الإستفتاء

 

يا علماء الإسلام، وفقهاءَ ملّة خير الأنام، أفتُوني في رجلٍ ادّعى أنّه من الله الكريم، وهو يُؤمن بكتاب الله ورسوله الرؤوف الرحيم. وأرى الله له أمورًا خارقةً للعادةِ، وأظهر الآياتِ المُنيرةَ وعجائب النُصرة. وظهر في زمنٍ هو من الدّين كالعُريان، وعلى صدر الإسلام كالسِّنانِ، وعلماءُ الوقت كرجُلٍ رِجْـلاه تتخاذلان، وخرج القساقسة فيه كبطل له سهْمانِ: سهم يذلّقونه ليجرّحُوا به ملّة الإسلام بالأكاذيب وأنواع البهتان، وآخر يفوّقونه ليُدخلوا به الناس في أهل الصُّلبان. وتجدونهم كذئب عاث، أو لِصٍّ ينهب الأثاث. وليس عندهم إلا النقول، وما لا تقبله العقول. وليس عماد دينهم إلا خشب الكفّارة، وقد فُتح به كلّ باب للنفس الأمّارة. فهل أوحش وأفْحش من هذه العقيدة، وأبْعد من قبول الطبائع السعيدة؟ ثم يسبّون دين الله وخيرَ الأنام، وهذا أشدّ المصائب على الإسلام. والدّين الذي قائم على خشبٍ لا حاجة إلى تحقيقه، ولا يهدي العقل إلى تصديقه، بل تعافه فطرة طيّبة، وتفرّ من هذا الحديث، وتُطلّق بطلاقٍ ثلاثٍ مذهبَ التثليث. وأما صعود عيسى ونزوله فهو أمر يكذّبه العقل وكتاب الله القرآن، وما هو إلا كتَعِلَّةٍ تُنام بها الصبيان، أو كالتماثيل التي تلعب بها الجواري والغلمان. ما قام عليه دليل وما شهد عليه برهان.

فخلاصة الكلام أنّ هذا المدّعي ظهر في هذه الأيام، عند كثرة الفتن وكثرة البدعات وضعف الإسلام. وما وُجد في أحواله قبل هذا الدعوى شيء من عادة الكذب والافتراء، لا في زمن الشيب ولا في زمن الفتاء. وما وُجد في عمله شيءٌ يخالف سنّة خير الأنبياء، بل يؤمن بكلّ ما جاء به الرسول الكريم من الأحكام والأَنباء، وبكلّ ما ثبت من نبيّنا سيّد الأتقياء. وإنه من أُسَاة الهوى، وقد أسا جُرْحَ الذنوب وداوى، وجاء ليُؤسّي بين الورى، ويوصل بالأُمّة الآخرة أممًا أولى. ولو بغيتَ له الأُسَى، لوجدت فيه أُسوة المصطفى، يقتدي به في كلّ سُنن الهُدى.

وسعَى العدا كلّ السَّعْي وسقطوا عليه كالبلاء، وتقصّوا أمره بكل الاستقصاء، ليجدوا فيه نقصًا أو يَعْثِرُوا على قولٍ منه فيه مخالفة الملّة الغرّاء، وخاضوا في سوانحه من مقتضى البغض والشحناء. فما وجدوا مع شدّة عداوتهم سبيلاً إلى القدْح والزرْي والازدراء، ولا طريق عمل يُحْمَل على الأغراض والأهواء.

وكان في أوّل زمنه مستورًا في زاوية الخمول، لا يُعرف ولا يُذكر، ولا يُرجى منه ولا يحذر، ويُنْكر عليه ولا يوقَّر، ولا يُعَدّ في أشياءٍ يُحدَّث بها بين العوام والكُبراءِ، بل يُظَنّ أنه ليس بشيءٍ، ويُعرَض عن ذكره في مجالس العقلاء. وبشّره ربّه في ذلك الزمن بأنّه معه وأنه اختاره، وأنه أدخله في الأحبّاء. وأنّه سيرفع ذكره، ويُعْلي شأنه، ويعظّم سُلطانه، فيُعرَف بين الناس، ويُذكَر في مشارق الأرض ومغاربها بالذكر الجميل والثناء. وتُشاع عظمته في الأرض بأمر ربّ السماء، ويُعان من حضرة الكبرياء. وتأتيه من كلّ فجٍّ عميق أَفواجٌ بعد أفواجٍ، كبحرٍ موّاجٍ، حتى يكاد أن يسأم من كثرتهم، ويضيق صدره من رؤيتهم، ويروعه ما يروع العايلَ المعيّل عند كثرة العيال وحمل الأَعباء وقلّة المال. ويفارق الناسُ أوطانهم، ويُوطِنون قريته بما جذب الله إليه جَنانهم، فيتركون للقائه ملاقاة الرفقاء، وتتّقد لصُحبته الأكبادُ، ويرقّ برؤيته الفؤاد، وتحفِد في أثره العباد، بكمال الصدق والإخلاص والصفاء، ويؤثرون له أنواع البلاء. ومنهم يكون قومٌ يقال لهم أصحاب الصفّة، يَسْكُنون في بعض حجراته كالفقراء. تذوب أهواؤهم، وتجري قلوبهم كالماء. ترى أعينهم تفيض من الدمع بما يعرفون الحقّ وبما يرون أنوار السماء. يقولون ربّنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان، ويبكون لذاذة ووجْدًا شديدًا كالعُرفاء. وبما أوجدهم الله مطلوبهم يشكرون وتخرّ أرواحهم على حضرة الكبرياء.

وكذلك تأتي لهذا العبد من كلّ طرفٍ تحائفُ وهدايا وأموال وأنواع الأشياء. ويعطيه ربّه بركةً عظيمة، ونفسًا قاهرة، وجذبًا شديدًا، كما قُدّر له من الابتداء. فتحفد الناس إلى بابه، والملوك يتبرّكون بثيابه، ويرجع إلى حضرته طوائف الملوك والأمراء.

وتقوم أناسٌ من كل قومٍ لعداوته، ويجاهدون من كلّ الجهة لإجاحته، ويمكرون كلّ المكر ليطفئوا نوره، وليكتموا ظهوره، وليحقّروا شأنه، وليزيّفوا برهانه، أو يقتلوه، أو يصلّبوه، أو ينفوه من الأرض، أو يجعلوه كبني الغَبراء، أو يجرّوه إلى الحكّام بوَشْي الكلام وبتلوينه وتزيينه ببعض التّهم والافتراء، أو يؤذوه بإيذاءٍ هو فوق كلّ نوع الإيذاء. فيعصمه الله من مكائدهم بفضلٍ من السماء، ويُقلِّبُ مكرهم عليهم ويُخْزِيهم، فيَرْجِعون خائبين خاسرين، كأنّهم ليسوا من الأحياء. ويُتمّ الله عليه ما وعد من النعم والآلاء. ولن يُخلف الله وَعْدَه لعبده ولا وعيده للأعداء. ذلك من أنباء الله التي أوحى إلى هذا العبد قبل وقوعها، وهي كُتبتْ وطُبعتْ وأشيعتْ في البلاد وفي الأداني والأمراء، وأرسلتْ إلى أقوام وديارٍ، وجُعل كلّ قوم عليها كالشهداء. وإنها أشيعتْ في زمن مضى عليه سِتّ وعشرون سنةً إلى زمننا هذا، ولم يكنْ في ذلك الوقت أثر من نتائجها وما عثر على وقوعها أحد من أهل الآراء، بل كان كلّ رجل يستبعد وقوعها، ويضحك عليها، ويَحسبها افتراءً، أو من قبيل حديث النفس بمقتضى الأهواء، أو من وساوس الشيطان لا من حضرة الكبرياء. وإن هذه الأنباء مرقومة في البراهين الأَحْمديّة، ومندرجة في مواضعها المتفرّقة، التي هي من تصانيف هذا العبد في اللسان الهندية، ومَن شكّ فيها فليرجعْ إلى ذلك الكتاب، وليقرأْها بصحّة النيّة، وليتّق الله، وليفكّرْ في عظمة هذه الأخبار، وجلالة شأنها وعلُوّ برهانها، وبُعدها عن هذا الزمان، وبريقها ولمعانها. وهل لأحد قوّة أن ينبئ كمثلها من دون إعلام عالِمِ الأشياء؟ وإنها أنباء كثيرة، منها ذكرْنا ومنها لم نذكر، وكفى هذا القدر للأتقياء، الذين يخافون الله، وإذا وجدوا حقًّا وجلتْ قلوبهم ولا يمرّون عليه كالأشقياء، ويقولون ربّنا آمنّا فاكتبْنا في عبادك المؤمنين وفي الشهداء.

ثم اعلموا، رحمكم الله، أن زمن هذه الأنباء كان زمنًا لم يكنْ فيه أثر من ظهورها، ولا جلوة من نورها، ولا باب إلى مستورها، بل كان الأمر أمرًا مخفيّا من الأعين والآراء، وكان هذا العبد مستورًا في زاوية الاختفاء، لا يعرفه أحد إلا قليل من الذين كانوا يعرفون أباه في الابتداء. وإن شئتم فاسألوا أهل هذه القرية التي تُسمَّى “قاديان”، واسألوا مَن حولها مِن قرى المسلمين والمشركين والأعداء. وفي ذلك الوقت خاطبه الله تعالى وقال: أنت مني بمنـزلةِ توحيدي وتفريدي. فحان أن تُعان وتُعرَف بين الناس. يأتون مِن كلّ فجٍّ عميق. يأتيك مِن كلّ فجٍّ عميق. ينصرك رجال نوحي إليهم من السماء. إذا جاء نصر الله وانتهى أمر الزمان إلينا. أليس هذا بالحقّ. ولا تصعِّرْ لخلق الله، ولا تسأمْ من الناس. ووَسِّعْ مكانك للواردين من الأحبّاء. هذه أنباء من الله مضى عليها ستّ وعشرون سنة إلى هذا الوقت من وقت الإيحاء. وإنّ في ذلك لآية للعقلاء. (الإستفتاء)

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك