إبداعات أدبية خالدة

إبداعات أدبية خالدة

الإنسانية العامة

الجامعة الإنسانية هي الكلية العامة التي يلجأ إلى كنفها هذا المجتمع الإنساني كلما أزمته أزمة، أو نزلت به نازلة، وهي المطلع الذي يشرق منه شمس الرحمة الإلهية على هذا الكون فتنير ظلماءه، وتكشف غماءه، وهي الحكم العدل الذي يفصل في قضايا المجتمعات البشرية حين تنفصم عروتها، ويدب دبيب العداوة والبغضاء بين أحيائها، وهي السلطان المطلق الذي يجلس على كرسي عظمته وجلاله، فتخر له الجباه سجدًا، وتبتدر ليديه الأفواه لثمًا وتقبيلاً.

الجامعة الإنسانية هي الجامعة الأساسية الثابتة التي رأت طينة آدم أولاً، وسترى نفخة إسرافيل آخرًا والتي تسير مع الإنسان حيث سار في بره وبحره وسهله وحزنه وحياته وموته، وتدور معه حيث دار في إيمانه وكفره وصلاحه وفساده، واستقامته واعوجاجه، لا يتغير لونها ولا يتحول ظلها، ولا تستحيل مادتها، ولا تبلى جدتها على كر الليالي ومر الأيام.

ما من جامعة من الجامعات القومية أو الجنسية أو الدينية أو العائلية إلا وهي تعتمد على الجامعة الإنسانسة في سيرها وتستظل بظلها، وتهتدي بهديها، فالمجاهد الوطني يقول: إني أدافع عن وطني، وأحمي حوزته، وأقوم على ثغوره وعوراته مقام الذائد المناضل، لأني أعتقد أني إن أغفلت ذلك وأغفله في وطنه كل ممنو بمثل ما أنا ممنو به في وطني تساقطت الحواجز القائمة في وجه المطالع البشريه، فجرى سيلها مندفعًا لا يقوم له شيء حتى يأتي عليه، والمجاهد الديني يقول: إني أعتقد أن الإنسانية لا تزال معذبة يأكل قويها ضعيفها، ويغتال كبيرها صغيرها، ويستضعف حاكمها محكومها، حتى تدين بالدين الذي أدين به، فأنا إن حاربت البلاد، وقاتلت العباد، فإنما أريد بخوض هذا البحر الأحمر من الدماء أن أصل إلى سفينة الإنسانية المشرفة على الغرق فأستخلصها من يد الموت الذي يحيط بها. هكذا يقول دعاة الدين ودعاة الوطن، ودعاة كل جامعة، وهكذا يجب أن يقولوا، فإن يفعلوا، وأبوا إلا أن يغفلوا ذكر الجامعة الإنسانية في دعائهم إلى جامعتهم التي يدعون إليها، فسد عليهم أمرهم في كل ما يقولون وما يفعلون.

ليس لصاحب وطن من الأوطان، أو صاحب دين من الأديان أن يقول لغيره ممن يسكن وطنًا غير وطنه، وبدين غير دينه: أنا غيرك، فيجب أن أكون عدوك، لأن الإنسانية وحدة لا تكثر فيها ولا غيرية، ولأن هذه الفروق التي توجد بين الناس في آرائهم ومذاهبهم، ومواطن إقامتهم وألوان أجسادهم، وأطوالهم وأعراضهم إنما هي اعتبارات ومصطلحات، أو مصادفات واتفاقات، تعرض لجوهر الإنسانية بعد تكوينه واستتمام خلقه، وتتوارد عليه توارد الأعراض على الأجسام، ففي كل بلد، وفي كل عصر يستعجم العربي ويستعرب الأعجمي، ويسلم المسيحي ويتمسح المسلم، ويلحد المؤمن. ويؤمن الجاحد، ويستشرق المغربي، ويستغرب المشرقي، ولو شئت أن أقول لقلت أنه لا يوجد فوق رقعة الأرض من لا يزال يمسك حتى اليوم بطرف سلسلة، ينتهي طرفها الآخر بوطن غير وطنه، ودين غير دينه، وأمة غير أمته. إذا جاز لكم إقليم أن يتنكر لغيره من الأقاليم، جاز لكل بلد أن يتنكر لغيره من البلاد، بل جاز لكل بيت أن ينظر تلك النظرة الشزراء إلى البيت الذي يجاوره، بل جاز للأب أن يقول لولده، وللولد أن يقول لأبيه: إليك عني، لا تمد عينيك إلى شيء مما في يدي، ولا تطمع أن أوثرك على نفسي بشيء مما اختصصتها به، لأنني غيرك، فيجب أن أكون عدوك المحارب لك، وهناك تنحل كل عقدة وتنفصم كل عروة، ويحمل كل إنسان لأخيه بين أضلاعه من لواعج النغض والمقت ما يرنق عيشه، ويطيل سهده، ويقلق مضجعه ويحبب إليه صورة الموت، ويبغض إليه وجه الحياة، وهنالك يصبح الإنسان أشبه شيء بذلك الإنسان الأول في وحشته وانفراده، يقلب وجهه في آفاق السماء، وينبش بيديه طبقات الأرض فلا يجد له في الوحشة مؤنسًا، ولا على الهموم معينًا. الجامعة الإنسانية أقرب الجامعات إلى قلب الإنسان، وأعلقها بفؤاده، وألصقها بنفسه، لأنه يبكي لمصاب من لا يعرف – وإن كان ذلك المصاب تاريخًا من التواريخ أو أسطورة من الأساطير، ولأنه لا يرى غريقًا يتخبط في الماء، أو حريقًا يتلظى في النار، حتى تحدثه نفسه بالمخاطرة في سبيله، فيقف وقفة الحزين المتلهف إن كان ضعيفًا، ويندفع إندفاع الشجاع المستقتل إن كان قويًا ويسمع وهو بالمشرق حديث النكبات بالمغرب فيخفق قلبه وتطير نفسه لأنه يعلم أن أولئك المنكوبين إخوانه في الإنسانية، وإن لم يكن بينه وبينهم صلة في أمر سواها، ولولا أن ستارًا من الجهل والعصبية يسلبه كل يوم غلاة الوطنية والدين أو تجارهما على قلوب الضعفاء السذج، لما عاش منكوب في هذه الحياة بلا راحم  ولا ضعيف بلا معين.

لا بأس بالفكرة الوطنية، ولا بأس بالحمية الدينية، ولا بأس بالعصبية لهما، والذود عنها، ولكن يجب أن يكون ذلك في سبيل الإنسانية وتحت ظلالها، أي أن تكون دوائر الجامعات كلها داخلة في دائرة الإنسانية العامة غير خارجة عنها، والوطنية لا تزال عملاً من الأعمال الشريفة المقدسة حتى تخرج عن حدود الإنسانية، فإذا هي خيالات باطلة وأوهام كاذبة، والدين لا يزال غريزة من غرائز الخبر المؤثرة في صلاح النفوس وهداها حتى يتمرد على الإنسانسة وينابذها، فإذا هو شعبة من شعب الجنون. فإذا كان لا بد للإنسان من أن يحارب أخا أو يقاتله، فليحاربه مدافعًا لا مهاجمًا، وليقاتله مؤدبًا منتقمًا، وليكن موقفه أمامه في جميع ذلك موقف العادل المنصف، والشفيق الرحيم، فيدفنه قتيلاً، ويعالجه جريحًا، ويكرمه أسيرًا، ويخلفه على أهله وولده بأفضل ما يخلف الرجل الكريم أخاه الشقيق على ولده من بعده، وليكن شأنه معه شأن تلك الفئة المتحاربة التي وصفها الشاعر في قوله:

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

(النظرات، الجزء الثاني)

Share via
تابعونا على الفايس بوك