان غالبية الطلبة فيها من الهندوس. ومن حسن حظي أن كان لي بعض المعلمين هم أغزر علما وأكثر حنانا. كان الشيخ إعجاز أحمد معلمي للغة الإنجليزية، والصوفي ضياء الحق للغة العربية، الخواجا معراج الدين للغة الفارسية .. في حين كان معلمو الرياضيات والعلوم من الهندوس والسيخ. وكانت مادتا العلوم والرياضيات في ذلك الوقت ميدانا يسيطر عليه الطلبة الهندوس والسيخ. كان لالا بادري ناث ولالا رام لال يدرسان الرياضيات بحذق كبير، في حين كان لالا راج يدرس الفيزياء، ولالا نوبات راج يدرس الكيمياء. في هذه الكلية وضع أساس مستقبلي الأكاديمي. وأعتقد أني مدين بكل إنجازاتي اللاحقة لهذا المعهد ولمعلمية المجدين. وأعتقد بيقين أن عطف المعلم ورعايته المناسبة يمكن أن تصنع الطالب أو تحطمه. ومثالا لذلك : كنت في سنتي الأولى بالكلية معتادا أن أستخدم بعض الكلمات الإنجليزية المحببة إلي كثيرا. وطفقت أستعمل تلك العبارات في محادثاتي اليومية في غير مناسبتها الصحيحة. ولقد منعني أستاذي المحترم شيخ إعجاز أحمد من استخدام مثل هذه الكلمات الصعبة، ولكني تصاممت عن نصحيته. وعندما انتهى الفصل الدراسي عاقبني أستاذي فاقتطع مني خمس درجات لكل كلمة صعبة أو خاطئة استعملتها. وكانت نتيجة درجاتي في امتحان اللغة الإنجليزية واضحة تماما! لم ير أستاذي أن ذلك كافيا، ولكنه قرر أن يأتي بورقة إجابتي إلي حجرة الدرس، وأعلن أمام الجميع كيف أني استخدمت في الامتحان كلمات إنجليزية غير مناسبة.

في ذلك الوقت لم أقدر هذه المعاملة حق قدرها، ولكني الآن عندما أسترجع هذه الذكرى أشعر أنه أعطاني الدواء المناسب. وكانت ثمرة هذه الصدمة العلاجية أني امتنعت عن استعمال الكلمات الصعبة نهائيا.

كان ما حصلت عليه من تعلیم راجعا في معظمه إلي معلمي، ولكنه يرجع فوق كل شيء إلى رعاية أبي العطوفة المضيئة ودعائه الحار لي. في تلك الأيام كان امتحان القبول للجامعة أشبه بمباراة في المصارعة بإقليم البنجاب. كان المصارعون -أعني الطلاب- يأتون من شتي المدارس ليستعرضوا بسالتهم في الامتحان .. وعلى وجه الخصوص الطلبة القادمون من مدارس للفرق الهندوسية «سناتن دهرم» و «آريا» الذين كانوا يعتبرون فرسان الساحة ومصارعين لا يقهرون. وأذكر جيدا يوم ظهرت نتائج امتحان القبول، كنت جالسا في مكتب أبي بقاعة “سراي العدل في جهانج”، ونشرت النتائج في الصحف القادمة من لاهور، ووصلت الصحف يومئذ قريبا من وقت الغذاء في محطة جهانج السكة الحديد. وكان أبي قد طلب من أحد العاملين تحت رئاسته أن يحضر الصحيفة إليه فور وصولها .. وما هي إلا لحظات حتي انهالت التهاني من لاهور.

وكما ذكرت، كانت نتيجة الامتحان تعد حدثا قوميا في تلك الأيام. والسبب في ذلك أن الهندوس كانوا يناصرون التعليم إلى حد كبير. أذكر عودتي في الساعة الثانية من بعد ظهر يومئذ علي دراجتي من ماجهيانا في طريقي إلى مدينة جهانج. كانت أخبار حصولي علي المركز الأول بين الطلاب الناجحين قد وصلت إلي مدينة “جهانج”، وأذكر أنه كان علي المرور من بوابة شرطة المركز كي أذهب إلى بيتنا في “بولاند دروازا”. أتذكر إلى الآن بوضوح التجار الهندوس الذين كانوا في العادة يغلقون حوانيتهم وقت الظهيرة .. فإذا بهم يقفون خارج محلاتهم كي يستقبلوني ويحيوني ويعبروا لي عن تقديرهم. ولقد ترك إجلالهم هذا واحترامهم للتعليم أثرا لا ينمحي من عقلي .

ومن جهانج ذهبت إلى الكلية الحكومية في لاهور، ثم إلى كامبردج في بريطانيا. وفي كامبريدج تعلمت من الطلاب الإنجليز طرقا متنوعة للدراسة. كان الطلبة يجلسون هناك في حجرات الدرس بطريقة تنبئ عن الاحترام كما يجلس المسلمون في المسجد للصلاة. قبل وصول المحاضر يكون هناك سكون تام، وأثناء المحاضرة يستعمل الطلاب أقلاما من أربعة ألوان ومساطر لرسم الخطوط المستقيمة. وكانت كراسات الطلبة مكتوبة بطريقة حرفيَّة كما لو كان كاتبها خطاطا. كان زملائي يأتون إلى كامبريدج مباشرة من المدارس. كانوا أصغر مني سنا، ولكن اعتمادهم على أنفسهم وعزيمتهم العالية على مستوى تطلب مني سنتين کي أصل إليه. لقد درسوا في مدراس حيث يشجع المعلمون تلاميذهم علي التعليم المتقدم، وينصحونهم أنهم أبناء أمة عظيمة ولد فيها رجال من أمثال سير إسحاق نيوتن. لقد حفر هؤلاء المعلمون في عقول الأطفال أنهم ورثة المعرفة في العلوم والرياضيات، وأنهم أيضا يستطعيون أن يصبحوا مثل نيوتن .

وفي كامبريدج كانت طريقة التعليم جديدة تماما ومدهشة لي. تستطيع أن تجلس إلى امتحان البكالوريوس مرة واحدة فقط، فإذا رسبت -لا سمح الله- فلن تستطيع التقدم لهذا الامتحان مرة أخرى. وكان النظام في مساكن الطلبة يتطلب أن يعود كل طالب إلى مسكنه قبل العاشرة مساء. فإذا رجع قبل منتصف الليل دفع غرامة قدرها بنس واحد، ولكن إذا عاد بعد منتصف الليل كانت عقوبته أن يحرم أسبوعا من الخروج من المساكن. وإذا تكرر هذا منه ثلاث مرات في العام الدراسي طرد من الجامعة. كان كل طالب يعامل معاملة الإنسان الراشد.. فهو محاسب على كل أفعاله. يدخل الطالب في مناقشة لاغية لأن العقوبات كانت رادعة، ولقد تقبلها بعض الطلاب بصبر وجلد.

كان المتوقع من الطالب في كامبريدج أن يؤدي شيئا من العمل بيديه أيضا. أذكر أول يوم لي في كلية سانت جون بلندن. عندما وصلت إلى هناك جاء متاعي الذي بلغ وزنه 40 كيلوجراما مع سائق سيارة أجرة من محطة سكة الحديد. وعندما وصل سألت البواب أن يساعدني، فأشار إلى عجلة وقال لي: ساعد نفسك. لا أروي هذه الأحداث لتزجية الوقت، ولكن الموضوع الذي نحن بصدده هو التعليم، وهذه الحكايات أصبحت جزءا من عملية العبور.

لعلكم تفكرتم في حقيقة أن هناك صلة أساسية بين انحطاط اقتصادنا وبين التعليم. إن التعليم المضلل والخاطئ بالأحرى هو أزمة قومية الآن. وأعتقد أن أمتنا تمر بأزمة خانقة سببها عدم تطوير نظام تعلیمي سليم. الهدف الأول من النظام التعليمي -في رأيي- أنه يطور وينمي شخصية المرء. فالشخصية التي تتربى أثناء سنوات الدراسة نادرا ما تتبدل في أيام حياته الباقية. وهنا لن أطيل الكلام حول موضوع شخصي، ولكن أشير إلى الجوانب القومية في نظام التعليم عندنا. لقد وهبنا الله تعالى حرية بعد ۲۰۰ عام من العبودية. ووقع هذا الحدث التاريخي منذ 40 عاما مضت، ولكننا حتى اليوم لم نغرس في طلابنا أي مشاعر من الانتماء والأخوة والوحدة وأننا أمة فريدة. حقيقة الأمر أننا يوم أن حققنا حريتنا كان ينبغي أن يكون الهدف الأول من نظامنا التعليمي هو تقوية إحساسنا بالانتماء والقومية. لقد تغيرت فكرة القومية بالتدريج في شتى المناطق من العالم .. ولكن في عالم اليوم يمكن أن نذكر أقطارا كثيرة يعتمد تماسكها والتحامها كأمة على النظام التعليمي فقط الذي اتخذوه لأنفسهم. خذوا مثلا الولايات المتحدة الأمريكية .. حيث تجد الألمان والإنجليز والإيطاليين والسويديين والفرنسيين يعيشون معة كأمة عظيمة. والسبب في أنني ذكرت أمريكا هنا .. أن الناس من هذه البلاد الأوربية بذلوا حياتهم أثناء الحرب العالمية من أجل ذاتية منفصلة. وشعب الولايات الأمريكية هؤلاء كانوا يتحدثون لغات مختلفة قبل أن يدخلوا أمريكا، وينتمون إلى ديانات مختلفة .. ولكن نظام التعليم الأمريكي صهرهم معا في أمة عظيمة فخورة بنفسها .. هي أمريكا. يتعرف الأطفال الأمريكيون في المدراس على الدستور الأمريكي. وتتردد أسماء الأبطال الشعبيين الأمريكان على الألسنة، ويسمع الأطفال ليل نهار لحن نشيدهم القومي. ويكتب الشعراء الأمريكان والكتاب الروائيون ما يكتبون بشكل يجعل كل ركن وكل شبر من أمريكا محببا للجميع. كل أمريكي يتعلم كيف يحب مدينته، ولذلك يعتبر كل مواطن أمريكي نفسه مواطنا في الآف المدن. لا يستشعر المواطن أي حنين أو عاطفة انتماء تجاه الأرض الأوربية البعيدة التي جاء منها. إنه يحس أن حياته ومعيشته اليومية تعتمد علي التربة الأمريكية، وأنه ينتمي لأمريكا فقط. إنه يكافح ليل نهار لتقدم ولايته أو مدينته التي يعيش فيها. وكل ذلك يتم من خلال المدراس والكليات والصحف والمجلات والتلفاز. إنها صرخة الحاجة الماسة العاجلة إلى أن يشجع نظامنا التعليمي بوعي هذا الشعور الحيوي للانتماء.

ومطلبي الثاني إليكم يتعلق بالتعليم وتشجيع العلم والتكنولوجيا. إن الهند وباكستان قطران متخلفان اقتصاديا. متوسط دخل الشخص يبلغ ۷۰ دولارا في السنة، وهو في أمريكا أكثر من ذلك ۵۰ ضعفا، وفي بريطانيا ۲۰ ضعفا، وفي اليابان ۱۵ ضعفا، وفي إيران وتركيا 8 أضعاف، وفي العراق والجزائر وسوريا ومصر 6 أضعاف ذلك. والسؤال الذي أطرحه الآن: لماذا نحن كأمة فقراء؟ أوافق معكم تماما أن البريطانيين سلبوا ثروتنا القومية خلال 100 عام حكموا فيها دلهي والبنجاب والسند وأعترف أن الأمريكان كانوا محظوظين لأنهم اكتشفوا قارة غنية بمواردها الطبيعية .. ولكن السؤال المطروح هو: كيف صرنا عبيدا للبريطانيين؟ لو أن البريطانيين قد عرفوا فن ركوب البحر ونحن لم نعرفه، فمن علمهم ذلك بادئ ذي بدء؟ ولو أن بنادق ومسدسات روبرت كليف ذات مهارة حرفية أعلى مما كان لدي الملك المسلم “سراج الدولة” لسألت: من علم البريطانيين فن صناعة بنادق أفضل؟ ألم يخترعوا هذا الفن بأنفسهم، تمكنوا منه وأتقنوه من خلال التعليم في بلادهم؟

في معركة “باني بات” الشهيرة .. انتصر ذلك اليوم الملك المسلم والفاتح الكبير “بابر” بسبب استخدامه البنادق الرومانية المتفوقة. لقد طور الروم الترك هذه البنادق بطرق أكثر حنكة بعد اختراعها عام ۱۰۲۹، ومع ذلك لم يحفل أبناء “بابر” بأن يدخلوا نوعا من المعاهد في الهند كي يزيدوا هذا الفن تطويرا وتحسينا. لو أنك زرت القسطنطينية استانبول اليوم .. لوجدت الفكرة التركية في بناء المسجد أن جانبا منه يكون مستشفى، وفي الجانب الآخر مدرسة. هذه المدرسة لم يكن الغرض منها تعليم الدين فحسب، بل بالأحرى تعلم فن صناعة المدافع كذلك. ولسوء الحظ أن هؤلاء الأتراك الذين أتوا إلى الهند ما كانوا مهتمين بتطوير التعليم والدراسة. لقد تركوا وراءهم ميراثا من المباني الفخمة والمقابر الممتدة على سبيل الذكرى.. ولكنهم للأسف لم يتركوا للناس مدارس أو معاهد في القارة الهندية.

دعوني أسالكم: لو أن الله تعالى وهب الشعب الأمريكي طعاما وافرا وقارة شاسعة.. ألم يكن ذلك نتيجة لعزمهم الذي ذهب بهم إلى أرض مجهولة عبر المحيطات؟ وإذا كانت الصناعة قد نالت شهرة عالمية، فكم منها راجع إلى نظامهم التعليمي ذي التصميم الجيد؟ إن ملائكة الله تعالى لا تتنزل على اليابان لتعلمهم التكنولوجيا الحديثة. كانت البضائع والمنتجات اليابانية تعتبر في يوم من الأيام ذات نوعية رديئة، ولكنها اليوم تعد نوعية متفوقة بالمعايير الفنية. هل تعلمون أنه عندما شرعت مصانع “لايلاند” البريطانية تصنع سيارات “ميني موريس” قامت اليابان بصنع سيارة صغيرة.. ولكن بدلا من أن يكون محركها سعة ۱۰۰۰ سم أنتجته بسعة 600 سم فقط ويعطي نفس القوة الحركية! كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ منذ ۲۰ عاما اخترع البروفسور الأمريكي الترانزستور وحصل على جائزة نوبل لهذا الاختراع الثوري. ولكي يتعرف اليابانيون على حقيقة وطبيعة هذا الترانزستور .. شرعوا يعملون في جامعة طوكيو على الفور، وأتت جهود اليابانيين ثمارها في زمن قصير حتى صاروا منذ ذلك الوقت سادة هذا المجال الالكتروني. إنهم لم يكتفوا باکتشاف فحسب .. ولكنهم نشروا سره في مجلة بحيث أن أي باكستاني أو هندي أو عربي أو إيراني يستطيع الانتفاع به إذا أراد أن يطور تكنولوجيا الترانزستور أكثر قليلا. أبطال المعرفة هؤلاء .. من هم على أي حال؟ هل تصدقون أن اليابانيين لم يكونوا يعرفون فن صناعة نعل الفرس؟ يقال إنه عندما وصل الأدميرال الأمريكي برسي إلى اليابان بأسطوله الكبير .. حاول اليابانيون سد الطريق أمامه إلى الميناء .. ولكن القصف المدفعي أجبرهم على إفساح الطريق لسفينته إلى المرفأ. وذات ليلة سُرق حصان من سفينة الأدميرال وأعيد في اليوم التالي. كان السر وراء هذه السرقة العجيبة أن اليابانيين أرادوا أن يروا نعل الحصان .. لأن علم المعادن عندهم لم يكن قد وصل إلى درجة تمكنهم من صنع نعل الحصان في اليابان .

ويعتبر موسم الامتحان في اليابان موسم الانتحار للطلبة اليابانيين لأن دخول الدراسات الأعلى عندهم يعتمد على نتائج امتحان القبول. ومستوى هذا الامتحان يبلغ حدة من الارتفاع بحيث لا يمكن لأطفال المدارس في أي مكان آخر من العالم أن يجلس إلى مثل هذه السلسلة الشاقة من الامتحانات في الفيزياء والكيمياء. وأثناء فترة الامتحان لم يسرب أحد قط محتوی ورقة الامتحان، ولم يحدث إضراب، ولم يحطم أحد نوافذ المباني التي تجري فيها الامتحانات. كل الأمة أباء وطلابا .. يستولي عليهم جنون الامتحان، ويتقبلون نتائجه بالأسلوب الياباني المعتاد.

وأثناء شهر سبتمبر حظيت بزيارة شعب الجمهورية الصينية . يدخل الطالب الصيني الصف الثامن أو المدرسة الوسطى وعمره 17 عاما. وفي سن ۱۷ ينتهي طريقه الدراسي. وتعادل مدارس الصف الثاني هذه الكلية المتوسطة في الهند وباكستان. والتعليم في هذه السنوات الخمس إجباري، ويلتزم كل طالب بدراسة ۱۲ موضوعا ليس منها شيء اختيارى وهي: التربية القومية، اللغة الصينية، لغتان أجنبيتان (إنجليزية أو روسية أو يابانية)، الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، علوم الأحياء، الزراعة، الجغرافيا، التاريخ، الفنون الدرامية الموسيقى، والأشغال اليدوية. على كل طالب أن يتم دراسة هذه المواد الإثنتي عشرة. وقد قر قرار رجال التعليم الصينيين على ضرورة أن يدرس كل طالب المواد العملية مع المواد الفنية.

وقد يظن أحد أنه نظرا لتدريس العلوم إجباريا فإن مستوى الطالب في سن 16 أو ۱۷ يكون أقل من مستوى تعليمنا المتوسط. ولكي أتعرف على الحقيقة بنفسي حضرت بعض حصص الرياضيات والفيزياء في إحدي مدراس الصين .. وقد أذهلني أن الطالب في سن 14 يدرس “أضرُب اللانهائية” .. وعندنا في الجانب الذي ننتمي إليه من هذا العالم يدرسونها في مستوي البكالوريوس .

ولقد صمم الشعب الصيني اليوم على إدخال كل تكنيك صناعي حديث في الصين. لقد بدأت حياتهم القومية بعدنا بسنتين .. ولكن تصميمهم وعزمهم أثمرا في الواقع. إنهم خلال الأربعين سنة تعلموا وحذقوا علوم الإلكترونيات حذقا تاما. وبدأوا سبك الحديد بطاقة 40 ألف طن في العام، ووصلوا اليوم إلى ۲۰۰ ألف طن كل عام. إنهم يستطيعون الآن صناعة معدات آلية معقدة . وكل طالب صيني يقضي يوما في مشغل مدرسته أو جامعته كي يتدرب على مهنته. وفي المدرسة المذكورة التي زرتها هناك طلبة أعمارهم بين 14 ، 16 يصنعون مكونات ترانزستورية. وهناك مجموعة أخرى تحضر خام كربونات البوتاسيوم إلى مطاحنه، ويعبئونه في زجاجات للأغراض التسويقية. وكان هناك مجموعة من الطلاب في سن ۱۲.. يصلحون أحذية زملائهم. قالت إحدى الفتيات في هذه المجموعة: ينبغي أن تنظروا إلى نوافذ حجرة معينة مزينة بالستائر. عندما بدأنا نتعلم إصلاح الأحذية أحس البعض بالخجل، ونفرُّ من إصلاح الأحذية ذات الرائحة. وللتغلب على هذه المشكلة غطوا النوافذ بالستائر وبالتدريج أخذوا يعتادون عليها ولم يعد بهم أي خجل. أرى أنه يجب على أطفال مدارسنا أن يكونوا منتجين أثناء سنواتهم الدراسية. جميع الطلاب والمدرسين في مختلف مدارس الصين وكلياتها وجامعاتها يقضون عطلات الصيف في المصانع والحقول بالريف .

ربما تظنون أني أبالغ قليلا في عرض الموقف، ولكن صدقوني لو أن أحدا أخبرني بأن قطرا شاسعا مثل الصين يتحرك بسهولة ونعومة كمحيط هادي ما صدقته. ومع ذلك كيف يمكنني إنكار ما لاحظته هناك بعيني رأسي؟ ليس مرة واحدة، بل ثلاث مرات زرت الصين .. ولا يزال من الصعب علي تصديق أن سبعمائة مليون إنسان يضحون برغباتهم الشخصية من أجل أمتهم. وفضلا عن ذلك جدلوا نفوسهم الشخصية وجعلوا منها نفسة قومية. كل شخص في هذا البلد الفسيح يعمل بلا ملل ليل نهار. لقد أتی على مدنهم حين من الدهر كانت مليئة بالأقذار والذباب، وكان في مدينة بكين قناة عرضها ۳۰ قدما تدعى بحر التنين .. تجري خلف القصر الملكي مباشرة، وتعج بالذباب وأقذار مقززة .. ولم تطهر ربما لمدة 300 عام. ولكن بكين اليوم واحدة من أنظف مدن العالم. ولا يعود الفضل في ذلك إلي الكناسين .. وإنما قام بتنظيفها المحامون والمعلمون والطلاب والسياسيون وأصحاب المحلات. قامت اتحادات الطلاب بهذه المهمة، والواقع أنهم كانوا في طليعة هذه الحركة.

حقا .. إن النظام الصيني هو العمل بطريقة فعالة .. لأنه نظام يقوم على المساواة. الوزير في الحكومة الصينية يذهب إلى مكتبه على دراجته، ويستعمل السيارة الرسمية فقط إذا كان سيقابل ضيفا أجنبيا. ونتيجة هذا السلوك المثالي أن الشعب الصيني مستعد للتضحية. والحق -مع ذلك- أن تصميم الأمة الصينية على تعلم التكنولوجيا لا علاقة له بهذا النظام نفسه.

أثناء حديثي عن الصين خرجت بعيدا عن موضوعي الرئيسي إلى حد ما. كنت أروي لكم أن الشعب البريطاني اخترع وأدخل تقنيات صناعية، وأنهم بذروها من خلال التعليم الصحيح المناسب. إذا كانت اليابان تستطيع تعليم المهارات لعمالها دون أن يكون لها مصادر طبيعية أو غير طبيعية، وإذا كانت الصين تعتبر مواطنيها عبيدا معنويين، ويتوقعون من كل طفل أن يتعلم نوعا من العلم أو المهارة ويعلمها للآخرين كذلك، وإذا كان كل هذه الأمم تسعى جاهدة للقضاء على الفقر من خلال هذه الوسائل .. أليس في ذلك درس لنا؟

قد يقول المرء أن الفقر نفسه خطر .. لأن الإنسان الجائع لا وقت عنده ولا ميل كي ينمي مواهبه الفكرية. وفي هذا الصدد لا أستطيع المعاونة. أذكر لكم واقعة حدثت في ألمانيا منذ حوالي أربعين عاما. ففي سنة 1947 كنت طالبا في جامعة كامبريدج، وكانت ألمانيا قد خسرت الحرب، وكانت الأمة الألمانية بأسرها تحس بتأثيرات محزنة من هذه الهزيمة الطاحنة. ودعت السلطة العسكرية الأمريكية طلبة من كامبريدج وجامعات أوربية أخرى لزيارة ألمانيا ومشاهدة مأزق الأمة الألمانية. وصل حوالي 500 طالب من شتى جامعات أوربا إلى “ميونخ”. لم يكن هناك مبنی واحد سليم في المدينة، وبدا كأن أهل ميونخ يعيشون في أعشاش الحمام.

كنا نقيم في خيام كبيرة داخل متنزه المدينة. وبلغني من بعضهم أن أحد الدارسين الألمان كان يبحث عني. ولقيته ذات يوم فرأيته هيكل إنسان. كان يخدم في معسكر حرب ألماني ضم بعض الأسرى من البنجاب (الهند) أيضا. كان يدرس اللغة البنجابية على يد هؤلاء الأسرى، وعلم منهم أني وصلت إلى المدينة. كان يعد قاموسا (ألماني – بنجابي) عام 1947، وكانت الكتب التي لديه هي: میر وارث شاہ ونسخة قديمة من “دلا بهاتي” مطبوعة في لاهور. ولما كان يلاقي بعض الصعوبة في فهم بعض الأشعار من هذه الكتب .. قرر أن يقابلني كي أشرح له بعض الفقرات الصعبة. ولسوء الحظ كانت هذه الفقرات صعبة أيضا علي .. فلم أستطع معاونته كثيرا.

الآن فكروا في هذه الواقعة للحظة. لا أعلم هل نُشر هذا القاموس أم لم ينشر. ولا كم من الناس انتفعوا به.. ولكن هذه قصة القوم المحبين للمعرفة.. الأمة التي جُل همِّها معرفة العلوم والتكنولوجيا واللغات. شعب هذا البلد العظيم يعرف أن تصنيف قاموس للألمانية والبنجابية – قد لا يكون مفيدا.. ولكنهم لا يضيعون وقتهم في لعب الورق أو السير في المظاهرات أو مشاهدة أفلام السينما التافهة. إنهم يعتبرون وقتهم خلال سنوات الجامعة ثمينا للغاية. فيتعلمون ويعلمون الآخرين. لعل في هذا أيضا درسا لنا.

وفي هذا الصدد أود أن أروي لكم قصة حكاها القائد الصيني العظيم “ماوتسي تونج” وستسمعونها دائما من لسان كل إنسان في الصين:

كان هناك رجل عجوز يعيش في شمال الصين، وكان اسمه السيد / أمِّي. كان منزله يواجه الجنوب، وأمامه جبلان عاليان هما “بانج ووانج”. اقترح الرجل على أولاده ذات يوم أن يشرعوا في حفر هذين الجبلين تمهيدا لنقلهما بعيدا عن البيت، فقال له جاره السيد / ذكي: أعرف أنك غبي عجوز، ولكن ليس إلى حد أن تزيل جبلين بالحفر اليدوي. أجاب الرجل العجوز: يا صديقي، إنك على صواب، ولكن تذكَّر أني عندما أموت سيقوم أولادي به. ثم إذا ماتوا يقوم أحفادي بالعمل.. وهكذا يستمر الحفر. هذه الجبال لن تزداد طولا، وكل يوم نحفر فيصغر حجمها، ونتعشم ذات يوم أن يزول هذا الإزعاج تماما من أمام المنزل. ولما سمع الرب حكاية الرجل العجوز أرسل ملكين فأزالا الجبلين في الحال!!

إن مجتمعنا مبتلىَ بمزعجات كثيرة كهذه الجبال فحاولوا أن تزيلوها من محيطكم بصبر ومثابرة. ولسوف ينظر الله تعالى إليكم برحمته يوما ما. لا تخافوا أن تضيع جهودكم بلا ثمر. ولكن استمروا في أداء عملكم.. ولا بد أن يبارك الله جهودكم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك