الغربة

الغربة خُلق من أخلاق القرآن الكريم، وفضيلة من فضائل الإسلام العظيم، وهدي من هدي النبي . وقد استدل كثير من العلماء على فضيلة الغربة بقوله تعالى:

فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (هود: 117).

وقد علق الإمام ابن القيم الجوزية في كتابه (مدارج السالكين) بأن هذه الآية هي كدليل على الرسوخ في العلم والمعرفة للغرباء. فالغرباء في الدنيا هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي في قوله: “بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. فطوبى للغرباء”.

وخرّجه الإمام أحمد (المسند 296:5)، وابن ماجة (سنن ابن ماجة3988) من حديث ابن مسعود ، وخرجه أبو بكر الأجرى (الترمذي 18:5): “..قيل ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس”.

وخرجه غيره عنه (عزاه الهيثمي للطبراني 287:7) : “…قال: الذين يفرون بدينهم من الفتن”.

وخرجه الإمام أحمد والطبراني (الهيثمي287:7) من حديث عبد الله بن عمر عن النبي  قال: “طوبى للغرباء. قلنا ومن الغرباء؟ قال: قوم في ناس سوء كثير، ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”.

وروي عن عبد الله بن عمر (مسلم 2865) مرفوعا وموقوفا: “…قيل: ومن الغرباء؟ قال الفرّارون بدينهم، يبعثهم الله تعالى مع عيسى بن مريم “.

وقد أوضح ابن القيم معنى الغربة بأن ” كل من انفرد بوصف شريف دون أبناء جنسه فهو غريب لعدم مشاركته أو قلته”.

أنواع الغربة

والغربة ثلاثة أنواع:

أولها: الغربة عن الوطن للجهاد في سبيل الله ونشر دينه في جميع أرجاء الأرض بالمال والأبدان والأنفس. وصاحب هذه الغربة محمود. وقد ورد أنه يقاس له في قبره من مدفنه إلى وطنه. وقد توفي بالمدينة رجل، فصلى عليه رسول الله وقال: “ليته مات في غير مولده”! فقال رجل: ولم، يا رسول الله؟ فقال: “إن الرجل إذا مات قِيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة”.

ورُوي أن النبي وقف على قبر رجل بالمدينة فقال: “يا الله، لو مات غريبا”! فقيل: وما للغريب يموت بغير أرضه؟ فقال: ما من غريب يموت بغير أرضه إلا قيس له من تربته إلى مولده في الجنة”.

ثانيهما: غربة الحال، ويراد بالحال هنا هذا الوصف الذي قام به من الدين والتمسك بالسنة. وهذه هي الغربة المحمودة لأن صاحب هذه الغربة أحد ثلاثة أنواع:

  • صاحب صلاح ودين بين قوم فاسدين،
  • صاحب علم ومعرفة بين قوم جهال،
  • صاحب صدق وإخلاص بين أهل كذب ونفاق.

وصفات هؤلاء الغرباء وأحوالهم تنافي صفات من هم بين أظهرهم. فمثل هؤلاء من أولئك كمثل الطير الغريب بين الطيور، أو كمثل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشهوات، فكلهم يكرهونه أو يؤذونه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم.

وقد خرج الطبراني (الهيثمي 261،7) وغيره من حديث أبي أمامة عن النبي أنه قال: “إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيه إلا الفاسق والفاسقان.. فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمعا وقُهرا واضطُهدا. وإن من إدبار هذا الدين أن تجفوا القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونَهيَا عن المنكر قُمعا وقُهرا و اضطُهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوان ولا أنصارا”.

فطبقا لهذا الحديث يكون المؤمن في آخر الزمان عند فساد الدنيا غريبا مقهورا ذليلا لا يوجد له أعوان ولا أنصار.

ثالثهما: غربة الهمة وطلب الحق، لأن صاحب هذه الهمة غريب في أبناء الآخرة فضلا عن أبناء الدنيا، كما أن طالب الآخرة غريب في أبناء الدنيا.

وفي حديث معاذ (مسلم 2277،4) عن النبي : “إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء.. الذين إن غابوا لم يُفتقَدوا، وإن حضروا لم يعرَفُوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم”.

وباستقراء الأحاديث الشريفة الواردة في صفات الغرباء نتبين أن أبرز صفاتهم هي: الصلاح عند الفساد؛ الزيادة عن الغير في  الإيمان ومخالفة أهل البدع؛ والفرار بالدين ليسلم لأهله؛ الحب لسنة النبي ونشرها وتعليمها للناس؛ اتصافهم بالصفاء والخفاء والبراءة.

فهؤلاء، كما يقول ابن القيم، هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس سمُّوا غرباء، لأن أكثر الناس على غير هذه الصفات. فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمتبعون لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في أهل الإسلام غرباء، والمؤمنون الذين يميزون السنة من الأهواء والبدع غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين من المسلمين أشد هؤلاء غربة؛ ولكنهم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله :

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون (الأَنعام: 117).

فهؤلاء هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم الغربة الموحشة.

ولما خرج موسى هاربا من قوم فرعون انتهى إلى أرض مدين على الحال الذي ذكر الله تعالى.. وهو وحيد غريب خائف جائع، فقال: يا رب، وحيد مريض غريب. فقيل له: يا موسى، الوحيد من ليس له مثلي أنيس، والمريض من ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس بيني وبينه معاملة.

من الغرباء اليوم؟

وخير أنواع الغربة غربة أهل الله وأحباب رسول الله؛ ولذلك كانت هي الغربة المحبوبة المرغوبة المطلوبة. وهؤلاء تجدهم الآن في أتباع الجماعة الإسلامية الأحمدية، وذلك لقلة عددهم بين الجهال وهم كثيرون. وتعين اللغة العربية على فهم هذا المعنى فتقول: الغريب عديم النظير؛ والغريب حق الغربة من  كان غريبا في دينه بين الناس لفساد دينهم. فكل فرد من أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية غريب. وأغرب من لا يعرفونهم. فالأحمديون غرباء لأنهم لا يجدون من عامة المسلمين مساعدا ولا معينا. فهم داعون إلى الدين الحنيف، آمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر.. قومًا المعروف فيهم منكر، والمنكر معروف. فهم الصادقون في غربتهم، يؤمنون بأنهم على الحق، ويأنسون بمسيرتهم وربهم معهم يؤنسهم مهما أصابهم من الآخرين.

قد روي عن النبي من غير وجه أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة، على اختلاف الروايات في عدد الزيادات على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة.. وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه. ولفظ الترمذي “تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي.

وقد قال :

“لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق.. لا يضرهم من  خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك”. (البخاري 4، 252 مسلم 170 والترمذي 4، 504 وابن ماجة 3952).

ويقول في حديث آخر : “طوبى يومئذ للغرباء إذ فسد النا”). وقال :

“لا تزال طائفة من المسلمين غرباء في ديارهم مستَعْبَدِين في أوطانهم، أذلةً على الأعداء، أعزةً على إخوانهم.. ذلك لأنهم رضوا بالهون، وتعلقوا بسفاف الأمور. ومن يَهُنْ على نفسه فهو على غيره أشد هوانا”.

ولقد حلقت اليراعة في مجالات قدسية منيرة، وهي تتحدث عن جانب من مجتمع التوحيد الذي وصفه الله جل جلاله أصدَقَ وصفٍ وأزكاه عندما قال:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا (الفتح: 30).

تلك هي القاعدة الأساسية لنهضة المجتمع المسلم، التي تتطابق مع صفات وملامح الجماعة الإسلامية الأحمدية.

ينعت القرآن أبناء الإسلام بهذه الصفة التي تقطر عذوبة ولطفا. إن الرحمة في الإسلام لها ظلالها الممتدة وأبعادها الأصلية، وأجنحتها التي تصعد بها وتحلق في جو كمالات الإنسانية وهي في إطارها المشرق، فتنشر أشعتها الدافئة على المقرور، فتهدأ نفسه ويبتهج خاطره، وتؤوي إليها المحرور، فيذهب عنه ما يعانيه من لسعات الهجير. وهي الأساس السامي الذي دعا إليه سيدنا المهدي والمسيح الموعود والذي عض عليه من بعده أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية؛ فإن من صفاتهم الفذة، وسجاياهم العطرة.. أنهم رحماء، يرحم بعضهم بعضا.. وأن الفرد منهم ليذوب رقة وحبا ومودة لأخيه المسلم، يفرج كربته، ويُقيل عثرته، وينزله من نفسه مكانة طيبة. ولا أدل على ذلك من موقف معظم المهاجرين منهم في شتى أرجاء العالم نحو إخوانهم المضطهدين الذين يتعرضون كل يوم للمظالم والعدوان من الحكام القساة العتاة الجبارين في باكستان. وأين هؤلاء الطغاة من الرحمة كقيمة حضارية تمتد أغصانها العريضة لتشمل بظلها كل من كان بحاجةٍ إليها حتى وإن كان من الكفار أو الحيوان الأعجم. يقول سيد الرحماء.. محمد المصطفى : “دخلت امرأة ٌ النار في هِرَّةً حبستها، فلا هي أطعمَتْها وسَقَتْها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”.

ولقد كان لإنفاق ثروات المسلمين وأموال البترول على مشائخ رابطة العالم الإسلامي وبعض مشائخ الهند وباكستان تأثيره لينشروا دعاياتهم المسمومة ضد الجماعة  الإسلامية الأحمدية.

ومع تزايد الاضطهاد ضد أبناء الجماعة الإسلامة الأحمدية وتآمر الحكومة الباكستانية ضد حضرة الخليفة الرابع لسيدنا المهدي والمسيح الموعود فَرَّ كثير منهم بدينه، وخرج الخليفة إلى مهجره في بريطانيا، ليتمكن من القيام بواجبات منصبه بعيدًا عن مؤامرات محترفي السياسة ومستغلي الدين.. فكانوا كأهل الكهف الغرباء. والحمد لله الذي ينصر عباده عند المحن.. ليصدق فيهم وعليهم قول المصطفى : “الغرباء الذين يفرون بدينهم من الفتن”. وفي هذا ما يدل على أنهم الفئة المنعوتة في حديث النبي الأكرم :

“ما أنا عليه وأصحابي” (الترمذي 7، 400).

وصدق المولى تبارك وتعالى في قوله:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40-41).

فيا أيها الأخ الكريم، إذا تمعنت فيما سبق ذكره وجدت أن جميع ما جاء في الأحاديث الشريفة السابقة مطابق للصفات والسمات الأساسية لأبناء الجماعاة الإسلامية الأحمدية، وهو صفة الغربة، سواء داخل أوطانهم أو خارجها.. فهم غرباء بدينهم القويم ليسلم لأهله، ولنشره وتعليمه للناس، وهم الناهون على المنكر، وهم الفئة الصادقة في تمسكها بالكتاب والسنة، علاوة على أنهم طائفة الغرباء الفارون بدينهم.

اللهم حقق لنا الغربة الحقة. وسبحان من لو شاء لهدى الناس جميعا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك