غزوة بني قينقاع، أسبابها وملابساتها وتوقيتها

غزوة بني قينقاع، أسبابها وملابساتها وتوقيتها

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • متى وقعت غزوة بني قينقاع؟
  • لماذا أُجلي يهود بني قينقاع على أثرها من المدينة مع أنهم كانوا مواطنين فيها؟
  • كيف كان حكم النبي ص على أهل تلك القبيلة؟
  • هل هو حكم عادل بمقاييس ذلك العصر؟

 _______

خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي  

بتاريخ 27/10/2023م

في المسجد المبارك بإسلام آباد في بريطانيا

بعد التشهد والتعوذ وقراءة سورة الفاتحة استهل حضرته الخطبة

أمور ثلاثة تستشف من الأمر بصلاة التهجد

في معرض تناوُل سيرة النبي ، وردت في صحيح البخاري رواية تذكر نصيحة النبي لابنته وصهره بأداء صلاة التهجد، وقد جاء في تلك الرواية ما نصه:

«قال عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ لَيْلَةً فَقَالَ أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. (المراد من الصلاة هنا هو صلاة التهجد) فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا .  (صحيح البخاري کتاب التهجد)

لقد بين سيدنا المصلح الموعود تفصيل هذا الحدث  قائلا: حدث مرة أن الرسول ذهب إلى بيت صهره علي وابنته فاطمة، فسألهما ما إذا كانا يصليان ليلًا، فقال له عليّ: يا رسول الله، نسعى لذلك ولكن حين يشاء الله لا نستيقظ تفوت صلاة التهجد. فقال لهما النبي عليكم بصلاة التهجد. ثم تولى وكان يكرّر في الطريق

وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (الكهف 56)،

وهي آية قرآنية تعني أن الإنسان يتردّد في الاعتراف بخطئه، ويحاول الاحتجاج بأدلة متنوعة ليبرر تقصيره. يعني بدلا من أن يقول علي وفاطمة رضي الله عنهما إننا نقصر في بعض الأحيان لماذا قالوا إن الله إذا شاء ألا نستيقظ فنبقى نائمين، ولماذا حاولا نسب خطأهم إلى الله.

ثم فصَّل ذلك سيدنا المصلح الموعود في موضع آخر أكثر فقال: روى علي حادثا يثبت أن عليّا ردّ ذات مرة على النبي بأسلوب ينم عن المحاججة والمجادلة فلم يسخط عليه النبي بل اختار أسلوبا لطيفا جدا لعل عليّا ظل يستمتع به في الأيام الأخيرة من حياته. المتعة التي حظي بها عليٌّ كانت من نصيبه هو ولكن اليوم أيضا كل إنسان ذي نظرة دقيقة عندما يتأمل في أسلوب النبي لإظهار عدم رضاه يستغرب من ذلك أيما استغراب. يقول عليٌّ كرم الله وجهه

إنَّ رَسُولَ الله طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ الزهراء بِنْتَ النَّبِيِّ لَيْلَةً فَقَالَ أَلَا تتهجدان؟ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَنْفُسُنَا بِيَدِ الله فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا .

سبحان الله، ما أجمله من أسلوب فهّم به عليًّا أنه لم يكن مناسبا له أن يرد هكذا! لو كان هناك أحد غيره لبدأ بالجدال قائلا: انظر إلى مكانتي ثم انظر إلى جوابك، هل يحق لك أن تردّ على كلامي هكذا؟ وإن لم يفعل ذلك لجادله على الأقل قائلا: إن قولك هذا بأن الإنسان مسيَّر وأعماله كلها بيد الله يديرها كما يشاء، ويوفقه للصلاة إذا شاء ولا يوفقه إن لم يشأ، ليس صحيحا، وبأن مسألة الإكراه تخالف القرآن الكريم، فكان يمكن أن يقول النبي ذلك إلا أنه لم يختر أيًّا من هذين الأسلوبين، أي لم يسخط على علي ولم ينبِّهه على خطئه بأسلوب المجادلة بل تنحى إلى جانب ثم أظهر استغرابه على جوابه وقال بأن الإنسان شأنه غريب إذ يستخرج من كل شيء ما يفيد موقفه ويبدأ في المجادلة. الحق أن اكتفاء النبي بهذا القدر كان يضم في طياته منافع لم يكن لمئات المجادَلات من شخص آخر أن تبلغ عشر معشارها. نتعلم من هذا الحديث أمورا كثيرة، ثم حلل حضرته الأمور التي تلقي الضوء على الجوانب المختلفة لأخلاق النبي وأرى من المناسب ذكرها هنا.

أولا: يتضح كيف كان النبي مهتما بأمور الدين، إذ كان يتجول ليلا متفقدًا أحوال أقربائه. هناك أناس كثيرون يكونون صالحين بأنفسهم وينصحون الآخرين أيضا بالتقوى ولكن حال بيتهم تكون سيئة، ولا يقدرون على أن يصلحوا أهل بيتهم. وعن هؤلاء هناك مَثل معناه: تحت السراج ظلامٌ. أي أن السراج ينوِّر ما حوله ولكن يبقى ما تحته مظلما. كذلك إن هؤلاء الناس ينصحون الآخرين ولا يفكرون بأهل بيتهم إن كانوا يستفيدون من نورهم أم لا. ولكن النبي كان كثير الانتباه إلى تنوير أقاربه بنوره الذي كان يريد أن ينور به العالم. فكان يهتمّ بذلك ويتفقد حالة أقاربه ويفحصهم أيضا. إن تربية الأقارب مزية سامية لو لم توجد فيه لنقص من أخلاقِه شيءٌ ثمين. لكن لما كان متحليا بأسمى الأخلاق لذا كان هذا الجوهر أيضا موجودا فيه.

الأمر الثاني الذي يتبين هنا هو أنه كان لديه يقين كامل بتعليم كان يقدمه للعالم، ولم يشكّ فيه ولا للحظة واحدة. ولم يكن الأمر كما يقول معارضو الإسلام أنه قد بدأ كل هذا الأمر لخداع الناس وترسيخ دعائم حكومته والعياذ بالله محاولين إثبات أنه لم يكن يتلقى الوحي. وهذا ما كتبه كثير من المستشرقين وهذا ما كان يقوله الكفار في ذلك العصر، لكن كل هذه المزاعم باطلة بل كان قلبه مطمئنا وموقنا أنه رسول الله والمبعوث منه لدرجة أنه لا يوجد نظيره في العالم، لأنه من الممكن أن يُثبت صدقه للناس بتصنع ولكن لا يمكن أن يتصور أحد أن يذهب المرء إلى بيت ابنته وصهره ويسألهما هل يقومان بعبادة ليست فرضا عليهما بل ترك الله تعالى أداءها حسب ظروف المؤمنين الخاصة بهم ويؤديها المرء عند منتصف الليل، فذهاب النبي في هذا الوقت، وترغيبه ابنتَه وصهره في صلاة التهجد يدل على يقينه الكامل بصدق تعليم كان يريد من الناس أن يعملوا به. وإلا فالمفتري الذي يعلم أن العمل بهذا التعليم وعدمه سيان لا يمكنه أن ينصح أولاده بالعمل به في السر خفية. فهذا لا يمكن حدوثه إلا إذا كان قلب المرء عامرا باليقين بأن الكمالات لا تُنال إلا بالعمل بهذا التعليم.

الأمر الثالث هو ما نُقلتْ هذه الرواية لإثباته، وهو أن النبي كان ينصح دائما بهدوء كامل ويُطلع الناس على خطئهم بالحب والتودد بدلا من المجادلة. ففي المناسبة قيد البحث أراد عليٌّ أن يردّ عليه بالقول إننا عندما ننام لا يكون لنا الخيار في الاستيقاظ لأن النائم لا يسيطر على نفسه، فلا يعلم عند النوم بأنه قد آن أوان كذا وعليه أن يفعل كذا. فعندما يوفقنا الله للاستيقاظ نصلّي وإلا فلا نستطيع، لأن الساعات المنبهة لم تكن متوفرة في تلك الأيام، فكان لا بد أن يستغرب النبي بسماع هذا الكلام لأن الإيمان الذي كان في قلبه ما كان يسمح له أن يغفل حتى تضيع منه صلاة التهجد. فقال النبي مُعرضا وجهه إلى جانب آخر:
كَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا

أي كان عليكما أن تحرصا على وقتكما في المستقبل ولم يكن مناسبا الرفض بهذه الطريقة. يقول عليٌّ أنه لم تفتْه صلاة التهجد بعد ذلك.

يجب أن نتذكر هذه الواقعة للانتباه إلى صلاة التهجد وبخاصة الدعاة وواقفي الحياة والمسؤولين في الجماعة، إنها أدعية الليالي التي تجلب أفضال الله أكثر وثمة حاجة إليها في هذه الأيام خاصة لإنقاذ العالم من الدمار.

أما نقض اليهود للعهد فقد جاء أنه عندما رزق الله تعالى المسلمين نصرا عظيما يوم بدر ظهر عداء هؤلاء القوم وانكشف حسدهم للنبي والمسلمين. وبسبب غضبهم وحقدهم نكثوا عهدهم، وبدؤوا يقولون: يا محمد، إنك تظن أننا مثل قومك، فلا يغرنك أنك قاتلت قومًا لا يعرفون الحرب، وانتصرت عليهم.

غزوة بني قينقاع بسبب خرقهم ميثاق المدينة

غزوة بني قينقاع من ضمن الأحداث التي وقعت في العام الثاني للهجرة، ورد عنها:

بعد هجرة النبي إلى المدينة المنورة، لم يعد حال كفار العرب كما كان، فقد انقسموا إلى ثلاث فئات. فمنهم من صالحهم النبي على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه عدوه. وكان ممن انخرطوا في هذا الاتفاق قبائل اليهود الثلاثة، بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع. وعلى الطرف الآخر كان هناك من ناصبوا النبي العداء، وهم قريش. والفئة الثالثة الذين تركوا النبي ينتظرون نهايته  وهم سائر قبائل العرب. وهؤلاء لم تكن حالهم سواء، فقد كان منهم من يريد في قلبه أن ينتصر المسلمون، مثل بني خزاعة. وكانت حال بعض الناس عكس ذلك مثل بني بكر. وهناك من كانوا مع المسلمين في الظاهر ولكنهم في الباطن كانوا مع أعداء المسلمين. وهؤلاء كانوا المنافقين. ولما قدم النبي المدينة عاهد اليهود جميعًا، إذ عقد معهم اتفاقا مكتوبا، انضم كل قوم إلى حليفهم. والآن كتب وثيقة السلام بينه وبينهم، وتضمنت هذه الوثيقة بنودا كثيرة. وكان من بينها أن لا يعينوا عليه عدوا.

والآن أذكر بعض الأمور من التاريخ عن فتنة بني قينقاع، يقول فيها ابن إسحاق:

كان هناك شخص مُسِنٌّ اسمه شَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وكان شَدِيدَ الضّغَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ، وهو مرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدّثُونَ فِيهِ فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيّةِ. فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ (سمى رؤساء الأوس والخزرج بني قيلة) لَا وَاللهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ. (أراد أن يحرّضهم) فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنْ يَهُودَ كَانَ مَعَهُمْ فَقَالَ اعْمِدْ إلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، ثُمّ اُذْكُرْ يَوْمَ بُعَاثَ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَشْعَارِ. وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظّفْرُ فِيهِ يَوْمئِذٍ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ عَلَى الْأَوْسِ يَوْمئِذٍ حُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ الْأَشْهَلِيّ، أَبُو أُسَيْدِ؛ وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَمْرُو بْنُ النّعْمَانِ البَيَاضِيّ، فَقُتِلَا جَمِيعًا. (السيرة النبوية لابن إسحاق)

فَجلس ذلك الشاب اليهودي بين المسلمين وذكر يوم بعاث وأشعل نار الفتنة فاشتعلت المشاعر الخامدة لبني الأوس والخزرج.

فَتَكَلّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنْ الْحَيّيْنِ عَلَى الرّكْبِ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ مِنْ الْأَوْسِ، وَجَبّارُ بْنُ صَخْرٍ مِنْ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ شِئْتُمْ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً فَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، (كانوا قد أسلموا ومع ذلك أبدوا حميَّة الجاهلية، وقالوا) مَوْعِدُكُمْ الظّاهِرَةُ الْحرّةُ. و”حرة المدينة” تقع بين حرتين وهي على بعد ثلاثة أميال غرب المدينة المنورة. فجهة الشرق منها تقع حرة عقم وتسمى أيضا حرة بني قريظة. وجهة الغرب من حرة المدينة تقع حرة الوبرة.وبين الحرات الثلاثة ثلاثة أميال. ومع ذلك ثار الضجيج: السّلَاحَ السّلَاحَ. (وبعد ذلك اشتد الوضع وبدأ الفريقان يستعدون للحرب، فَخَرَجُوا إلى الحرة بحسب الموعد. وكادت أن تنشب الحرب ولكن الله قدّر أنه بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى جَاءَهُمْ فَقَالَ بحكمة: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللهَ اللهَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، ومع ذلك تفعلون هذا، وكان لكلام رسول الله تأثير كبير فيهم حتى شعروا بالندم وبَكَوْا وَعَانَقَ الرّجَالُ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ. (سيرة ابن هشام)

وأما نقض اليهود للعهد فقد جاء أنه عندما رزق الله تعالى المسلمين نصرا عظيما يوم بدر ظهر عداء هؤلاء القوم وانكشف حسدهم للنبي والمسلمين. وبسبب غضبهم وحقدهم نكثوا عهدهم، وبدؤوا يقولون: يا محمد، إنك تظن أننا مثل قومك، فلا يغرنك أنك قاتلت قومًا لا يعرفون الحرب، وانتصرت عليهم. أي أشاروا إلى غزوة بدر وقالوا: لقد هزمتم كفار مكة، ولسنا مثلهم، نحن شجعان للغاية. والله لئن قاتلناكم لتعلمون أننا رجال، وأول من نقض العهد وخان من قبائل اليهود الثلاثة هم يهود بني قينقاع.

ووردت أيضًا عن شرهم واقعة تدل على التحرش بالمسلمين وهي واقعة لامرأة مسلمة. فإنه مع ما هم عليه من العداوة لرسول الله قدمت زوجة أحد الأنصار بجلب لها: أي وهو ما يجلب ليباع من إبل وغنم وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ منهم لتشتري بعض الحلي. وكانت قد غطت وجهها وسائر جسدها: فجعل جماعة من اليهود يراودونها لكشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها خلسة. قال وفي رواية: خله بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فغضب المسلمون على اليهود بعد هذا الحدث، وقال النبي لهم: «ما على هذا أقررناهم»

قال عبادة بن الصامت : يا رسول الله أتولى اللهَ ورسولَه والمؤمنين، وأتبرأ من حلف هؤلاء الكفار.

على أية حال، حاول النبي نصيحة بني قينقاع ولكنهم شرعوا في التهديد الساخر بدلا من أن يتعظوا. وقد ورد في تفصيل ذلك أن النبي جمع بنى قينقاع ثم قال: يا معشر اليهود احذروا الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلِموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم. قالوا يا محمد إنك ترى أنا كقومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس. وفي رواية أخرى: أن النبي عندما علِم عند بدر بنقض اليهود الميثاق جمعهم في سوق بني قينقاع وحذرهم وردوّا بما سبق وردوا على تنبيهه.

بعد ذلك خرج يهود بني قينقاع من هناك وتحصّنوا في حصن، وعندما فعلوا ذلك خرج النبي إليهم واستخلف على المدينة أبا لبابة، وكان اللواءُ بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، وكان خروجه في النصف من شوّال، واستمر إلى هلال ذي القعدة الحرام، فقذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، فسألوا رسول الله أن يخلي سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة: أي يخرجوا منها، وأن لهم نساءهم والذرية وله الأموال، أي ومنها الحلقة التي هي السلاح. قبِل النبي طلبهم وسمح لهم بالخروج من المدينة. (هذا مما ورد في السيرة الحلبية)

وقد ورد في معظم كتب السيرة عن عبد الله بن أبي بن سلول أنه جاء بهذه المناسبة إلى النبي مرارا لأنه كان حليف بني قينقاع فجاء النبي يتوسط لهم والتمس منه  بشتى الطرق أن يعفو عن بني قينقاع ولا يقتلهم وأن يخلي سبيلهم ويغفر لهم ما بدر منهم. يترشح من هذه الرواية انطباع أن النبي كان قد أراد قتلهم ثم عفا عنهم نتيجة شفاعة عبد الله بن أُبي بن سلول. ولكن هذا ليس صحيحا إذ لم ينوِ النبي قتلهم. والحق أن الروايات من هذا القبيل مشكوك فيها. فقد نقل مؤرخ اسمه السيد بركات أحمد إحدى هذه الروايات وعلق عليها فقال:

عندما جاء عبد الله بن أُبي إلى النبي بعد استسلام اليهود وقال: يا محمد أحسنْ إلى موالي. قال النبي : ويحك! أرسلني قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي. (هل تقتلهم جميعا؟) إني والله امرؤ أخشى الدوائر قال: فقال رسول الله : هم لك.

لقد ذكر هذه القصةَ كلٌّ من ابن إسحاق والواقدي وابن سعد. ويتبين من قراءتها كأنه كان لعبد الله بن أُبي بن سلول تأثيرا ما على النبي . ولكن كلمات عبد الله بن أُبي لأجل الوساطة مشكوك فيها. ولا يتبين من بيان ابن إسحاق قط أن النبي قال ما يمكن الاستنتاج منه أنه كان عازما على قتل بني قينقاع. أما الواقدي فيشير إلى ذلك وهذا ما أعاده ابن سعد أيضا. ولكن يجب أن نتذكر بهذه المناسبة أنه على الرغم من كون النبي كان زعيما سياسيا أيضا ولكنه ما كان يعامل الأعداء بالقسوة دون مبرر قط. وكان يكره العنف وكلما خاض الحرب فقد فعل ذلك مضطرا. وفي ميدان الحرب أيضا كان يتحاشى سفك الدماء دون سبب. إذن، فقد تمت المحاصرة وطلب المحاربون الملاذ فأُجلِي بنو قينقاع.

عندما هاجر النبي من مكة إلى المدينة كانت تسكنها ثلاث قبائل يهودية وهي: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وفور مجيئه إلى المدينة أبرم النبي مواثيق الصلح والأمن مع هذه القبائل وبذلك وضع أساس العيش المتبادل بالأمن والصلح. وبحسب الميثاق كان الفريقان مسؤولين عن إقامة الأمن والسلام في المدينة، وعن التصدي معا للمهاجم إذا هاجم المدينةَ عدوٌّ من الخارج.

وبيان ذلك أنه قد اتخذ القرار بإجلاء قبيلة يهودية بناء على طلبهم. ووكّل بإجلائهم عبادةَ بن الصامت وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث. وقيل إنهم سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى (أذرعات) بلدة بالشام.

وقيل إنه وكّل محمدا بن مسلمة لإجلائهم. ومن الممكن أن يكون كلاهما قد وُكّلا بهذه المهمة. ووجد في منازل اليهود سلاحا كثيرا، لأنهم كما تقدم كانوا أكثر أموالا وأشد بأسا، وأخذ رسول الله من سلاحهم ثلاثة قسيّ، قوسا يدعى الكتوم، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا تدعى البيضاء. علما أن الكتوم انكسرت يوم أُحد. وأخذ درعين: درعا يقال لها السعدية والأخرى يقال لها فضة، وثلاثة رماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له القلعي، وسيف يقال له البتار، والآخر لم يسم. (السيرة الحلبية)

وقد ورد في سيرة خاتم النبيين عن غزوة بني قينقاع:

عندما هاجر النبي من مكة إلى المدينة كانت تسكنها ثلاث قبائل يهودية وهي: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وفور مجيئه إلى المدينة أبرم النبي مواثيق الصلح والأمن مع هذه القبائل وبذلك وضع أساس العيش المتبادل بالأمن والصلح. وبحسب الميثاق كان الفريقان مسؤولين عن إقامة الأمن والسلام في المدينة، وعن التصدي معا للمهاجم إذا هاجم المدينةَ عدوٌّ من الخارج. في البداية التزم اليهود بالميثاق ولم يخاصموا المسلمين في الظاهر على الأقل. ولكن لما رأوا أن المسلمين حائزون على قوة أكثر في المدينة تغير سلوكهم، وعزموا على إيقاف قوة المسلمين المتزايدة. ولهذا الغرض استخدموا كل كيد وحيلة لدرجة أنهم لم يدّخروا جهدا في خلق الفُرقة بين المسلمين وخلق أجواء الحرب الأهلية فيهم.

فقد ورد في رواية أن رجالا كثيرين من قبيلة الأوس والخزرج كانوا جالسين معا بمناسبة ويتحدثون فيما بينهم بالحب والوئام، فوصل إلى المجلس بعض الفتانين من اليهود وشرعوا يذكرون يوم بعاث. علما أن هذا كان يوما شهد حربا نشبت بين القبيلتين المذكورتين قبل الهجرة ببضعة أعوام وقُتل فيها عدد كبير من الأوس والخزرج، كما ذُكر من قبل بالتفصيل. فبذكر هذه الحرب حيِيَت ذكرياتها في قلوب بعض المتحمسين ودارت أمام أعينهم مشاهد العداوة السابقة. فكانت النتيجة أن الحديث تجاوز النزاع اللفظي وتبادل الطعن ووصل إلى سلِّ السيوف بين المسلمين في المجلس نفسه. لكن النبي لحسن الحظ اطلع على الوضع قبل فوات الأوان  فسارع إلى مكان الحادث مع جماعة من المهاجرين وهدّأ الفريقين ثم لامهم قائلا كيف تعودون إلى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم ولا تقدرون نعمة الله عليكم إذ جعلكم بالإسلام إخوانًا. فتأثر الفريقان من الأنصار بنصحه حتى ذرفت أعينهم الدموع فتابوا عن سوء تصرفهم وتعانقوا.

بعد معركة بدر التي كتب الله فيها بفضله للمسلمين رغم قلة عددهم وعتادهم فتحا ساحقا على جيش جرّار لقريش، وأرغم أنوف كبار زعماء مكة، اشتعل يهود المدينة حسدا وكمدا، وبدأوا ينازعون المسلمين علنًا، ويقولون في المجالس صراحة: إلحاق الهزيمة بجنود قريش ليس صعبا، إذا  حاربَنا محمدا ( ) فسوف نريه كيف يكون القتال. حتى إنهم تفوهوا بمثل هذه الكلمات في وجه النبي في أحد المجالس. فورد في رواية أن النبي بعد عودته من معركة بدر إلى المدينة جمع اليهود ذات يوم ونصحهم وقدم لهم دعواه ودعاهم إلى الإسلام. فردّ رؤساء اليهود على هذا العرض الذي ملؤه السِلم والمواساة بأن قالوا: «يا محمد لا يغُرّنّك قتلُك بعضا من قريش، لقد قهرتَ قوما لا خبرة لهم بالقتال، وإنا والله لئن قاتلناك لتعلمنّ كيف يكون المقاتلون.

ولم يكتفِ اليهود بالتحديات الشفوية العامة، بل يبدو أنهم بدأوا يخططون لاغتيال النبي ، فقد ورد في رواية أن الصحابي المخلص طلحة بن البراء، الذي كان مريضًا في تلك الأيام، عندما شعر باقتراب أجله أوصى أنه لو توفي خلال الليل فلا يخبروا النبي بوفاته مخافة أن يخرج لصلاة الجنازة عليه وقت الليل فيتعرض على يد اليهود لحادث لا يحمد عقباه.

باختصار، بدأ اليهود بعد معركة بدر يثيرون الفتنة علنا. وكانت بنو قينقاع أقوى وأشجع القبائل اليهودية في المدينة، فأخذت زمام المبادرة في مخالفة بنود الاتفاقية، فقد سجل المؤرخون أن يهود بني قينقاع كانوا أول من خرقها التي كانت بينهم وبين رسول الله ، وبعد معركة بدر بغوا وطغوا حتى عبّروا عن عدائهم وحسدهم علنا، ونكثوا العهد والميثاق.

ومع ذلك ظل المسلمون متمسكين بأهداب الصبر عملاً بتعليمات سيدهم، ولم يصدر منهم أي تصرف خاطئ. بل ورد في السيرة أن النبي بعد هذه المعاهدة مع اليهود كان يراعي مشاعرهم بوجه خاص، (هذا يعني أنهم كانوا يظهرون للنبي العداء، ولكنه كان يجاريهم مراعاة لمشاعرهم) فذات مرة حصل شجار بين مسلم ويهودي ففضّل موسى على الأنبياء كلهم، فغضب الصحابي وتصرف مع اليهودي بشيء من العنف وقال كلا، بل إن نبينا هو أفضل الرسل قاطبة. فبلغ ذلك النبيَّ فسخط على الصحابي ولامه وقال ليس من شأنك أن تفضّل بعض رسل الله على بعض. ثم ذكر النبي فضلا جزئيا لموسى تهدئةً لمشاعر اليهودي. ورغم هذا الموقف المواسي من النبي لم يزدد اليهود إلا شرا، وفي نهاية المطاف تسببوا في أول صراع بينهم وبين المسلمين ولم تسَعْ صدورهم ما تُكنّه من عداء للمسلمين. وبيان ذلك أن إحدى المسلمات ذهبت إلى السوق لشراء شيء من متجر يهودي (وقد ذكرتُ ذلك آنفا) فقام بعض أشرار اليهود الذين كانوا في المحلّ بإغاظتها بخبث وقام صاحب المحل نفسه بعقد الجزء الأسفل من ثوبها إلى ظهرها أثناء انشغالها بالتسوق.

وبعد أن رأت منهم خبثهم قامت لتخرج من المحل فانكشف أسفل جسدها. فانفجر صاحب المتجر وأصحابه بالضحك. فصرخت من شدة الحياء واستغاثت. فهُرِعَ لمساعدتها مسلم كان قريبا من المكان بالصدفة، وحصل القتال وقُتل صاحب المتجر اليهودي، فانهالت على المسلم الغيور سيوف اليهود من كل طرف وصوب فوقع صريعا في مكانه.

فلما علم المسلمون ثارت حميتهم وغضبوا غضبا شديدا، واحتشد اليهود الذين كانوا يريدون أن يتذرعوا بهذا الحادث للقتال، وأصبح الوضع خطيرا. ولما بلغ ذلك النبيَّ دعا زعماء بنو قينقاع ونبّههم على سوء تصرفهم ونصحهم بمخافة الله والكف عن الشر. (انظروا إلى سلوك النبي حيث سعى لتهدئة الموقف) ولكنهم بدلاً من أن يتأسفوا ويندموا ويطلبوا العفو ردوا عليه بغطرسة وتمرد، وكرروا تحديهم السابق بأن لا يغترّ بانتصاره في بدر، وأنه سيعلم عند اشتباكه معهم كيف يكون المقاتلون. فاضطر النبي للمسير إلى حصون بني قينقاع مع جماعة من الصحابة. وكانت هذه آخر فرصة أمام اليهود لكي يندموا على تصرفهم، ولو أنهم طلبوا العفو لانتهى الأمر، ولكن تبين هنالك أنهم يريدون القتال.

باختصار، أُعلنت الحرب وبرزتْ قوى الإسلام واليهودية وجهًا لوجه للقتال. وكان من أساليب القتال السائدة في تلك الأيام أن الناس كانوا يحتمون بقلاعهم وكان العدو يحاصرهم وكانت تتخلل في أثناء الحصار هجمات بين الطرفين، وبمرور الأيام كان الجيش المحاصر للقلعة ييأس من فتحها فيرفع الحصار، وكان هذا يُعَدّ نصرا لأصحاب القلعة، أو أن المتحصنين كانوا هم أنفسهم لا يطيقون الحصار فيفتحون باب القلعة ويستسلمون للعدو المنتصر.  وهذا ما فعل بنو قينقاع بهذه المناسبة، فاحتموا بقلاعهم، فحاصرهم النبي واستمر الحصار لأسبوعين، وفي نهاية المطاف كسر كبرياؤهم ولم يعودوا قادرين على الصمود، فاستسلموا وفتحوا أبواب حصونهم بشرط أن يخرجوا من الحصن بأنفسهم وأهليهم مقابل أن يتنازلوا عن أموالهم للمسلمين. فوافق النبي على شروطهم، مع أنهم كانوا يستوجبون القتل وفقًا للشرع الموسوي، وكان من المفروض بحسب المعاهدة أن ينفذ فيهم قانون الشرع الموسوي. ولكن كانت هذه أول جريمة من اليهود، فلم يرد النبي ، وهو الرحيم الكريم، فرْضَ أقصى عقوبة عليهم عند أول جريمة منهم. إلا أن بقاء مثل هذه القبيلة المعادية والغادرة في المدينة المنورة كان أمرا لا يخلو من الخطر، لا سيما في وقت كان فيه فريق من المنافقين من الأوس والخزرج موجودين سلفا داخل المدينة، وكانت كل القبائل العربية المعادية قد ضيقت الخناق على المسلمين في المدينة من خارجها، فكان القرار النبوي الملائم في ظل هذه الظروف هو جلاء بني قينقاع من المدينة المنورة، وكانت هذه العقوبة خفيفة جدا نظرا إلى جريمتهم وإلى الظروف السائدة عندها، كما كان الهدف منها الدفاع عن النفس أيضا، وإلا فإن الترحيل لم يكن بالعقوبة عند أي من العرب الرحّل، وخصوصًا عندما لا تكون القبيلة تمتلك أي أرضٍ أو بستان – كما كانت حال بني قينقاع، حيث لم تكن لهم عقارات أو أراض أو بساتين- كما تجد القبيلة كلها فرصة الانتقال من مكان إلى آخر في سلام وأمان والاستيطان هناك. فخرجت قبيلة بنو قينقاع بسلام وأمان من المدينة وذهبوا ناحية الشام. وأمر النبي الصحابي عبادة بن الصامت، الذي كان أحد حلفاء هؤلاء اليهود، بالإشراف على ترتيبات إجلائهم، فرافقهم في سلام وأمان إلى عدة مراحل ثم عاد إلى المدينة. والغنائم التي وقعت في أيدي المسلمين لم تكن  سوى أسلحتهم وأدوات مهنتهم وهي الصياغة.

تخفيف عقوبة بني قينقاع، مساعي ابن سلول أم فضل نبوي؟!

ورد في بعض الروايات عن بني قينقاع أنهم لما فتحوا أبواب حصونهم واستسلموا، أراد قتل رجالهم المقاتلين بجریرة غدرهم وتمردهم ومكایدهم. ولكن بناء على شفاعة عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين، تخلى عن إرادته تلك. لم يقبل الباحثون صحة هذه الرواية، وذلك لأنه ورد في روايات أخرى تصريح بأن بني قينقاع لم يفتحوا الأبواب إلا على شرط الحفاظ على حياتهم وحياة أهليهم، وبعد قبول هذا الشرط ما كان بوسع النبي أن يسلك مسارًا آخر مناقضًا لهذا الشرط. إلا أن تقديم بني قينقاع شرط الحفاظ على حياتهم وحياة أهليهم يدل على أنهم أنفسهم كانوا يوقنون بأن فعلهم يستوجب عقوبة القتل، ولكنهم طلبوا الرحمة من النبي الكريم ، ولم يكونوا يريدون فتح باب حصنهم إلا بعد أخذ الوعد من النبي أنه لن يعاقبهم بالقتل. وعلى الرغم من أن النبي الكريم قد عفا عنهم لكونه رحيما، ولكن يبدو أن هؤلاء -بسبب آثامهم وجرائمهم- لم يعودوا جديرين بالبقاء أحياء على وجه الأرض؛ لذلك، هناك رواية تقول إنهم لما سكنوا المكان الذي توجهوا إليه بعد الجلاء فلم يمر عام واحد إلا وانتشر فيه وباء خطير تعرضت له القبيلة كلها ففنوا.

تحديد التاريخ الدقيق لغزوة بني قينقاع

هناك خلاف حول تاريخ غزوة بني قينقاع، فقد ذكر الواقدي وابن سعد أنها وقعت في شوال سنة 2 للهجرة، وقد اتبعهما أغلب المؤرخين المتأخرين. لكن ابن إسحاق وابن هشام وضعاها بعد غزوة السويق  التي كانت قطعا في أول شهر ذي الحجة في السنة الثانية الهجرية، وهناك إشارة في إحدى الروايات إلى أن غزوة بني قينقاع وقعت بعد زواج فاطمة، فقد ورد في هذه الرواية أن عليًّا اقترح -من أجل تغطية نفقات وليمة عرسه- أن يأخذ معه صواغا يهوديًا من بني قينقاع ويقصد الغابة فيُحضر من هناك إذخر ليبيعه للصواغين في المدينة المنورة.

وهذا يدل على أنه عند وقت زواج فاطمة -الذي كان في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة عند  عامة المؤرخين- كان بنو قينقاع لا يزالون في المدينة المنورة. ولهذه الأسباب يقول حضرة ميرزا ​​بشير أحمد بأنه وضع غزوة بني قينقاع في كتابه سيرة خاتم النبيين آخر السنة الثانية للهجرة بعد غزوة السويق وزواج فاطمة.

وفي هذه المناسبة، لن يخلو من الفائدة أن نذكر أن المستشرق مرغوليس، والذي لدى الحديث عن سبب غزوة بني قينقاع اختلق من عنده أمرًا غريبًا وعجيبًا لم يُذكر ولو بإشارة في أي من الروايات. لقد ورد في رواية في البخاري أن حمزة كان ثملا (لم يكن شرب الخمور محرما في ذلك الوقت)، فقتل إبل علي التي لقيها من غنائم بدر. لقد قام المستشرق مرغوليس بربط هذه الواقعة الفريدة من دون أي دليل تاريخي بغزوة بني قينقاع، ثم قال: غزا النبي ( ) بني قينقاع من أجل تعويض خسارة علي من خلال الغنائم التي سيغتنمها. لقد قام بربط الأمر الذي لا أصل له، وربما يندر نظير هذه الجرأة في التاريخ، والغريب أن السيد مرغوليس يعترف بأنه قد أضاف هذا الأمر من عند نفسه قياسًا على بعض الأمور.

كأنه يقول: لم أجد في أي مرجع، ولكن أعتقد أنه حصل لهذا السبب. يبدو أنه لم يكن يرى سببًا آخر لغزو تلك القبيلة سوى تعويض خسارة جملين اثنين فحسب! يحمل المستشرقون أو المؤرخون غير المسلمين أفكارًا غريبة، فإنهم منغمسون في الكراهية والعداوة تجاه المسلمين لدرجة أنهم لا يتورعون عن تشويه التاريخ، وهذا ما يُرى في أغلب المواضع. على أية حال، سنتحدث عن الباقي لاحقًا إن شاء الله.

 باختصار، بدأ اليهود بعد معركة بدر يثيرون الفتنة علنا. وكانت بنو قينقاع أقوى وأشجع القبائل اليهودية في المدينة، فأخذت زمام المبادرة في مخالفة بنود الاتفاقية، فقد سجل المؤرخون أن يهود بني قينقاع كانوا أول من خرقها التي كانت بينهم وبين رسول الله ، وبعد معركة بدر بغوا وطغوا حتى عبّروا عن عدائهم وحسدهم علنا، ونكثوا العهد والميثاق.

على هامش أحداث غزة..

ضرورة الدعاء في ظل الوضع الراهن

أذكّركم مرة أخرى بالدعاء في ظل الأوضاع الراهنة للعالم. إن عدد الشهداء من النساء والأطفال الفلسطينيين الأبرياء يتزايد نتيجة للحرب بين حماس وإسرائيل. إن ظروف الحرب تشتد بسرعة، ويترشح من السياسة التي تتبعها حكومة إسرائيل والدول الكبرى أن الحرب العالمية تلوح في الأفق الآن. لقد بدأ زعماء بعض الدول الإسلامية أيضًا يُصرِّحون بذلك علنًا الآن، كما خرجت تصريحات مماثلة من روسيا والصين، وأصبح المحللون الغربيون أيضا يقولون ويكتبون بأن نطاق هذه الحرب آخذ في الاتساع الآن.

إذا لم يتم اعتماد سياسة عاجلة وحكيمة، فسوف يؤدي الوضع الراهن بالعالم إلى الهلاك. كل شيء يُذاع الآن في نشرات الأخبار، والأوضاع كلها أمامكم. لذلك ينبغي للأحمديين أن يصبّوا اهتمامهم على الدعاء خاصة، فلا تستهينوا بالأمر بل ينبغي أن تخصصوا سجدة واحدة على الأقل من كل صلاة، أو سجدة واحدة في أي صلاة على الأقل للدعاء من أجل هذا الأمر. ليس هناك رئيس لأي دولة من دول الغرب يريد أن يتعامل بالعدل في هذا الأمر، ولا يملك الشجاعة لقول أي شيء عن ذلك. ويجب على الأحمديين ألا يخوضوا في نقاشات حول مَن مِن رؤساء الوزراء أو رؤساء الدول جيد ومن هو غير جيد، وما كان ينبغي لفلان أن يقول ذلك، وما كان يجب للمسلمين أن يتحدثوا ضده. كل هذا هراء. ما لم يسعَ أحد بشجاعة لوقف إطلاق النار، فإنه يتحمل مسؤولية دفع العالم نحو الدمار. لذا بالإضافة إلى الدعوات اسعوا جاهدين لأن تنشروا فيمن حولكم أنه ينبغي إيقاف الظلم. إذا كان لأي أحمدي علاقة بشخصية بارزة فليشرح له ذلك. هذه هي الشجاعة، وهذا هو مقتضى العمل بأمر الله تعالى.

نداءات الغرب بحقوق الإنسان صرْح رمال يتهاوى

يقول ممثلو الحكومة الإسرائيلية إن حماسا قتلت أبرياءنا، وسوف ننتقم، ولكن هذا الانتقام قد تجاوز كل الحدود الآن. لقد تجاوزت الخسائر في أرواح الفلسطينيين أكثر من أربعة أو خمسة أضعاف مما حصلت في أرواح الإسرائيليين وفق ما تم التصريح عنه. إذا كان هدفهم هو القضاء على حماس، كما يقولون، فليقاتلوها وجهًا لوجه، لماذا يستهدفون النساء والأطفال وكبار السن؟ ولماذا يحولون دون حصول هؤلاء على الماء والغذاء والعلاج. إن جميع ادعاءات الدول الغربية المتعلقة بحقوق الإنسان ومبادئ الحروب تتبخر وتتلاشى بهذا الشأن. وهناك البعض يلفتون الانتباه إلى ذلك، فقد أعرب عنه «أوباما» الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية، وقال إذا كنتم تريدون الحرب فيجب أن تجعلوا مبادئ الحرب نصب أعينكم. ينبغي ألا تصبّوا الظلم على المدنيين. كما تحدث حول ذلك الأمين العام للأمم المتحدة، فأثارت الحكومة الإسرائيلية ضجة على ذلك، وكانت النتيجة أن دعاة السلام هؤلاء والذين يزعمون أنهم بناة السلام وأبطاله في العالم لم يتحدثوا تأييدًا لبيان الأمين العام، بل أعربوا عن عدم إعجابهم به.

على كل حال، إن الأوضاع خطیرة وتزداد خطورةً، والإعلام الغربي يُبرز أخبار أحد الفريقين بكثرة وباهتمام أما خبر الفريق الآخر فيُنشر في زاوية صغيرة. فقد قالت امرأة خرجتْ من السجن مؤخرا إنها تلقَّت معاملة حسنة (من حماس)، فهذا الخبر نُقل في زاوية، أما مَن قال إن سجن حماس كان جهنم، فنشروه كعنوان بارز. كان العدل أن يعرضوا الأوضاع برمَّتها على  العالم ثم يتركوهم يُقررون بأنفسهم من هو الظالم ومن المظلوم، وأنه لأي حد تجوز هذه الحرب ومتى سوف تنتهي. فالأوضاع يجب أن تُعرَض كلُّها على العالم لا أن يُنشَر رأيٌ واحد بانحياز.

على كل حال علينا أن ندعو كثيرا، ونبذل الجهود في محيطنا لإنهاء الظلم ونركز على الدعاء أيضا. يجب أن ندعو الله تعالى للإفراج عن المسلمين المظلومين، وللحكومات الإسلامية أيضا بأن يوفِّقها الله لتخطيط خطة شاملة ودائمة. يجب أن تنشأ فينا حرقة للسعي من أجل القضاء على مشاكل المسلمين، فنحن أتباع ذلك المسيح الموعود عليه السلام الذي رغم تلقِّيه الأذى على على أيدي المسلمين باستمرار قد رق قلبه لهم في بيت شعر له بالفارسية حيث قال:

اے دل تو نيز خاطر ايناں نگاه دار

كاخر كنند دعوئ حب پيمبرم

أي :يا قلبي يجب أن تراعي وتعتني بهؤلاء وتنظرْ إليهم بحب وعطف، فهم -على كل حال- يدَّعون حُبَّ رسولي المحبوب. إذن فإن حبَّنا للنبي  يقتضي منا أن ندعو للمسلمين كثيرا. وفَّقنا الله لذلك ووهب العقل للمسلمين وللعالم كله. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك