معنى تتميم مكارم الأخلاق في ضو كتاب فلسفة تعاليم الإسلام

معنى تتميم مكارم الأخلاق في ضو كتاب فلسفة تعاليم الإسلام

عائشة عودة

  • ما هي حالات النفس الثلاث؟
  • ما هي المعجزة النبوية الحقيقية فيما يتعلق بإصلاح النفس؟

___

ليس من قبيل الصواب القول بأن الدنيا كانت خلوا من الأخلاق قبل بعثة سيدنا خاتم النبيين ، بل قد عُرفت أخلاق حميدة حتى في زمن الجاهلية، وعُرف بهذه الأخلاق الحميدة أناس خلد الله تعالى ذكرهم بهذه الأخلاق، فحيث ذُكرت ذُكروا. وقد أقر النبي فكرة وجود الأخيار حتى قبل بعثته المباركة. وذات يوم سُئل :

مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟! قَالَ: أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ. قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ، نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟! قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» (1).

إذن يتضح من هذا الحديث النبوي أن النبي يقر بفكرة أن يكون في زمن الجاهلية أناس ذوو أخلاق حسنة ومناقب كريمة، وهل أدل على ذلك من امتدحه أناسا بعينهم عاشوا في زمن الجاهلية قبل أن تدركهم رسالة الإسلام ببعثة خير الأنام؟! ألم يمتدح الذي عاش في زمن الجاهلية؟!

وذُكر أنه قال عشية يوم بدر في الأسارى:

“… لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ.” (صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس)

ثم هناك قصة مشهورة لصحابية وقعت لها مع رسول الله ، إنها سفانة بنت حاتم الطائي ، والتي نطيل الحديث عنها إكراما لها أولا لكونها صحابية، وثانيا إكراما لسيرة أبيها الذي خُلِّد ذكره لكرم خُلقه.

فمما جاء في روايات السيرة أن النبي بَعَثَ في ربيع الآخر من السنة التاسعة من الهجرة النبوية عليًّا بن أبي طالب في خمسين ومائة رجل من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفُلْس (صَنَم طيْئ) فيما عُرِف بسرية طيّىء، فشنُّوا الغارة مع الفجر، فهدموا الفُلْس وحرقوه، ورجعوا ومعهم الكثير من السَبْي والنَّعم والشاء، وفي السبي سُفَّانة بنت حاتم الطائي، أما أخوها عدي فقد فر ملتجئا إلى الشام.

فجُعِلت بنت حاتم (سفانة) في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يُحْبَسْن فيها، فمرَّ بها رسول الله ، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ من الله عليك، قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله وتركني، حتى إذا كان من الغد مرَّ بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست منه، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، فقال : قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني (أخبريني)، فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه فقيل: علي بن أبي طالب، وأقمت حتى قدم ركب من بِلى أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، قالت: فجئت رسول الله فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني رسول الله ، وحمَّلني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام».

فها هو النبي الخاتم يكرم أناسا إكراما لأسلافهم الذين عُرفوا بالفضل، وهذا تصرف لا ينم إلا عن حسن الخلق وطيب النفس، أما أصحاب الطباع الخسيسة فيسوؤهم ذكر الأخيار في مجالسهم الخبيثة.

معنى بعث النبي متمما مكارم الأخلاق

لقد ألقى سيدنا المسيح الموعود الضوء على هذا الأمر فقال: «لقد بيَّنت آنفا أن للحالات البشرية ثلاثةَ منابع: هي النفس الأمارة؛ والنفس اللوامة؛ والنفس المطمئنة. وكذلك للإصلاح طرق ثلاث.

الطريق الأول: هو النهوض بالمتوحشين الهمج إلى مبادئ أخلاقية، وذلك بأن يسلكوا طريق الإنسانية فيما يتعلق بآداب الأكل والشرب والزواج وما شابه ذلك من أمور التمدن البسيط.. فلا يمشون عراة، ولا يأكلون الميتة كالكلاب، ولا يأتون غير ذلك من أفعال الهمجيّة. وهذه أدنى مرحلة من مراحل إصلاح الحالات الطبْعية…

الطريق الثاني: هو أنه إذا تمكنَ أحدٌ من تعلم الآداب الإنسانية الظاهرية فسيُعَلَّم ما فوقها من الأخلاق الإنسانية الفاضلة، ويدرب على استعمال قواه الكامنة في مواضعها الملائمة.

الطريق الثالث: هو أن هؤلاء المتحَلّين بالأخلاق الفاضلة – وإن كانوا لا يزالون زُهادا ذوي جفاف روحاني – يجب أن يُسقَوا رحيق المحبة ويُذاقوا لذة الوصال. هذه هي المدارج الثلاثة من الإصلاح التي بيَّنها القرآن المجيد.»(2)

فتتميم مكارم الأخلاق الذي بعث النبي لأجله من معانيه الوصول بالنفس الإنسانية إلى أعلى درجات الإصلاح، وهي الحال الثالثة من حالات الإصلاح التي بيَّن المسيح الموعود تفصيلها في كتاب «فلسفة تعاليم الإسلام».

المعجزة الحقة هي التحلي بالأخلاق الفاضلة

لقد كثر الحديث عن معجزات النبيين، وأغلب ما قيل فيها يندرج تحت الخوارق المادية التي انقضى أثرها ولم يعد لها أي وجود أو تأثير. كذلك كثر الحديث عن معجزات سيدنا محمد وكراماته بوجه خاص، وكتب السيرة والأخبار ملأى بتلك التفاصيل، غير أن النزر اليسير تحدث عن أخلاقه الرفيعة، وكيف أن أخلاقه العظيمة تلك فعلت ما لم تفعله جحافل الجيوش الجرارة، وبقيت آثار تلك الأخلاق إلى يومنا هذا، نشاهدها بأم أعيننا فتطمئن قلوبنا لمستقبل هذا الدين.

فها هو النبي الخاتم يكرم أناسا إكراما لأسلافهم الذين عُرفوا بالفضل، وهذا تصرف لا ينم إلا عن حسن الخلق وطيب النفس، أما أصحاب الطباع الخسيسة فيسوؤهم ذكر الأخيار في مجالسهم الخبيثة.

أخلاق النبي تصديق لأخلاق من خلوا من النبيين

لقد تحلى بالأخلاق في زمن الشدائد فصبر صبرًا حيَّر العالم، ولما نال الحكم على العرب كلهم عفا عن كل أولئك المسيئين إليه، فلم يدلل بفعله هذا على صدقه وحسب، بل دلل كذلك على صدق من خلوا من النبيين قبله. ألم ينقل عن السيد المسيج الناصري قوله:

«أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ»؟!(3)

بلى، قالها المسيح الناصري ثم لم تُسجِّل سيرته موقفا حيًّا أحب فيه المسيح الناصري أعداءه أو بارك فيه لاعنيه أو أحسن إلى مبغضيه.. لا نقول بأن حضرته قال ما لم يكن يفعل، والعياذ بالله، بل نقول بأنه قدَّم وصايا طيبة لم تتسن له الفرصة ليقدم تطبيقها العملي، فكان صدقه وصدق غيره من النبيين السابقين على المحك، إلى أن أُرسل إلى هذا العالم مبعوث العناية الإلهية، محمد المصطفى الذي جاء مصدقا لما بين يديه، من تعاليم الوحي السابق، وتعاليم النبيين السابقين، قال تعالى:

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (4)

فهذه هي المعايير الحقيقية للأخلاق التي يجب على المسلم الحقيقي المؤمن بالنبي حقًا أن يضعها في الحسبان دائما وأن يتحلى بها دوما. لقد أرشدنا إلى ذلك المسيح الموعود وقال عن أخلاق النبي : إن هذه الأخلاق الفاضلة أسرت الناس في حبه وأرت معجزة. ثم يقول لنا المسيح الموعود  : “لو حسّنتم أخلاقكم متأسين بهذه السنة النبوية وتحليتم بكل خلق في محله المناسب لصرتم من الذين يُرون المعجزات. الخوارق يقلل من شأنها الناس بتقديم شتى الأعذار ويحاولون التهرب من تصديقها، ولكن تحلي المرء بالأخلاق الفاضلة كرامة لا يمكن أن يطعن فيها أحد، ومن أجل ذلك فإن أكبر وأقوى إعجاز أُعطيَه نبينا هو إعجاز الأخلاق كما قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (5) لا شك أن خوارق النبي بكل أنواعها هي الأقوى ثبوتا ودليلا من معجزات كل الأنبياء عليهم السلام، إلا أن معجزة أخلاقه هي في المقام الأول بحيث لم ولن يقدم تاريخ العالم نظيرًا لها. ويقول : أرى أن الذي يُقلع عن أخلاقه السيئة وعاداته الذميمة ويتحلى بالخصائل الحسنة فهذه كرامة له. إنها لكرامة جد عظيمة تطهركم من الرذائل. فمثلا إذا كنت عصبيا سريع الغضب، وتركت هذه العادة القبيحة وتحليت بالحلم والعفو، أو إذا تحليت بالسخاء بدلاً من البخل، أو تخلقت بخلق المواساة مكان الحسد، فلا شك أنها كرامة منك. أي إذا كان المرء قاسي الطبع عصبيا، فترك هذه العادات المذمومة واتصف بصفات اللين والرفق والعفو، أو ترك البخل وصار سخيا، أو تحلى بالمواساة بدلاً من أن يحسد الناس ويمسك يده عند الإنفاق عليهم، فلو قام بهذا التغيير الطيب فهذه كرامة منه، وسوف تظهر نتائجها. كذلك لو ترك المرء العُجب والاعتداد بالنفس وتحلى بالتواضع والحلم فهذه أيضا كرامة منه. (أي لو تركت مدح نفسك أو لم ترغب في مدح الناس لك وتواضعتَ لكان هذا كرامة منك).ثم يقول حضرته: فمن منكم لا يريد أن يكون من أهل الكرامات. أعلمُ أن كل واحد يريد ذلك. إن هذه كرامة دائمة وخالدة. على المرء أن يصلح أخلاقه، لأن هذه كرامة لا يزول أثرها أبدا، بل نفعها طويل المدى. على المؤمن أن يصير صاحبَ كرامة عند الخَلْق والخالق. لقد كان هناك كثير من الفساق المستهترين الذين لم يقتنعوا برؤية آيات خارقة، لكنهم لم يجدوا مناصًا عند رؤية الأخلاق الفاضلة من الخضوع والإقرار والاقتناع. ستجدون في سوانح كثير من الناس أنهم لم يدخلوا في دين الحق إلا برؤية الكرامات الأخلاقية.

الهوامش:

1. (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء)

2. مرزا غلام أحمد القادياني، فلسفة تعاليم الإسلام ص 24 و25

3. (إِنْجِيلُ مَتَّى 5 : 44-45)

4.(فاطر: 32)

5. (القلم 5)

Share via
تابعونا على الفايس بوك