في عالم التفسير
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ) البقرة: 30)

 شرح الكلمات:

خلق: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم…).

استوى وسوّى: استوى الشيء: اعتدل؛ لم يبق فيه نقص؛ زال اعوجاجه. استوى الطعام: نضج. استوى الإنسان: انتهى شبابه وبلغ أشدَّه. استوى على سرير الملِك، كناية عن التملك. واستوى على الشيء: غلبه، يقول الشاعر: “فلما علونا واستوينا عليهم”. واستوى: علا وارتفع. واستوى إلى شيء: قصده. (الأقرب)

السماء: اسم جنس، يطلق على سماء واحدة أو أكثر، ولأن الضمير (هُنَّ) في قوله تعالى سوّاهن جمعٌ، فالمراد هنا السماوات. (للمزيد راجع شرح كلمات قوله تعالى: (أو كصيب من السماء… إلخ).

فمعنى استوى إلى السماء : قصدها.

وسوّى الشيءَ: جعله سويًا؛ صنَعه مستويًا. وسوَّى به أو بينهما: عدَلهما (الأقرب).

فمعنى سوّاهن : خلَقهن مراعيًا كلَّ ما يلزمهن.

سبع: يراد به الكثرة أيضًا، لأن عدد السبع أو السبعين يستعملان في العربية للتضعيف والتكثير أيضًا. (لسان العرب)

شيء: الشيء هنا بمعنى الأمر.

التفسير:

قوله تعالى هو الذي خلَق لكم ما في الأرض جميعًا يعني أن كل ما في الدنيا مخلوق لفائدة الإنسان. وهذه مسألة لم يقدمها هكذا إلا القرآن الكريم، وهي (أولًا) ردٌّ على الشرك والوثنية، لأن كل شيء ما دام مخلوقًا لنفع الإنسان فلا يمكن أن يكون إِلهًا، لأن الخادم لا يمكن أن يصبح سيدًا. و(ثانيًا) إنها تفتح أبواب ازدهار العلوم، لأن أساس العلوم البحثُ والتحقيق، ولا يمكن أن يبدأ الإنسان في البحث والتحقيق في شيء إلا إذا كان موقنًا أنه سيؤدي إلى علم نافع له. فما دام الله تعالى قد أعلن أن كل شيء في الكون مخلوق لفائدة الإنسان، فثبت (أولاً) أن لا شيء في الدنيا يخلو من فائدة ما، ويجب ألا يُعَدّ حتى أردأ شيء في الدنيا غيرَ نافع، إذ لو ثبت أن أي شيء في الدنيا خال من النفع لَبطلتْ هذه الآية. انظروا كيف بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة العلمية الهامة في عصر الجهل ذلك، إذ كان الناس عندها يعدّون أشياء قليلة جدا نافعةً، أما سائر الأشياء الأخرى فظنوها عديمة الجدوى. ولكن القرآن الكريم قال إن هذا خطأ، فليس هناك شيء عبث، بل كل شيء نافعٌ للإنسان. لقد علم الإنسان فوائد آلاف الأشياء، وسوف تنكشف عليه فوائد الأشياء الأخرى، ومن قال بوجود شيء في الدنيا غير نافع للإنسان فهو جاهلٌ وينكر دعوى القرآن هذه.

و(ثانيًا) تدل هذه الآية أيضا على أن الأشياء النافعة إذا كانت مركبة من عدة أجزاء، فكل جزء منها يكون نافعا للإنسان، لأن الله يقول خلق لكم ما في الأرض جميعًا، وكلمة (جميعا) تشير إلى أن كل شيء مفيد للإنسان، سواء أكان مفردًا أو مركبًا أو ذراتٍ أو مجموعة ذرات. ولو أن العلماء شقّوا الشيءَ المركب وعثروا على جزئياته، لوجدوا الفوائد في مفرداته وذراته أيضًا، ولن يجدوا فيها تلك الفوائد فحسْب، بل ستكون هذه الفوائد نافعة لهم أيضًا.

و(ثالثا) كما بين الله تعالى هنا أن الأشياء التي تبدو ضارّةً لحياة الإنسان أو لجسمه، فيها أيضًا أسباب فائدة الإنسان. فمهما كان الشيء سامًّا لابد أن يكون له ما يفيد الإنسان. ولمعرفة هذا الأمر قد انتفع الناس حتى من الزرنيخ وجوز القيء وسمِّ الأفاعي. ولكن المؤسف أن الإنسان لم يعترف بفضل الكتاب الذي كشف هذه الحقيقة العظيمة حتى قبل هذه البحوث والاكتشافات بزمن طويل.

كما تتضمن هذه الآية الإشارة إلى أن ما في الدنيا هو لمنفعتكم، فلا يصح أن تجعلوه سببًا للفساد والقتال.

وتشير هذه الآية أيضًا إلى أن كل ما في الدنيا تراث مشترك بين الناس قاطبة، فلا يصحّ استعماله بصورة تجعله حكرًا على فرد واحد أو شعب واحد. والإعراض عن هذا المبدأ القيم هو الذي يدفع بأوروبا إلى ما تتعرض له من دمار اليوم، ولو أنهم عملوا بهذا التعليم القرآني لما حصل هذا التباغض والتحاسد بين مختلف الشعوب والطوائف والأفراد. وبناءً على هذا المبدأ نفسه قد أمر الإسلام بالزكاة والصدقات، أعني أن كل الأشياء في هذه الأرض مخلوقة للبشرية جمعاء. ومع أن الإسلام قد سلَّم بالملكية الفردية، ولكنه يقبلها شريطة ألاّ يصبح المستحقون الآخرون محرومين من منافعها كلية.

كما فصلت هذه الآية الكريمة في الجدل الجاري بين الأديان حول حقيقة الدنيا بحكم رائع. فالهندوس مثلاً يرون الحياة الدنيا نجسًا لا يستطيع الإنسان النجاة من دنسها إلا بالهروب منها، وعلى ذلك يؤسسون اعتقادهم بالتناسخ، وبسبب هذه الفكرة يطلقون مصطلح (مُكتي)، أي الخلاص، على الحالة التي يفلح فيها الإنسان في جهوده من أجل التحرر من الدنيا. والخلاص عندهم يعني النجاة من آلام الدنيا.

والمسيحيون أيضًا يرْجون النجاة التي تعني عندهم النجاة من الأذى والآلام. وكأنهم زعموا أن الدنيا نجس أيضًا، حيث جاء في الإنجيل أن المسيح قال لأحد الأثرياء: “فاذهبْ وبِعْ أملاكك، وأعطِ الفقراء، فيكون لك كنزٌ في السماء، وتعال اتبعني” (متى 21:19-22).

والبوذية أيضًا ترى أن الإنسان الناجح هو مَن نال (نيرفانا)، أي الذي قد تخلص من الرغبات كلها. كأنهم يرون أن مجرد الرغبة أمرٌ سيء، ولا يمكن أن تكون الرغبات نوعين: سيئة أو حسنة، بل كلها سيئة.

أما الزرادشتيون فقسَّموا الأشياء نوعين: خير وشر، فانخدعوا بذلك وزعموا أن للدنيا إلهينِ: خالقًا للخير وخالقًا للشر.

فثبت من تعاليم هذه الديانات كلها أنها ترى حقيقة الدنيا على أنها بلاء مكروه، ينبغي تجنبه. ولكن الإسلام واليهودية هما الديانتان الوحيدتان اللتان لا تريان الدنيا عقابًا، مع الفرق أن اليهودية اتخذت الدنيا غاية منشودة، أما الإسلام فهو الدين الوحيد الذي أعلن أن الإنسان قد خُلق في هذه الدنيا لا ليفرّ منها، وإنما ليستخدمها استخدامًا سليمًا لتكون وسيلة لحياته الآخرة.

ولكننا نشاهد في الدنيا اليوم مشهدا غريبا، فإن الذين تقول دياناتهم إن الدنيا نجسٌ وشرٌّ يجب نبْذُه بعيدًا، فإنهم هم الذين يعضّون عليها بالنواجذ، ويُبعِدون عنها المسلمين فقط. ما دامت الدنيا نجسة جدًّا عند هذه الديانات فلماذا جعلها أتباعُها غايتَهم ومقصدَهم فحسب؟

أما قول الله تعالى ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبعَ سماواتٍ ، فقد ظن البعض أنه إشارة إلى خلق السماوات. ولكن هذا ليس صحيحًا، إذ لم ترِدْ كلمة ثم هنا للترتيب، بل جاءت بمعنى (الواو)، إذ قد صرح الله تعالى في آية أخرى أنه خلق الأرض بعد خلق السماوات. فلا داعي لهذا التفسير، لأن الحديث هنا ليس عن خلق السماوات ولا خلق الأرض، فإن الله تعالى لم يقل هنا (خلَق الأرض)، بل قال خلق لكم ما في الأرض ، وهذا لا يمكن أن يُقال إلا بعد خلق الأرض، إذ المراد أن كل شيء في الأرض خُلق لنفعكم. فثبت أن هذه الآية لا تتحدث عن خلق الأرض ولا عن خلق السماء، وإنما بيّن الله تعالى فيها أننا قد خَلقنا كل شيء في الدنيا لفائدتكم، ثم توجهنا إلى الرِفْعة وأكملناها في سبع درجات. فالآية إنما تبين أن الله تعالى خلق كل شيء في الدنيا لنفع الإنسان، ثم جعل للذين ينتفعون منها سبع درجات للرقي، بمعنى أن الذين ينتفعون من أسباب الرقي هذه انتفاعًا سليمًا سينالون أعلى الدرجات الروحانية. لقد سبق أن بينتُ لدى شرح الكلمات أن العدد “سبعة” لا يشير إلى السبع فقط، بل يدل على الكثرة أيضًا، وعليه فيمكن أن تعني هذه الآية أننا خلقنا في الأرض كثيرًا من الأسباب لتعملوا بها وتنتفعوا منها، ثم توجهنا إلى رِفعتكم، أي هيأنا لكم أسباب رقيكم الروحاني، وخلقنا من أجله أسبابًا ملائمة كثيرة.

وأما قوله تعالى: وهو بكل شيء عليم فإشارة إلى الأمر نفسه، أي أنه بعد أن جعل الله تعالى كل ما في الأرض نافعًا للبشر، كان لا بد أن يضع نظامًا يجازي به كلَّ مَن استعمل منهم هذه الأشياء الأرضية -طبقًا لأوامره تعالى- الاستعمال الأمثل بما ينفع الناس ولا يضرهم. فيقول الله تعالى لقد جعلنا درجاتٍ روحانيةً بلا نهاية، لنرفع الذين ينشرون الخير والسلام في الأرض ونبوّئهم في سماء الروحانية. فقوله تعالى إن الله على كل شيء قدير يعني أننا لم نكن غافلين عن مقتضى فعلنا الأول، فبعد خلق كل شيء في الأرض لمنفعة الإنسان، كان لزامًا أن يُعطى الذين يحسنون استخدام هذه الوسائل أعلى الدرجات، ولم نغفل عن ذلك، بل جعلنا لكل واحد منهم في السماء درجاتٍ عليا بحسب عمله. وكأن هذه الآية تتحدث عن الجنة بكلمات أخرى.

وهذه الآية دليل ناصعٌ آخر على صدق الإسلام، فإن الله تعالى قد بيّن فيها أن كتاب الإسلام الذي هو كلام الله تعالى لا يمكن أن يناقض العلوم الطبيعية التي هي شرحٌ لفعل الله تعالى في هذا الكون. ذلك أن غاية العلوم إنما هي معرفة خواص الأشياء، وانكشاف خواصها سيكشف حتمًا صدق الإسلام وصدق هذه الآية، بدلاً من أن يضره. فإذا كان الرقي العلمي يصيب الأديان الأخرى بالقلق مخافة أن يؤدي إلى تفنيدها، فإن الإسلام يفرح بأن التقدم العلمي قد قدّم على صدقه دليلًا آخر.

وكما أن قول الله تعالى فسواهن سبع سماوات يمثل إشارة إلى كثرة الدرجات الروحانية وتعددها، فإنه يرمز أيضا إلى أن سنة التطور والارتقاء سارية في العالم الروحاني كما هي جارية في العالم الجسماني، وأن التطور الروحاني مقسوم إلى درجات كثيرة آخرُها ما ظهَر فيها محمد رسول الله . وحديث الإسراء الذي رأى فيه النبي آدم في السماء الأولى ورأى أنه قد بلغ نهاية السماء السابعة، هو الأخر يتضمن إشارةً إلى أن آدم هو الحلقة الأولى في سلسلة تطور العالم الروحاني، وأن محمدا رسول الله هو الحلقة الأخيرة منها. وكأن العالم الروحي الذي كانت بدايته بآدم قد اكتمل في شخص النبي .

Share via
تابعونا على الفايس بوك