الربا.. مصدر الفتن والمفاسد والحروب
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(275)

التفسير:

هنا بين الله أمورا أخرى تتعلق بالصدقة، فقال: إن عبادنا المؤمنين لا يخصصون للصدقة وقتا معينا أو يوما محددا، وإنما يتصدقون في الليل والنهار، ويتصدقون سرا وعلانية أيضا. لقد ذكر الليل والنهار والسر والعلانية لبيان أن الشريعة الإسلامية تقتضي من المؤمن ألا يأتي عليه وقت لا يشتغل فيه بالخيرات. ولنفس الغرض وزع الله الصلوات على الليل والنهار، وحدد للصيام والحج شهورا قمرية. فبيّن هنا أن عبادنا المؤمنين يتصدقون في مختلف الأوقات حتى لا يخلو وقت من الصدقة، وتمضي رحلة حسناتهم على مدار اليوم وعلى مدار السنة أيضا بسبب الشهور القمرية، فلا يخلو منها جزء من الحسنات.

وقد ذكر الليل أولا ثم النهار، وذكر السر أولا ثم العلانية. وبعبارة أخرى جاء الليل ويقابله السر، ثم النهار وتقابله العلانية. وأشار بهذا الترتيب إلى أن المؤمنين يتصدقون بالليل خفيةً بعض الأحيان حتى لا يعرف الآخذ مَن المعطي؛ كيلا يخجل المتلقي، ولا يصاب المعطي بالكبر والرياء. ثم إنهم يتصدقون وقت النهار علانية لكي يراهم الآخرون، فيتحمسوا لمساعدة الفقراء، ويزدهر القوم.. وإلا فإنهم لا يريدون بالعلانية أي سمعة أو صيت لهم. فالليل تفسير للسر، والنهار تفسير للعلانية. وبيّن أن عباد الله يراعون الأوقات والأحوال.

وقد يعني (بالليل والنهار) أنهم يتصدقون في أحوال العسر واليسر كليهما.

والواقع أننا لو تدبرنا لوجدنا أن شرع الإسلام قد فرض نوعين من الصدقات:

الأول –الزكاة، وتجمعها الحكومة. وقد أسس هذا النظام لكي تُجمع الأموال بصورة مضمونة لإعانة الفقراء. الزكاة إلزامية تأخذها الحكومة كضريبة، ولذلك يشترك فيها الجميع، المخلص وغير المخلص. والثاني-الصدقة، وذلك لكي يتميز المخلصون الذين يتصدقون من تلقاء أنفسهم عن غيرهم، ويرتقوا في المدارج الروحانية. ولكي يكون عند الناس إحساس شخصي بالإنفاق في سبيل الله، وتزدهر فيهم عاطفة العناية والرعاية للفقراء.

ثم إن الزكاة قد فُرضت احتراما لعواطف الفقراء، لأن الحكومة هي التي تجمع أموال الزكاة، والمستحقون من الزكاة لا يعرفون من أعطاهم. ولكن إلى جانب ذلك فرض الصدقة لتحسين العلاقات بين المؤمنين، لأن الصدقة تزيدهم حبا.

إنه من سنن الدنيا أنه إذا لم يُلق الإنسان البذرة في الحقل لا ينبت زرعه، وبحسب هذه السنة يقول الله تعالى: يجب أن تنفقوا شيئا من عندكم حتى نجازيكم. ومما لا شك فيه أن الله قادر على أن ينبت الزرع من دون أن يلقي الإنسان البذرة في الأرض. ولكن الله سنّ قانونا بأنه لا ينبت شيئا إلا إذا ألقى الإنسان البذرة في الأرض. ولذلك قال: أولا ألْقُوا أنتم البذرة ثم انظروا كيف نزيدها ونباركها.

أما قوله (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فيشير إلى أن الفلاّح في بعض الأحيان يُحرَم من ثمرات بذره، كأن يحترق زرعه أو يُسرق أو تصيبه آفة.. فيستولي عليه الخوف والحزن، ولكن الله يقول: هذه الأمور لا تحدث عندنا. ثم إن الإنسان قد ينال محصولا يصل إلى سبعمائة حبة من كل حبة، ولكن الله يجازي بأكثر من ذلك؛ ويمن على الإنسان بنعم لا نهاية لها ولا انقطاع.

يقول البعض إنه لا يمكن للقوم التقدم والازدهار في هذا العصر إلا بالتعامل الربوي. هم كاذبون. لقد كان بين الصحابة من يملك عشرين مليونا (أسد الغابة، ذكر عبد الرحمن بن عوف).. فهل كانوا يتعاملون بالربا؟ لا، إنهم كانوا يعتبرون الربا حراما، فمن الخطأ القول بأن استثمار المال وازدهار الأعمال لا يتم إلا بالربا.

               

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(276)

شرح الكلمات: 

يتخبَّطه-يضربه شديدا. تخبطه الشيطان: مسَّه بأذًى (الأقرب).

المسّ-الجنون لأنه عند العرب يَعْرِض من مس الجن (الأقرب).

التفسير:

في هذه الآية ذكر الله عند الحديث عمن يأكلون الربا أضرارا تترتب على أكله، وتوسع الشقة بين الأثرياء والفقراء، بل تدمر السلام العالمي.

يجب أن نتذكر أن كلمة الربا تشمل كل أنواع الربا. سواء كان هذا الربا من البنوك أو من مكاتب البريد أو من الجمعيات الخيرية أو من الأفراد فهو حرام في كل حال. ولكن الأسف أن المسلمين في هذا الزمن بدءوا يعرِّفون الربا تعريفات عجيبة مرتعبين من الأمم الأوربية. وقد قال البعض إن الإسلام نهى عن ذلك الربا الذي يأخذ فيه الإنسان مبلغا بربح كبير، ولكن إذا أخذ ربحا قليلا فهذا ليس من الربا الممنوع وإنما هو ربح. ومثال ذلك كمثل الكشميري الذي سئل: كم عندك من الأولاد؟ قال: ليس لي أولاد؟ وعندما قام وخرج من تحت قميصه الطويل أربعة أطفال قال السائل:  لمن هؤلاء الأولاد إذن؟ قال: وهل أربعة أولاد أولاد؟ كذلك يقول هؤلاء: وهل فائدة 6 أو 7% ربًا؟ إن الربا هي أن تكون الفائدة 100%!

أما البعض الآخر فقد أجازوا الربا بأخذ الفائدة من غير المسلمين . وأفتى غيرهم أن المسلمين المقيمين تحت حكومات غير إسلامية يجوز لهم أخذ الربا منها (فتاوى دار العلوم ديوبند، للمفتي محمد شفيع). حتى قال البعض إن الربا هو ما يكون فيه مال كبير. ولم يحددوا مقدار المال، وهكذا فتحوا الطريق لكل إنسان وأجازوا أخذ الربا للجميع. مع أن الرسول اعتبر الربا لعنة شديدة حتى قال عنه إن آخذه ومعطيه وشاهده كلهم في النار (الترمذي، البيوع).

الحقيقة أن النهي عن الربا من أسمى تعاليم الإسلام. لا يريد الإسلام أن تجتمع الثروة في أيدٍ قليلة بينما يهلك الآخرون جوعا، وإنما يريد أن تتاح لكل واحد، على قدم المساواة، فرصة للتسابق في مجال الرقي، وأن تتأسس المدنية على أسس سليمة صحيحة، ولذلك لا بد من أن ينتهي التعامل الربوي بكل أنواعه. لأن أكبر ضرر للربا هو أن الأثرياء يتمكنون من الحصول على المال، فيستولون على التجارة والزراعة والحرفة بكل أنواعها، ويعيش الآخرون تحت رحمتهم، فالربا هو الذي كدس الثروة في هذا الزمن في أيد قليلة، ووسع الشقة بين الأثرياء والفقراء.

ولو تدبرنا لوجدنا أن الربا على نوعين: أحدهما ما يأخذه الثري من غيره من الأثرياء من المال لاستثمار أمواله، فيؤدي عليه الزيادة، كما يفعل التجار وأصحاب البنوك. والنوع الثاني ما يأخذه الفقير لسد حاجته من ثري كقرض، ثم يؤدي عليه الفائدة. وقد منع الإسلام من النوعين كليهما. ولم يمنع من إعطاء المال الآخر على زيادة فحسب، بل أيضا منع اقتراض المال من أحد على زيادة. وفضلاً عن منع التعامل الربوي، فإنه جرَّم الشاهدين عليها وكاتبيها أيضا.

وإذا قال أحد التجار مثلا إن لديه عشرة آلاف ويمكنه أن يكتسب بها مليونا، فإذا لم يستثمرها بالاقتراض من البنك أو من الأثرياء  فماذا يفعل؟ فنرد عليه ببساطة: لا بد أن تصبر؛ إن عشرة آلاف تكفيه للعيش فليكتفِ بها. وإذا قيل إن هناك فقيرا يموت جوعا، والأمطار قد تأخرت، والزرع قد تلف، فإذا لم يشتر أدوات الزراعة فكيف يعمل في حقله، وإذا لم يشتر بذرا فكيف يعمل في زراعته.. هل يموت مع أولاده جوعا؟ ليس أمامه خيار إلا أن يقترض؛ ولكن الناس لا يُقرضونه إلا بالربا.. فماذا يفعل؟ هذا السؤال يمثل صعوبة كبيرة.. والمرء يتحير ولا يجد جوابا. من السهل أن نقول لتاجر غني يريد توسيع عمله ألا يقترض ولا يتعامل بالربا وأن يكتفي بما عنده؛ ولكن ماذا نقول لشخص فقير في مثل هذا العسر الشديد؟ لو قلنا فلتصبرْ على جوعك، فكأننا نقول له: مُتْ أنت وأولادك! ولكن مثل هذا الجواب غير معقول. يجب أن يكون عندنا جواب يطمئن له السائل وتطمئن نفوسنا أيضا. فما هو الحل الذي يقدمه الإسلام لمثل هذا الإنسان ؟ لو نظرنا وجدنا أن الإسلام يقترح أن بوسع هذا المعسر –إذا كان عنده عقار –أن يرهنه ويأخذ المال. ولكن إذا لم يكن لدى الفقير المعسر عقار أو شيء يرهنه، أو كان ما عنده لا يمكن الاستغناء عنه كأرض يزرعها مثلا أو معدات يعمل بها.. لو رهنها عند صاحب المال ما استطاع أن يعمل ويسدد دينه.. فالإسلام عندئذ يقدم له حلا عن طريق ما فرضه من ضريبة على الأثرياء؛ فيمكن أن تُستخدم لإعانة مثل هؤلاء الفقراء . ومن ناحية أخرى أوصى الإسلام أنه إذا لم تكف هذه الضريبة فعلى المعارف والأصدقاء من أهل الحي مثلا أن يُقرضوه قرضا حسنا، ثم يعطوه الوقت الكافي للسداد، فقال (فنظرة إلى ميسرة)، أي فلْينظُروا المدين حتى يصلح حالته الاقتصادية بطمأنينة كي يسدد دينه. وفي مثل الجو الإسلامي لا يضطر هذا المعسر إلى اقتراض المال بالربا لأن حاجته قد سُدَّت.

يقول البعض إنه لا يمكن للقوم التقدم والازدهار في هذا العصر إلا بالتعامل الربوي. هم كاذبون. لقد كان بين الصحابة من يملك عشرين مليونا (أسد الغابة، ذكر عبد الرحمن بن عوف).. فهل كانوا يتعاملون بالربا؟ لا، إنهم كانوا يعتبرون الربا حراما، فمن الخطأ القول بأن استثمار المال وازدهار الأعمال لا يتم إلا بالربا. إذا كان الإسلام قد نهى عن الربا من ناحية، فإنه من ناحية أخرى قد أسس نظام الزكاة ونظام الوراثة، مما يحول دون تكدس الثروة في أيدي أفراد وأسر معينة، فيجد كل مجتهد فرصة ليصبح ثريا، ولا يبقى أمام الفقراء أي عائق. فتحريم الربا أمر حكيم للغاية. وقد كره الإسلام التعامل الربوي لدرجة أن من يأخذ الربا فكأنه يخرج على الله تعالى ويحاربه. وكما أن الملوك يتعقبون الخارجين عليهم ويعاقبونهم كذلك يقول الله لمن يأخذون الربا ولا يتوقفون عن التعاملات الربوية: استعدوا لحرب من الله تعالى، لأنكم خرجتم عليه (البقرة:  280).

كما يقولون: إذا كان التعامل الربوي حراما فكيف يمكن العمل بتعليم الإسلام هذا في زمننا هذا؟

لنعلم أن الدين اسم لنظام، ولا يمكن لنظام أن يأتي بنتائج طيبة إلا إذا توطَّد بصورة كاملة. أما إذا طُبّق بصورة ناقصة فلا يمكن أن يتجلى شأنه. فمثلا في هذه الأيام إذا تحدثت مع أحد ضد الربا قال: لا يمكن العيش بدون الربا. ولا يعني ذلك أن المجتمع قد فسد في هذا الزمن لدرجة أن الإنسان مضطر لأكل الربا. وإنما يعني أن الربا هو العلاج عند المصيبة. مع أن الحقيقة هي أن الربا ليس علاجا لمشاكل الإنسان ، وإنما هو مرض يخلقه الإنسان بنفسه، وعلاجه في الإسلام، ولكن هذا العلاج متوقف على نظام. وما لم يتوطد هذا النظام لا يمكن أن ينتفع منه حق الانتفاع. إنه مثل البيت الذي لا يهيئ الحماية والحفاظة ما لم يكتمل جدرانه وسقفه وأبوابه ونوافذه.. كذلك إذا تم العمل بكل تعاليم الإسلام لم تبق هنا حاجة للربا، ولنجا العالم من أضراره.

يمكن أن يضطر الإنسان للتعامل الربوي للأسباب التالية.

أولا- أن يقترض شخص فقير للعيش.

ثانيا- أن يقترض تاجر أو صانع أو فلاح لتوسيع عمله.

ثالثا- أن يقترض شخص عنده عقار ليدفع شدة حلت به فجأة.

أما في الحالة الأولى …فكيف يمكن للفقير الذي لا يجد مائة جنيه أن يقترضها ليسددها مائة وعشرة مثلا. والحال السيئ للفلاحين خير دليل على هذا؟ إنّ ضرْب الميت قسوة وظلم بالغ. ما معنى أن يُثقلَ إنسان بالأعباء وهو ميت؟ فبهذا الظلم يتولد ظلم آخر.. إذ إن المقترضين عندما لا يجدون ما يسددون به الديون فإنهم ينكرون أن عليهم أي دين.

وفي الحالة الثانية حيث يكون الاقتراض لتوسيع العمل، فإن الإسلام قد أجاز للفلاح أن يرهن شيئا من العقار، وبذلك منع الإسلام أن يقترض الإنسان ما لا يستطيع سداده، وفي نفس الوقت فتح طريقا لسد حاجته الضرورية.

أما التاجر والصانع فبوسعه أن يعمل ويُشرك غيره في العمل. أما إذا سُمح له أن يقترض مالا بالربا لتوسيع عمله أو تجارته فإنه إذا خسر في عمله أو تجارته فقد أضاع أموال الناس، وإذا نجح اجتمعت في يده ثروة كبيرة، مما يخالف العدل وضرورات المدنية.

وفي الحالة الثالثة وهي الاقتراض مع وجود عقار للخروج من ورطة مفاجئة، فيُفتي العقل في الظاهر أن يسمح له بالاقتراض الربوي، لأنه يستطيع سداد الدين عند اللزوم، فعنده عقار وعنده صلاحية لكسب المال، وفي ضمان لسداد القرض وعدم التلاعب بأموال الآخرين، كما أنه لن يجمع أموالا زائدة بدون وجه حق.. فلا اعتراض عليه كما في الحالة الأولى أو الحالة الثانية، ولكن السؤال الآن أَمِنَ الأفضل أن يُسمح له بأخذ القرض بالربا لينفتح الباب للتعامل الربوي على مصراعيه، أم أن يُبحث له عن طريق آخر للخروج من مأزقه؟ من المؤكد أنه لو سُمح له بالاقتراض الربوي فإن أصحاب الحالة الأولى والثانية عندئذ يطالبون بأن يسمح لهم أيضا بذلك، وهكذا تبقى هذه اللعنة قائمة في الدنيا. فمن الأفضل أن يفتح باب آخر لسداد حاجته.

إن الإسلام بالنظر إلى هذه الأمور كلها قد قدم تعليما مفصلا، ومغزى هذا التعليم هو:

أولا- ضرورة أن يتيسر لكل إنسان الطعام والشراب والثياب والسكن والعلم.

ثانيا- يجب ألا يجتمع عند أحد مال بدون حدود.

ثالثا- يجب ألا يبقى المال مدخرا عند أحد، بل يجب أن تدور الثروة دائما لينتفع بها الجميع.

رابعا- يجب على الحكومة والمجتمع أن يسدا حاجات المضطر حقا.

وتحقيقا للمبدأ الأول فإن الإسلام يأمر الحكومة أن تهيئ للناس الطعام واللباس والسكن وغيرها.. ولذلك أسس نظام الزكاة والخراج، وفرض على الأفراد أداء الصدقة.

وتحقيق للمبدأ الثاني منع الإسلام من الربا التجاري، لأن الثروة تتراكم بلا حدود بسبب الربا. يقوم الإنسان بالمجازفة بأموال الآخرين.. إذا نجح أصبح من أصحاب الملايين، وإذا خسر ضاعت الأموال، وهي ليست له، وماذا يأخذ منه المقرضون؟ قد يسجنونه، ولكن ما جدوى ذلك؟

ومن ناحية ثانية أمر الإسلام بتوزيع الميراث.. أي تفرق أملاكه وأمواله وأرضه على الورثة، ولم يسمح الإسلام للمورث أن يعطي أمواله واحدا من أولاده حتى لا يجتمع ما كسبه في يد واحدة، فينال بعض الناس تفوقا دائما على الآخرين.

النتيجة الحتمية للربا هي النار.. سواء كانت في صورة حروب، أو في صورة فتن وفساد، ولكن البيع لا يؤدي إلى هذه النتيجة. ثم إن ضرر الربا هذا ليس مؤقتا، بل تستمر نار الفتن هذه في الاشتعال ما دامت اللعنة الربوية مستولية على العالم.

وتحقيقا للمبدأ الثالث أسس الإسلام نظام الزكاة والميراث ومنع التعامل الربوي. وتحقيقا للمبدأ الرابع أسس نظام الزكاة والصدقات والرهن أو القبض أو بيع السَّلم. وهكذا قدم الإسلام نظاما مكتملا مبينا على هذه الأسس. فإذا طُبق هذا النظام بصورة كاملة، ومع ذلك بقي نقص أو عيب.. عندئذ حق الاعتراض على تعاليم الإسلام. أما إذا عملوا بالنظام الربوي الغربي، وفي نفس الوقت اعترضوا على الإسلام، وقالوا ما هو العلاج الذي يقدمه الإسلام بديلا للربا، فهذا الاعتراض يعتبر لغوا محضا.

وقوله (يتخبطه الشيطان من المس). المس هو الجنون. والجنون يسبب انحرافا في أعمال الإنسان، ويُفقده إعمال الفكر والتدبر. فقوله هذا يعني أن أعمال من يتعاملون بالربا تكون كأعمال شخص ركبه الجنون؛ فلا يتصرف في وقار واطمئنان، وإنما يأتي عمله بسرعة وعجلة وعدم مبالاة. كذلك آكلو الربا. تكون أعمالهم موصومة بعدم الأناة واللامبالاة وقلة الحذر. ومن الملاحظ عموما بين المتعاملين بالربا أنهم يثيرون فتنا تؤدي إلى الحروب لكي تستثمر أموالهم. فكأنهم كالمجنون الذي لا يبالي بالنتائج.. لأنهم يعطون أموالهم لتربو بالربا دون نظر إلى النتيجة والمال. كل همهم أن تحدث الفتن، ويقترض الناس منهم الأموال بالربا.. وهكذا تزداد ثروتهم.

ثم إن الحكومات الكبيرة تقترض الأموال بالربا بما يفوق قدراتها، ثم تبدأ في الحروب الدموية غير مكترثة بالعواقب، والحقيقة أن الحروب الطويلة التي تنهك الأمم وتسحقها سحقا، ويُقتل فيها الرجال، وتترمل النساء، ويتيتَّم الأطفال بالملايين، إنما تطول وتستمر فقط بدعم مالي من أموال الربا. ففي الحرب العالمية الأولى (1914-1918)بلغت تكلفة الحرب للحكومة الإنجليزية سبعين مليون روبية يوميا، أما الحكومة الألمانية فكانت تتكلف أكثر من ذلك. ولو لم يكن هناك طريق الأموال الربوية لما استطاعت حكومة ألمانيا تحمل هذه النفقات لسنة واحدة فقط، ولنفدت مدخراتها في فترة أقل من ذلك. ولكنها غطت نفقاتها هذه عن طريق أموال الربا لسنين طويلة. كان الربا هو الأساس لهذه الحرب. صحيح أن دول الحلفاء حاربت دفاعا. ولكن ما الذي شجع ألمانيا على شن الحرب؟ إنه الربا. كانت الحكومة الألمانية ترى أنها تستطيع في حالة الحرب الحصول على المال بطريق الربا لمواصلة الحرب. لو كان باب الحصول على الأموال بالربا مسدودا أمامها ما فكرت في استمرار هذه الحرب الكبيرة، لو أنها فرضت الضرائب مباشرة على الناس ما استمروا في الحرب لسنة واحدة، ولحدثت ضجة في البلد وقالوا: لا نستطيع تحمل هذه الأعباء، ولكن الحكومات تترك الناس غافلين عن الأعباء الثقيلة التي تتحملها الحكومات لإطالة الحرب.. مستعينة بأموال اقترضتها بالربا.

فالربا من أهم أسباب الحروب. ولذلك ذكر الله مسألة الربا بعد ذكر الحرب. لأن للربا صلة عميقة بالحروب.

ثم قال (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا).. أي أنهم يأكلون الربا بحجة أنه نوع من التجارة. فيرد الله عليهم مفندا قولهم: (وأحل الله البيع وحرم الربا)؛ إنهما في نظركم سيان، ولكن الله لا يراهما كذلك، بل أحل البيع وحرم الربا، فتحليله لشيء وتحريمه لشيء آخر يبين أنهما ليسا سِيَّيْن، وما دام الله قد منع أحدهما فلا بد أن وراءه حكمة. وقد سبق هذه الحكمة من قبل.

والواقع أن المدنية التي يريد الإسلام توطيدها إنما تتأسس على الإحسان للآخرين والنهوض بالفقراء، ولكن المتعاملين بالربا لا يعرفون الإحسان للآخرين، وإنما ينظرون دائما إلى ازدياد ثروتهم، ولو بخنق الآخرين. فما دام التعامل الربوي يسدّ باب الإحسان للآخرين والنهوض بالفقراء، ويفتح باب الحروب على مصراعيه.. لذلك نهى الله عنه نهيا تاما.

أما إيجار البيت والمحل فهذا شيء آخر، لأن هذه الأموال تؤخذ في نظير استهلاك المبنى الذي قد يتهدم ويحتاج إلى صيانة وإصلاح، ولا بد أن يكون هناك ضمان لذلك. وكذلك التجارة شيء آخر، لأن فيها تبادل مال مكان مال آخر. ومن الحمق إذن اعتبار البيع والربا سِيَّيْن.

وقال (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله).. من جاءته نصيحة من الله فارتدع بسماعها عن التعامل الربوي، فإننا لن نسأله عما سبق منه من تقصيرات، فعليكم أيضا أن تفوضوا أمره إلى الله، وتقبلوا منه توبته. أما إذا رجع عن توبته وتعامل بالربا فلا بد أن يستحق العقاب.. قال (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. فأشار بذلك إلى أن الناس يقولون لا فرق بين الربا والبيع، ولكن لِم لا يفكرون في أنه إذا لم يكن بينهما فرق فلماذا أحل الله أحدهما وحرَّم الآخر؟ ثم لماذا عفا عن الذين انتهوا عن التعامل الربوي، ولماذا يعاقب من يرجع إلى الربا مرة أخرى؟ هذا دليل على أن الربا والبيع لا يتماثلان. النتيجة الحتمية للربا هي النار.. سواء كانت في صورة حروب، أو في صورة فتن وفساد، ولكن البيع لا يؤدي إلى هذه النتيجة. ثم إن ضرر الربا هذا ليس مؤقتا، بل تستمر نار الفتن هذه في الاشتعال ما دامت اللعنة الربوية مستولية على العالم. وإلى ذلك يشير قوله (هم فيها خالدون).

الترتيب والربط:

في الآيات السابقة ذكر الله إنفاق المال على الفقراء في سبيله. وقد يظن بذلك أحد: لماذا يُعطى المال بالربا حتى يجد الفقراء ما يسدون به حاجتهم، وكذلك ينفق المنفقون بشوق ورغبة؟ فيبين الله أن الذي يعطي الأموال بالربا يكون حاله كحال المجنون، ويصبح كدودة العَلِق يمتص الدماء، ولا يقدر على التفكر والتدبر، ولا تبقى فيه عاطفة المواساة والمؤاخاة. ثم إن المرابي يصبح كسولا.. يعرف أنه سوف يحصل على المال في كل حال، ولا حاجة له في العمل المنتج، ويريد الإسلام أن يجتهد كل إنسان ويصبح وجودا نافعا للبلد والشعب.

ثم ذكر الربا بعد الصدقات أيضا، لأن الذي يتخلّى عن أمواله لله.. أي ينفقها في سبيله تعالى.. يسهل عليه أن يَدَعَ أموال الآخرين الربوية ولا يأخذها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك