القضية الفلسطينية مرآة لضمير العالم

القضية الفلسطينية مرآة لضمير العالم

التحرير

  • المعاناة الفلسطينية بلغت أوجها بما يبشر بقرب الخلاص.
  • ما الخطأ الجسيم الذي وقع فيه المجتمع الغربي حيال الأزمة؟

___

غير خاف علينا ما للقضية الفلسطينية من أهمية منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، ليس فقط على الصعيد الإقليمي العربي والإسلامي، بل على الصعيد العالمي ككل، كونها أحد دواعي الصراع المتخذ من العقائد الدينية والادعاءات التاريخية وقُودًا يُطيل من أمد اشتعاله مهددا بذلك حال السلم العالمي.

دعونا نُضرب عن الانصات لأقاويل السياسيين ولو مرة، فلطالما ضربت القوى الكبرى بقرارات الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية عرض الحائط في مناسبات عديدة، متذرعة، بما أسمته «حق الفيتو»، وما هو إلا باطل تتلاعب به أطراف ظلمًا وعدوانًا. وإلا فأي حق هذا الذي يخول قتل الأبرياء بجريمة لم يكونوا طرفا في ارتكابها من بعيد أو قريب.

وبوصفنا مسلمين نعيش ضمن محيط ملاصق فكريا للأحداث الراهنة، قد يرمينا البعض في الغرب بالتحيز، فنقول لهم ما أُمرنا بقوله في مثل هذه الظروف:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون (1)..

فما تلك الكلمة السواء التي يُجمِع عليها العالم في هذا السياق؟! أليست هي حرمة الدماء، لا سيما دماء الأبرياء من المدنيين العزل، شيوخًا وأطفالاً ونساء؟!

لقد ضمنت المحافل الدولية حُرمة دم المحارب الأسير التي تحميها اتفاقيات كاتفاقية “جِنِيف” وغيرها، فما لها تعجز عن المناداة بحرمة دم العزَّل في بعض بقاع الأرض؟! أفلو كان ضحايا القصف بضع عشرات من أي مدينة عريقة في العالم الغربي أكان الغرب يبقى صامتًا لا يحرك ساكنًا؟! فما لإعلام الغرب لا يرى في ضحايا القصف الإسرائيلي لأهل غزة سوى رقما إحصائيا؟!

وعلى هامش هذه الأحداث المثيرة للسخرية والضحك، تنطلق تساؤلات حالمة منشؤها اليأس من العقل الإنساني الحديث، هذا العقل الذي تعددت معايير حكمه وقياسه على القضايا المتشابهة، فهو يكيل في كل قضية بمكيال لا يراعي فيه إلا مصلحة الأنا والحلفاء ولا ينساق إلا لخبيث الأهواء، فهل تعالج أدوات الذكاء الاصطناعي ما أفسدته أهواء العقل الحديث وعواطفه الهوجاء؟!

إن المفارقة العجيبة في الوضع الراهن أن القوة الضاربة هنا يُفترض أنها تستند إلى مرجعية عَقَدِّية قد سُجِّل فيها أن:

مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا … (2).

وفي إطار الحديث عن الضحايا لا يسعنا أن نغفل عن ذكر الأطفال، فوفق أحد تقارير “اليونيسيف” الكثيرة بشأن غزة منذ عامين يظهر أن «الأطفال هم من يتحملون وطأة العنف في غزة»(3)، ومعاناتهم في الأحداث الأخيرة لن تُمحى من ذاكرتهم للأبد، فعندما يرى طفل صغير أو مراهق بأم عينيه أنه حُرم من ذويه بأكثر الطرق همجيةً، فمَن يمكنه أن يمحو من ذهنه هذه الذكرى السوداء(4)؟! ثم من يستطيع أن يلومه على الرد في المستقبل؟! لا نقول إن مثل هذا الطفل سيكون محقا حين يَشُبُّ منخرطًا في أعمال انتقامية مطالبا بدم أهله، ولكن الإنصاف يدفعنا على الأقل إلى التماس العُذر له، فلا هو مرتزق ولا يسير وفق “أَجَنْدَة” ما، بل إن الدمَ دمُه والنارَ نارُه!

وعلى المستوى الإعلامي العربي لُوحِظَ في الآونة الأخيرة أمران: الأول أن أحداث آلام ومعاناة ضحايا غزة التي نقلتها وسائل التواصل الاجتماعي الله وحده أعلم بنية منتجي المحتوى أهي المصداقية أم حركةُ تبيضِ الوُجوه لا الضَّمائر، تلك الأحداث قد محت النظرة الضبابية الغربية المتعمدة عن القضية الفلسطينية، والتي وقفت عُقودا في صف ادعاءات الطرف الآخر.

الأمر الثاني هو محايدة الطرح والتناول، هذا أمر أدركته غُرف صناعة وصياغة الأخبار.. ففي الفضاء الإعلامي الواسع، هناك إعلاميون وصحافيون ومنتجو محتوى يضعون الأفراد في قلب التغطية، يرصدون أحوالهم، ويصغون بانتباه إلى رواياتهم، يوثقون معاناتهم، وفي كل هذا يحيطون عملهم بسياج أخلاقي متين، يحفظ للناس كرامتهم، ولا يقلل من احترامهم.(5) هذه الطريقة بحق أمر محمود، أما أن تحظى بها ضحية دون أخرى، فهذا ظلم فادح! لقد أتاحت الآلة الإعلامية الغربية مساحة للضحايا الإسرائيليين كي يُعبروا عن معاناتهم،  في حين أنها لم تتح نفس المساحة بنفس الحجم للضحايا الفلسطينيين، وكنتيجة مباشرة لالتعاطف الذي أظهرته شريحة كبيرة من المواطنين الغربيين تغيرت الظروف بنسبة ضئيلة وسُمح لبعض الناشطين التعبير  عن آرائهم.

وفي عدد التقوى لهذا الشهر، ديسمبر 2023، نطوي صفحة عام كتبت آخر كلماته بمداد دموي شديد الاحمرارا، سائلين المولى جل في علاه ألا يطول أمد المأساة، ويدرك العالم أن الدم كلَّه سواء، ونتطلع بعين الأمل إلى المستقبل ومستحدثاته، طامعين أن تزيدنا تلك المستحدثات توقيرا لإنسانيتنا، لا أن تدفعنا إلى الاستهانة بها، ومن تلك المستحدثات أدوات الذكاء الاصطناعي التي كانت حديث الناس وأرباب الأعمال في الآونة الأخيرة.

وعلى هامش هذه الأحداث المثيرة للسخرية والضحك، تنطلق تساؤلات حالمة منشؤها اليأس من العقل الإنساني الحديث، هذا العقل الذي تعددت معايير حكمه وقياسه على القضايا المتشابهة، فهو يكيل في كل قضية بمكيال لا يراعي فيه إلا مصلحة الأنا والحلفاء ولا ينساق إلا لخبيث الأهواء، فهل تعالج أدوات الذكاء الاصطناعي ما أفسدته أهواء العقل الحديث وعواطفه الهوجاء؟! ولم لا؟! لقد قالوا لنا أن كل شيء خاضع في هذا العالم للتجريب، فما الضير في أن نجرب استبدال مقاعد المصوتين في المجالس الأممية بأدوات تصويت  آلية، آملين أن يوقظ الذكاء الاصطناعي الضمير الإنساني!!

الهوامش:

1. (آل عمران: 65)

2. (المائدة: 33)

3. تقرير منظمة اليونيسيف بعنوان: «الأطفال هم من يتحملون أشد وطأة العنف في غزة» 26 مايو 2021

4. انظر: مرزا مسرور أحمد، خطاب في مؤتمر  السلام الوطني بعنوان   “العالم يحفر لحده.. أَين المفر؟!”

5. انظر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر  ICRC، “أنسنة الإعلام.. المَهمَّة ممكنة”،  مجلة الإنساني، العدد 70 شتاء 2022-2023.

Share via
تابعونا على الفايس بوك