المعرفة الكاملة وضرورة المكالمة الربانية

إذن فما لم يُظهر الله تعالى وجودَه بكلامه -كما قد أثبت في الحقيقة- لا تكون مشاهدة أفعاله وحدها كافيةً لجلب الطمأنينة للإنسان. فمثلا إذا صادفنا حُجرةً مغلقة من الداخل، يتبادر إلى الذهن -أول وهلة- أن هناك شخصا داخل الغرفة أغلقها من الداخل، لأن إغلاق الغرفة بالقفل الداخلي مستحيل من الخارج. ولكن إذا نادينا مرارا وتكرارا أياما وسنين ولم نتلق جوابا من داخل الغرفة.. بدلنا رأينا وقلنا إنه ليس بداخلها أحد، وتصورنا أن الإغلاق قد تم بحيلة بارعة. وهذا هو حال أولئك الفلاسفة الذين قصروا معرفتهم على المشاهدة فحسب.

وإنه لعمري خطأ كبير أن يُعتبَر الإله كالميت الذي لا يقيمه من ضريحه إلا الإنسان. ولو أن الإله لا يُستدل على وجوده إلا بجهود البشر لكانت كل آمالنا في مثل هذا الإله عبثًا. وإنما الإله هو ذلك الذي ما زال منذ الأزل يدعو الناس إليه بقوله: أنا الموجود. إن من الوقاحة الشديدة أن نظن أن للإنسان على الإله فضلا في معرفته إياه، ومن الوقاحة الشديدة الظن أنه لولا الفلاسفة لبقي الإله مفقودا كما كان. ومن الجسارة الكبيرة أن نقول: كيف يقدر الله على النطق وليس له لسان؟ ألم يخلُق جميعَ الأجرام السماوية والأرض بدون يدَين ماديتين؟ ألا يرى كل الكون بدون عين مادية؟ ألا يسمع دعواتِنا بدون أذنين ماديتين؟ أفليس من الضروري إذن أن يتكلم أيضا هكذا؟ ليس صحيحا أبدا القول بأن الله كان يتكلم فيما مضى ولا يتكلم الآن. كلا! إننا لا نحدد كلامه ومخاطباته في زمن دون زمن. لا جرم أنه سبحانه لا يزال -كما كان- مستعدا ليعطي السائلين عطاء جزيلا من ينبوع وحْيِه، وأن أبواب رحمته مفتوحة الآن كما كانت سابقا. غير أن إنـزال الشرائع والحدود الجديدة قد انتهى لانقطاع الحاجة لذلك، وأن جميع النبوات والرسالات قد تكاملت ببلوغها النقطةَ الأخيرة لها في شخص سيدنا محمد المصطفى .

 

 

الحكمة في بعثة النبي من العرب

إن ظهور هذا النور الأخير من بين العرب لا يخلو من حكمة. كان العرب شعبَا من سلالة بني إسماعيل الذين انفصلوا عن بني إسرائيل، وأُلقيَ بهم -لحكمة إلهية- في برية فاران ومعنى “فارّان” الهاربان. فبنو إسماعيل الذين فصلهم إبراهيم بنفسه عن بني إسرائيل، لم يكن لهم نصيب في شريعة التوراة، كما هو مذكور أنهم لن يرثوا مع إسحاق. وهكذا هجرهم من كان على قرابة معهم، أما الآخرون فما كان لهم من قرابة أو رابطة أخرى معهم. أما البلاد الأخرى فكان بها تقاليد من العبادات وآثار من الأحكام مما يدل على وصول تعاليم الأنبياء إليها في زمن من الأزمان. ولكن بلاد العرب وحدها كانت تجهل تلك التعاليم، وكانت بذلك أكثَرَ البلدان تخلفا، ولأجل ذلك كله جاء دورها في نيل النبوة بعد الجميع. وكانت نبوتها عامةً لتشمل العالمين قاطبة بالبركات مرة أخرى، ولتزيل عنهم ما وقعوا فيه من أخطاء. إذن فأي كتاب ننتظر بعد هذا الكتاب الكامل، الذي تكفل بالإصلاح البشري بأجمعه، ولم يخص قوما دون قوم كالصحف الأولى.. بل توخى إصلاحَ الأمم كلها.. وبين ما يخص التربية البشرية بكل درجاتها.. وعلم المتوحشين الآدابَ الإنسانية.. ثم -بعد أن جعلهم أناسا- أرشدهم إلى الأخلاق الفاضلة؟

 

فضل القرآن المجيد على العالم

إن القرآن وحده هو الكتاب الذي أحسن إلى العالم.. بأنْ ميّز بين الحالات الطبْعية والأخلاق الفاضلة.. وأخرج الإنسان من الحالات الطبْعية إلى ذروة الأخلاق السامية، ولم يكتف بذلك، بل قطع المرحلة الباقية.. وهي الوصولُ إلى مقام الحالات الروحانية. فقد فتح لذلك أبواب المعرفة الحقيقية، ولم يفتح الأبواب المؤدية إلى ذلك المقام فحسب، بل لقد أوصل إليه مئات الآلاف من البشر. وهكذا وضح بكل روعة وجمال الأقسامَ الثلاثة من التعاليم التي سبق ذكرُنا لها. وبما أن القرآن جامع تماما لجميع التعاليم الضرورية للتربية الدينية، لذلك أعلن أنه أكمل دائرة التعليم الديني فقال:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا (المائدة:4)..

أي أن منتهى الكمال الديني يتمثل في معنى الإسلام.. أي أن يكون الإنسان لله وحده.. وأن يبتغي نجاته بالتضحية بنفسه لا بأي طريق آخر، ثم ينفذ هذه النية والإرادة بالعمل. هذه هي النقطة التي تنتهي إليها الكمالات كلها. فالإله الحق الذي لم يهتد إلى معرفته الفلاسفةُ.. قد هدى إليه القرآن الحكيم. ولقد اتخذ لإعطاء معرفة الله منهاجين: الأول ما يصبح به العقل في غاية من القوة والجلاء في استنتاج الأدلة العقلية، ويتقي به الخطأ والعثار. وأما المنهاج الآخر فهو روحاني، وسنذكره -إن شاء الله- في جواب السؤال الثالث.

الأدلة العقلية على وجود الله تعالى

الآن انظروا ما أحسن وما أبدع ما ساقه القرآن الحكيم من أدلة عقلية على وجود الله تعالى. يقول في موضع منه:

رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (طه:51)..

يعني أن الله هو الرب الذي وهب لكل شيء خِلقةً بحسب حاله، ثم هداه إلى ما يستكمل به غايته التي خُلق لأجلها. ولو نظرنا على ضوء معنى الآية إلى بنْية كل المخلوقات الموجودة في البر والبحر من إنسان ودابة وطير لتجلت لنا قدرةُ الله تبارك وتعالى.. كيف أنه وهَب لكل مخلوق بِنْيةً مناسبة له. إن موضوع  الآية واسع جدا، فليتدبره القرّاء بأنفسهم.

والدليل الثاني على وجود الله في القرآن المجيد هو كون ذاتِ الله علةَ العلل، حيث يقول: وَأنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (النجم:43).. أي أن سلسلة الأسباب والمسببات كلها في نظام هذا العالم تنتهي إلى الله سبحانه وتعالى. وبيان ذلك أن جميع الموجودات مرتبطة بسلسلة السبب والمُسبب. ومن أجل ذلك ظهرت أنواع من العلوم في العالم، إذ لا يخرج عَن هذا النظام أي من المخلوقات. فالبعض منها بمنـزلة الأصول، والبعض الآخر منها كالفروع. ومن البديهي أن العِلةَ إما تقوم بذاتها أو بوجود علةٍ أخرى، وهذه تقوم بعلة ثالثة وهلمّ جرّا. ولا يصح أبدا أن تكون سلسلة العلل والمعلولات في الكون المحدود بدون نهايةٍ وحد. وعليه فلا بد من التسليم بأنها – لا محالة – تنتهي بعلة هي العلة الأخيرة. فالمنتهى الذي تنتهي إليه هذه السلسلة من العِلل هو الله تعالى. فتبصروا كيف أن الآية: وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى تبين الدليل المذكور بأبلغ بيان في كلمات قصيرة.

ثم ساق دليلا آخر على وجود الله تعالى قائلا:

لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يس: 41)..

أي لا الشمس تستطيع أن تلحق القمَر، ولا الليل – وهو مظهر القمر – يمكنه أن يتعدى النهارَ – الذي هو مظهر الشمس. أي لا يمكن لأحدهما أن يتجاوز حدودَه المقدرة. فلو لم يكن هناك مدبر ينظم سيرها من وراء الحجب لاختل نظام الكون كله. وهذا الدليل نافع جدًّا للمتفكرين في هيئة الأفلاك.. لأن النظام الفلكي يضمّ عددًا لا يحصى من الأجرام الضخام، بحيث إنه لو وقع فيها خلل ولو كان بسيطًا جدًّا لانْهار العالم كله. فما أعظَمَها من قدرة تتحكم في هذه الأجرام بحيث لا تتصادم ولا تغير مِن سرعتها قِيدَ شعرة، ولا هي تآكلت ولا اندثرت ولا حدَث نقص في أدواتها وأجزائها، مع استمرار العمل طول هذه المدة! فكيف أمكن استمرارُ هذا النظام العظيم الضخم من تلقاء نفسه منذ سنين لا تحصى، إن لم يكن هنالك فوقه مهيمن حفيظ؟ وإلى هذه الحِكم نفسها يشير الله تعالى في موضع آخر بقوله:

أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (إبراهيم: 11)..

أي هل يمكن الشك في وجود الله الذي خلق السماوات والأرض بهذا الشكل؟

كذلك يذكر الله سبحانه دليلا لطيفا آخر على وجوده قائلا:

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ (الرحمن:27-28)..

أي أن كل شيء في معرض الزوال، وأما الباقي فهو الله ذو الجلال والإكرام. ولنفرض أن الأرض تفتَّتَتْ وصارت غبارًا، وانفطرت الأجرام الفلكية وصارت هباءً، وهبَّت عليها عاصفة الفناء فمحت أيَّ أثرٍ منها، ومع هذا فإن العقل يسلم، بل إن الوجدان السليم يرى من الضروري أن يبقى بعد كل هذا الفناء شيء واحد لا يفنى ولا يقبل تغييرا ولا تبديلا، بل لا يزال على حالته الأولى، وذلك الشيء الوحيد هو الله الذي خلق كل الأشياء الفانية ويبقى هو بعيدا عن يد الفناء.

ثم يقدم الله في القرآن الكريم دليلا آخر على وجوده قائلا:

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى (الأعراف:173)..

أي سألتُ الأرواحَ فأجبن كلهن بأني ربهن. وفي هذا الحوار يشير الله تعالى إلى خاصيةٍ غرَسها في فطرة الأرواح، وهي أنه ليس هناك روح تستطيع بفطرتها أن تنكر وجود الله، وإنما ينكره الجاحدون لأنهم لا يجدون في زعمهم دليلا على وجوده تعالى، ولكنهم مع هذا الجحود يسلّمون بأنه لا بد لكل حادث من مُحدِث. لا يوجد في العالم أحمق واحد يصاب بدنه بداء فيصرّ على أن ليس وراء هذا الداء من علّة خفيّة. والحق أنه لولا انضباط نظام هذا الكون بسلسلة العلل والمعلولات، لما أمكن الإنباء أنه في وقت كذا سيأتي الفيضان، أو تهبّ العاصفة، أو يحدث الخسوف أو الكسوف، أو يموت المريض، أو أنه في وقت كيت وكيت يصاب المريض بكذا وكذا من الأعراض. ولذلك فمثل هذا العالمِ الملحد يقرّ بوجود الله تعالى ضمنيًا وإنْ أنكر به علنًا، لأنه يظل -كمِثْلنا- في البحث والتفتيش عن الأسباب للمسبّبات، وهذا أيضا نوع من الإقرار، وإن كان غير كامل.

ثم إننا لو وضعنا المنكِر لوجود الله تحت تأثير مخدر بحيث تتعطل منه جميع إراداته، ويذهل عن أفكار الحياة الدنيا، ويصبح في تصرف ذي سلطان أعلى، لاعترف عندئذ بوجود الله تعالى، ولما كفر به، وقد شهدت بذلك اختبارات كبارِ المجربين. وإلى هذه الحالة تشير هذه الآية، والمراد منها أن الجحود بوجود البارئ يتم بتأثير الحياة الدنيا.. وإلا فإن الفطرة السليمة لتعترف تماما بوجود الله سبحانه وتعالى. (فلسفة تعاليم الإسلام)

Share via
تابعونا على الفايس بوك