العرفان الإلهي أسمى حقوق  الإنسان

العرفان الإلهي أسمى حقوق  الإنسان

التحرير

  • كيف أصلت أركان الإسلام وشريعته للكرامة الإنسانية؟
  • أية علاقة بين العرفان وكرامة الإنسان؟

 ___

لكل شيء في هذا الكون غاية وُجِد لأجلها، وما لم تكن للشيء غاية محددة سلفا لا يكون لوجوده أي معنى، بل وجوده وعدمه سيّان. فإذا ما طبقنا هذه الفكرة على الوجود الإنساني توصلنا حتما إلى غايته المُجمَلة في قول الله تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (1)

والعبادة في فلسفة تعاليم الإسلام شطران: توحيد الخالق، ومواساة الخلائق. والمواساة التي نعنيها بتعبير آخر هي أداء حقوق العباد.. ومن دواعي اعتزاز المسلمين أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تُعنى شريعته الغراء بحقوق كل الخلائق على الإطلاق، فلا يناوحه أي قانون سماوي سابق أو وضعي لاحق. وما أنْ يقرأ أو يسمع شخص منصف ومحب للعدل تفاصيل هذه الحقوق، سرعان ما يتجلى له جمال تعاليم الإسلام باديًا للعيان.

وفي معرض تقديم مزايا التعاليم الإسلامية ينطلق المسيح الموعود من هذه الآية الكريمة مبينا أن الإنسان قد خُلق من أجل غاية سامية، هي معرفة خالقه والتصبُّغ بصبغته، أي التخلق بأخلاقه، والتشبه بصفاته على نحو ظليًّا. فالله الذي حباه من بين كافة المخلوقات بأسمى الملكات العقلية والروحية هو الذي قدر لحياته تلك الغاية.

وكرامة الإنسان تُعَدُّ من أسمى المبادئ التي حث الدين الحنيف على رعايتها، بوصفها لبَّ وجوهر إنسانيته، فكان التكريم الإلهي لهذا المخلوق إشارة واضحة إلى ما يحمله من كرامة.. قال تعالى:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (2)

ولم يتوقف تكريم البارئ للإنسان عند هذا الحد، بل شرفه بأعلى مراتب التكريم وقلده وسام تمثيل سلطته الروحية على الأرض فقال:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (3)

وفي كنف عبودية الإنسان لخالقه جعلته المبادئ الإسلامية سيد نفسه، فهو مخلوق مكرم، استخلفه الله في الأرض ليعبده بأنواع الطاعات والعبادات في كل الأحوال، بجوارحه وقلبه وضميره. وهكذا يستمد إحساسه العميق بالكرامة، وشعوره بالاعتزاز والطمأنينة، فلا إكراه في الدين، ولا إجبار على اعتناق فكرة أو اعتقاد، ليكون اختيار الإيمان بمحض الحرية والارتياح، ليبلغ المرء مقام عرفان الله تعالى وهو بكامل كرامته الإنسانية وقواه العقلية والروحية.

وأركان الدين الإسلامي الخمسة كلها تكريس لتمكين كرامة الإنسان على وجه الأرض، فالشهادتان إقرار باللسان عما وقر في الجنان من توحيد الله واتباع للأسوة الحسنة. وإقامة الصلاة احترام للصلة القائمة بين العبد وربه، بما يحفظ للعبد كرامته. وإيتاء الزكاة تطهير للعبد من أدران ومتعلقات الدنيا، ليصبح متاعها مجرد وسيلة تخدم الإنسان، لا صنما يُعبد، وصيام رمضان فيه اتصاف ظلي للعبد بصفة الصمدية، فيكون متخلقا بأخلاق الله. وحج الناس بيت الله على اختلاف طبائعهم وآرائهم وألوانهم وأجناسهم هو ذروة مظاهر إعلان كرامة الإنسان، فيكون الحج كقصد أبناءٍ شتَّى بيتَ أب واحد، دون أن ينفرَ أحدُهم من الآخر أو يزدريَه.. أركان الإسلام إذن كلها تكريس لتمكين كرامة الإنسان المؤدية إلى العرفان الإلهي. وهكذا فإن الإسلام هو غارس الكرامة الإنسانية، بما جاء به من مبادئ سامية ترعى كرامته، وتنزله المنزلة التي أنزله الله إياها مكرما مكفول الحقوق المدنية والشرعية.

والتوحيد من المنظور الإسلامي ليس تحقيقا لمصلحة إلهية، فالله تعالى غني عن إيمان الناس وتوحيدهم، بل المستفيد الأول هو نحن، وإيماننا وتوحيدنا فيه صيانة لكرامتنا، الأمر الذي يصوره المثل القرآني أجمل تصوير، حيث يقول عز وجل:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (4)                   

زبدة الكلام أن التعاليم الإلهية تُؤصِّل لحفظ الكرامة الإنسانية، ويأتي الإسلام على ذروتها مقدما كنز العرفان الإلهي بوصفه أسمى حقوق الإنسان، والتي سيتم النص عليها عاجلا أو آجلا في المحافل العالمية لا محالة.

أركان الإسلام إذن كلها تكريس لتمكين كرامة الإنسان المؤدية إلى العرفان الإلهي. وهكذا فإن الإسلام هو غارس الكرامة الإنسانية، بما جاء به من مبادئ سامية ترعى كرامته، وتنزله المنزلة التي أنزله الله إياها مكرما مكفول الحقوق المدنية والشرعية.

وفي عدد هذا الشهر نوفمبر 2023 يشغل موضوع العرفان الإلهي حيزا واسعا، إذ تعرضه صفحات التقوى هذه المرة في علاقته الوطيدة بحقوق الإنسان، بحيث يصل القارئ في النهاية إلى أن العرفان أسمى حقوق الإنسان على الإطلاق، إذ لا تتحقق دونه كرامة الإنسان وغاية وجوده كما أسلفنا القول. ففي هذا العدد باقة مواضيع متكاملة ترتكز على فكرة كرامة الإنسان وحقه في الاختيار والاعتقاد، فتسبر خطبة حضرة أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره العزيز سر نَمَاءِ جَمَاعَةِ المُؤْمِنِينَ بِرَغْمِ مَكَائِدِ المُعَارِضِين. ثم هناك مقال يعرض قراءة في كتاب «العرفان الإلهي» بوصفه ذروة سنام حقوق الإنسان وأثمن كنوزه.. ندعو الله تعالى أن يوفقنا لصيانة كنزنا هذا واستثماره الاستثمار الأمثل، آمين.

الهوامش:

  1. الذاريات: 58)
  2. (الإسراء: 72)
  3. (البقرة: 32)
  4. (الزمر: 31)
Share via
تابعونا على الفايس بوك