الطريق إلى الأضحية

الطريق إلى الأضحية

التحرير

منذ زمن سحيق وبالأخص زمن سيدنا إبراهيم ثم مرورًا بزمن موسى ثم بتابعه سيدنا عيسى (عليهم السلام) وحتى زمن سيدنا محمد المصطفى قطعت (الأُضحية) شوطًا طويلاً كشفت فيه عن حقيقة معناها، والهدف الواضح من استخدامها.

ولأن الأضحية هي القربان المادي أو المعنوي الذي يختاره الإنسان للتقرب من خالقه، علينا أن نكون على دراية وفهم بالغين من معناها الحقيقي كي لا نضل الطريق السماوي كما فعل الأسبقون.

ففي الماضي عندما أراد بني إسرائيل التكفير عن إهمالهم لتعاليم موسى ، هرعوا إلى تقديم القرابين المادية وقادهم إلى ذلك فهمهم السطحي لتعاليم نبيهم المشرع. في حين أن التوراة تنقل لنا تعاليم هذا النبي وهي تصرّح:

“اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ”….. “وَاعْمَلِ الصَّالِحَ وَالْحَسَنَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، لِكَيْ يَكُونَ لَكَ خَيْرٌ” (اَلتَّثْنِيَة 6).

وهي أيضًا تؤكد بشدة على فعل الخيرات والإيمان بوجود إله واحد، وكانت توصي بالعمل بأحكام الشريعة إلى درجة أننا نقرأ:

“فَاحْتَفِظُوا جِدًّا لأَنْفُسِكُمْ أَنْ تُحِبُّوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ”. (يَشُوع 23 : 11).

ولكن بني إسرائيل للأسف لم يفهموا من توراتهم سوى أن التضحية بتيس واحد تمحو كل خطاياهم !! فكان أن ضلّوا وأضلّوا.

وأما الفرع الثاني من بني إسرائيل، وهم النصارى، أتباع سيدنا عيسى فلقد راقت لهم فكرة (التيس) ولكنهم استبدلوه بأحد أبنائهم الأبرار!!

فنجدهم انتظروا المسيح كي يأتي ويموت كأضحية تُكفر عن ذنوبهم وذنوب أجدادهم، وكانت حجتهم في ذلك أن جميع بني البشر ملوثون بخطيئة سيدنا آدم، ولما كان المسيح بلا أب فهو قد ولد نقيًّا وبالتالي سيكون وحده قادرًا على حمل خطايا البشرية جمعاء!!

كلام جميل قد ينخدع به البعض ولكنه يحمل السم في الدسم لأنه يغض الطرف متعمدًا عن كلمات المسيح عيسى نفسه الذي ينفي أن صلبه كان الوسيلة لنجاة البشرية، حتى أنه صاح بصوت عال مؤكدًا أن كل إنسان عليه أن يُصلب على صليب نفسه ليفوز بالنجاة، أتُراهم لم يقرأوا كلماته:

“وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي.” (إِنْجِيلُ مَتَّى 10 : 38)

إن نظرية ولادة المسيح النقية ينفيها المسيح نفسه عندما نجده يقول حسب رواية الإنجيل وهو يرد على شخص ناداه بالمعلم الصالح:

“لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ”. (إِنْجِيلُ مَتَّى 19 : 17)

وعندما جاء الإسلام علمنا القرآن الكريم درسًا بليغًا عن الأضحية لا يمكننا فهمه ما لم نستعد قصة أب وابن رفعا قواعد بيت الله ومعه رفعا أيديهما متوسلين لرب العباد: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة: 128). الأب صدّق الرؤيا أولاً وهمَّ بذبح ابنه ولكن الله افتداه، وعندما كبر ابنه أخذه وأمه استجابة للوحي السماوي إلى بريّة لا طعام فيها ولا ماء. وأما الابن فكان راضخا مستجيبا، يؤمن بوجود خالق حي ينعم على عباده ويكلمهم.

الاثنان يتذللان ويبتهلان بعد أن بنيا بيت الله أن يُتقبل منهما الهداية المتواضعة التي شيدت لتوحيد الإله ومحبته.

إن قصة الأضحية نجد تفاصيلها المؤثرة عند سيدنا ايراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وقد يكون هنا من المفيد أن نذكر بأن كل النعم التي عاشتها أمتنا الإسلامية هي ثمرة تضحية وإخلاص هذا النبي العظيم سيدنا إبراهيم، كانت كلمات دعائه تقول:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (البقرة: 130)

وقد استجاب الله سبحانه بسبب تضحيات إبراهيم إلى دعائه وجاء الرسول العظيم محمد من نسل بني إسماعيل وحقق الأهداف الأربعة المذكورة في الآية وهي أن يتلو على الناس آيات الله، ويعلمهم كتاب الله، ويبين لهم حكمة شريعة الله، ويزكيهم. وهي الأهداف التي صنعت الزاد الحقيقي للأمة الإسلامية التي نهضت من العدم لتقدم للعالم حضارة أذهلت الكثيرين.

ولو تمعنا قليلاً في الأمر لوجدنا أن استجابة الله للدعاء تكفي وحدها كدلالة على صدق رسالة الإسلام.

واليوم ونحن في أيام الحج المباركة نتذكر تلك الأمثولة في التضحية ونغار منها لأنها حملت أسمى ما يمكن أن يحمله الصدق الإنساني. تتراءى لنا مع أيام الحج العلاقة الروحانية الفريدة التي ربطت سيدنا إبراهيم وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل بربهم.

وهنا علينا أن ننتبه إلى أمر من الأمور الهامة التي وضحها لنا الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي للمسيح الموعود ، وهو موضوع الخطأ الذي يقع فيه بعض المسلمين حين يظنون أن أمر الحج يتعلق بقصة استعداد سيدنا إبراهيم لذبح ابنه حسب الرؤيا التي رأها، فقد نبه حضرته إلى أن علينا أن ننتبه إلى المنطقة التي اختيرت لتكون مكان الحج. فلو كان الأمر يتعلق بحادثة الذبح لكان من الأجدى أن يكون الحج إلى الشام حيث حدثت الواقعة، ولكننا نرى أن مكة هي مكان الحج، لأن الأمر يتعلق بتضحية سيدنا إبراهيم الذي ترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع وهو الدرس الذي يعلمنا أن الله سبحانه ينجي من الهلاك من يضحي لأجله، ويكتب له العزة والغلبة، الأمر الذي يدفع كل من يزور ذلك المكان ويتذكر ذلك الدرس، ليزداد حبًا وتقربًا وثقة بخالقه العظيم.

دعونا في هذه الأيام المباركة نتعلم معًا معنى الأضحية، معنى أن نضحي بكل ما نملك في سبيل قرب الله ورضوانه، ومعنى أن نكون مرآة لصفات الله تعالى وأن نذكره في يوم الحج أكثر مما نذكر أنفسنا وآباءنا، لأنه مع تحقق كل تلك التضحيات يمكن للإسلام أن يكون غالبًا على الدنيا بأسرها.

(التقوى)

Share via
تابعونا على الفايس بوك