جانب من بطولات المسلمين وتضحياتهم في حرب اليمامة

جانب من بطولات المسلمين وتضحياتهم في حرب اليمامة

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • ما الخير العائد على الأمة ببركة شهدائها في مواجهة فتنة الردة في اليمامة؟
  • أي تضحية قدمتها النساء المسلمات في تلك الحرب؟

____

خطبة الجمعة التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي بتاريخ 10/6/2022م

في مسجد مبارك بإسلام آباد، بريطانيا

تنويه: العنوان الرئيسي والعناوين الجانبية من إضافة أسرة التقوى

بعد التشهد والتعوذ وقراءة سورة الفاتحة استهل حضره الخطبة

تضحية عباد بن بشر

كنت أتحدث عن أحداث حرب اليمامة في سياق ذكر سوانح سيدنا أبي بكر ، وقد ورد بهذا الصدد أيضا: قال أبو سعيد الخدري: سمعتُ عبادَ بن بشر يقول: حين فرغنا من بزاخة، رأيتُ الليلةَ كأن السماء فُرجتْ، ثم أُطْبِقتْ عليَّ، فهي إن شاء الله الشهادةُ. قال أبو سعيد: قلتُ: خيرا إن شاء الله. فكنت أنظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار ويقول: أخلِصونا، فأخلَصوا أربعُمائة رجل، يقدُمهم البراءُ بنُ مالك وأبو دجانةَ سماكُ بنُ خرشة وعبادُ بن بشر، حتى انتهوا إلى باب الحديقة. قال أبو سعيد: فرأيت بوجهِ عباد، يعني بعد قتله، ضربًا كثيرا، وما عرفتُه إلا بعلامةٍ كانت فى جسده.

بسالة أم عمارة رضي الله عنها

وهناك ذكرُ أم عمارة رضي الله عنها، وكانت صحابية ومِن أشجع النساء في تاريخ الإسلام. اسمها نُسَیْبة بنتُ کعب. شهدت غزوةَ أحد وقاتلت ببسالة عظيمة. وطالما كان المسلمون منتصرين كانت تملأ القِرَب بالماء وتسقي الناس، ولكنهم لما هُزموا هُرعت إلى النبي تحميه من الكفار، وكلما اقتربوا منه تصدت لهم بالسهام والسيف. وقال النبي عنها فيما روِي عن يوم أُحد: «ما التفتُّ يمينًا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتلُ دوني، يعني أمَّ عمارةَ»(1). ولما خلص ابن قمئة إلى النبي تصدت له أم عمارة وأوقفته، فضربها بسيفه فأصيبت في كتفها بجرح عميق. ثم ضربته هي بالسيف ضربة لكن بدون جدوى إذ كان في درع مضاعف.

باختصار هذه هي المكانة العالية لأم عمارة في التاريخ، وكانت تقول: إن ابنها عبد الله هو الذي قتلَ مسيلمةَ الكذاب. وكانت ممن شهد ذلك اليوم، وقُطعتْ فيه يدها. وورد عن سبب مشاركة أم عمارة في هذه المعركة ما يلي: كان ابنها حبيب بن زيد بأرض عُمان مع عمرو بن العاص رضي الله عنهما عندما توفي رسول الله ، فلما بلغ ذلك عَمرًا أقبل من عمان، فاعترض له مسيلمة، فسبقه عمرو، وكان حبيب بن زيد وعبد الله بن وهب الأسلمي في الخلف، فأسرهما مسيلمة، فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ فقال الأسلمى: نعمْ، فأَمر به مسيلمة فحُبس فى حديد، حيث لم يصدق الأسلميَّ فيما قال بل ظن أنه قالها لينجو بنفسه. وقال مسيلمة لحبيب: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع. فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعمْ. فأمر به فقُطع قطعًا كثيرة. وكلما قال له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله، قال: لا أسمع، فإذا قال له: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال: نعم، فلم يزل به حتى قطعه عضوا عضوا، فقطع يديه من المنكبين ورجليه من الوركين، ثم حرقه بالنار، وهو كل ذلك لا ينزع عن قوله، كما لا يرجع مسيلمة عن تصرفه، حتى استُشهد في النار.

فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل، فقال لبيك بلسان ملتاث، ثم قال: لمن الدبرة، فقلت: أبشر ورفعت صوتي، قد قتل عدو الله مسيلمة، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات. قال ابن عمر: فأخبرت أبي بعد أن قدمت بخبره كله، فقال: رحمه ‌الله، ما زال يسأل الشهادة ويطلبها

وفي رواية أخرى أن حبيب ذهب برسالة إلى مسيلمة، فقطعه مسيلمة عضوا عضوا، فاستُشهد، وأحرقه في النار.

لما بلغ أمَّ عمارة استشهادُ ابنها حلفتْ بالخروج بنفسها لمواجهة مسيلمة، فإما تقتله أو تُقتَل وتُستَشهد في سبيل الله تعالى.

ولما هيأ خالد بن الوليد جنده للمسير إلى اليمامة جاءت أم عمارة إلى أبي بكر الصديق  ، فاستأذنته في الخروج للقتال، فقال لها أبو بكر: “ما مثلك يحال بينه وبين الخروج،  فاخرجي على اسم الله”(2). وقد خرج أحد أبنائها مع هذه الجنود.

تقول أم عمارة: «فلما انتهوا الى اليمامة واقتتلوا، تداعت الأنصار: أخلصونا، فأخلصوا. قالت: فلما انتهينا الى الحديقة ازدحمنا على الباب، وأهل النجدة من عدوّنا فى الحديقة قد انحازوا يكونون فئة لمسيلمة فاقتحمنا فضاربناهم ساعة و اللّه ما رأيت أبذَلَ لمهج أنفسهم منهم، وجعلت أقصد عدوّ اللّه مسيلمة لأن أراه ولقد عاهدت اللّه لئن رأيته لا أكذب عنه أو اقتل دونه وجَعَلَتْ الرجالُ تختلط والسيوف بينهم تختلف وخرس القوم فلا صوت إلا وقع السيوف، حتى بصرت بعدوّ اللّه فشددت عليه و عرض لى منهم رجل فضرب يدى فقطعها فواللّه ما عرّجت عليها حتى انتهيت الى الخبيث وهو صريع وأجد ابنى عبد اللّه قد قتله. وفى رواية وابنى يمسح سيفه بثيابه. فقلت: أقتلته؟ قال: نعم يا أماه! فسجدت للّه شكرا، وقطع اللّه دابرهم فلما انقطعت الحرب ورجعت إلى منزلى جاءنى خالد بن الوليد بطبيب من العرب فداوانى بالزيت المغلى، وكان واللّه أشدّ علىّ من القطع، و كان خالد كثير التعاهد لي، حسن الصحبة لنا، يعرف لنا حقنا ويحفظ فينا وصية نبينا.»(3)

وقال عباد:

«قلت يا جدّة كثرت الجراح فى المسلمين فقالت يا بني لقد نحاجز الناس وقتل عدوّ الله وانّ المسلمين لجرحى كلهم لقد رأيت ابنى أبى مجروحين ما بهم حركة ولقد رأيت بنى مالك بن النجار بضعة عشر رجلا لهم أنين يكمدون ليلتهم بالنار ولقد أقام الناس باليمامة خمس عشرة ليلة وقد وضعت الحرب أوزارها وما يصلى مع خالد بن الوليد من المهاجرين والانصار الانفر يسير»(4)

 وقالت أيضا: وإني أعلم أن طيئا قد أبلت يومئذ بلاء حسنا. لقد سمعت عدي بن حاتم يومئذ يصيح بهم: صبرًا، فداكم أبي وأمي. وقد قاتل ابني زيد يومئذ بمنتهى الشجاعة.

في رواية «جرحت أم عمارة يوم اليمامة أحد عشر جرحا بين ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح وقطعت يدها سوى ذلك وكان أبو بكر يأتيها ويسأل عنها وهو يومئذ خليفة»(5)

وقاتل كعب بن عجرة يومئذ، وانهزم الناس الهزيمة الآخرة، وجاوزوا الرحال منهزمين، فجعل يصيح: يا للأنصار، يا للأنصار الله ورسوله، حتى انتهى إلى محكم بن الطفيل، فضربه محكم، فقطع شماله، فوالله ما عرج عليها كعب، وأنه ليضرب بيمينه، وإن شماله لتهراق الدماء، حتى انتهى إلى الحديقة، فدخل.

وأقبل حاجب بن زيد بن تميم الأشهلي يصيح بالأوس: يا للأشهل، فقال له ثابت ابن هذال: ناد يا للأنصار، فإنه جماع لنا ولك، فنادى: يا للأنصار، يا للأنصار، حتى اشتملت عليه حنيفة، فانفرجت، وتحته منهم اثنان قد قتلهما، وقُتل، فخلفه فى مقامه عمير بن أوس، فاشتملوا عليه حتى قتل.

وكان أبو عقيل الأزرقى، حليف الأنصار، بدري من أول من خرج يوم اليمامة، رمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فشطب فى غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: يا للأنصار، الله الله والكرّة على عدوكم، قال أبو عمرو: ونهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال، قال: قد نوه المنادي باسمي، فقلت: إنما يقول: يا للأنصار، لا يعني الجرحى، قال: فأنا رجل من الأنصار، وأنا أجيب ولو جبنوا، قال ابن عمر: فتحزّم أبو عقيل، فأخذ السيف بيده اليمنى مجردا، ثم جعل ينادى: يا للأنصار، كَرّة كيوم حنين، فاجتمعوا جميعا يقدمون المسلمين دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا (أي قاتلوا الأعداء بشدة) واختلفت السيوف بيننا وبينهم، فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة. فوقعت إلى الأرض، وبه أربعة عشر جرحا، كلها قد خلصت. قال ابن عمر: فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل، فقال لبيك بلسان ملتاث، ثم قال: لمن الدبرة، فقلت: أبشر ورفعت صوتي، قد قتل عدو الله مسيلمة، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات. قال ابن عمر: فأخبرت أبي بعد أن قدمت بخبره كله، فقال: رحمه ‌الله، ما زال يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمت لمن خيار أصحاب نبينا ، وقديمي إسلامهم.

كان مجاعة بن مرارة أحد رؤساء بني حنيفة، ذكر يوما معنَ بن عدي، وكان نازلا به ليالي قدم على رسول الله ، مع خلة كانت بينهما قبل ذلك قديمة، فلما قدم في وفد اليمامة على أبي بكر، توجه أبو بكر يوما إلى قبور الشهداء زائرا لهم فى نفر من أصحابه يمشون، قال: فخرجتُ معهم حتى أتوا قبور الشهداء السبعين، فقلتُ: يا خليفة رسول الله، لم أر قوما قط، أصبر لوقع السيوف، ولا أصْدق كرة منهم، لقد رأيت رجلا منهم، رحمهم الله، وكانت بيني وبينه خلة، فقال أبو بكر : معن بن عدي؟ قلتُ: نعم، وكان عارفا بما كان بيني وبينه، فقال: رحمه ‌الله، ذكرت رجلا صالحا، حديثك، قلتُ: يا خليفة رسول الله، فأَنظر إليه وأنا موثق في الحديد في فسطاط ابن الوليد، وانهزم المسلمون، انهزمت بهم الضاحية انهزامة ظننت أنهم لا يجتبرون لها، وساءني ذلك، قال أبو بكر: لساءك ذلك؟ (لأنه كان ارتد لذلك كان محبوسا) قلت: الله لساءني، قال أبو بكر: الحمد لله على ذلك، قال: فأنظر إلى معن بن عدي قد كرّ معلّما فى رأسه بعصابة حمراء، واضعا سيفه على عاتقه، وإنه ليقطر دما، ينادي: يا للأنصار، كرة صادقة، قال: فكرّت الأنصار عليه، فكانت الوقعة التي ثبتوا عليها حتى انتحوا وأباحوا عدوهم، فلقد رأيتنى وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى بني حنيفة، وإني لأنظر إلى الأنصار وهم صرعى، فبكى أبو بكر ، حتى بل لحيته.

وعن أبي سعيد الخدري، قال: دخلت الحديقة حين جاء وقت الظهر، واستحر القتال، فأمر خالد بن الوليد المؤذن، فأذن على جدار الحديقة بالظهر، والقوم يضطربون على القتل، حتى انقطعت الحرب بعد العصر، فصلى بنا خالد الظهر والعصر، ثم بعث السقاة يطوفون على القتلى، فطفت معهم، فمررت بأبي عقيل الأنصاري البدري، وبه خمسة عشر جرحا، فاستسقاني، فسقيته، فخرج الماء من جراحاته كلها، ومات رحمه الله. ومررت ببشر بن عبد الله وهو قاعد في حشوته فاستسقاني فسقيته فمات(6)

وعن محمود بن لبيد قال: لما قتل خالد بن الوليد من أهل اليمامة من قتل، كانت لهم في المسلمين أيضا مقتلة عظيمة، حتى أبيح أكثر أصحاب رسول الله ، وكان فيمن بقي من المسلمين جراحات كثيرة.

حین أخبر خالد بقتل مسیلمة خرج بمجاعة يرسف في الحديد ليدله على مسيلمة، فجعل يكشف له القتلى دون أن يجده، ثم دخل الحديقة فإذا رويجلٌ أصيفر أخينس، فقال مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه. وقال خالد: هذا الذي فعل بكم ما فعل.

وبما أن مجاعة الأسير كان من زعماء بني حنيفة، وكان يريد أن ينقذ قومه لأن كثيرًا من رجال قومه قد قتلوا. فاحتال لإنقاذ من كان في الحصون، فعقد مخادعًا معاهدة الصلح مع خالد بن الوليد، فقال مجاعة لخالد: ما جاءك لمحاربتك إلا سرعان الناس، وإن الحصون مملوة من المحاربين، فقال خالد: ويحك، ماذا تقول؟ قال مجاعة: والله ما أقوله صحيح، فهلم إلى الصلح على ما ورائي. (لقد خدع بهذا القول، كما سيتضح ذلك لاحقًا).

كان خالد قد رأى خسارة أرواح المسلمين في هذه المعركة المخيفة لذلك رأى أنه ما دام قد قتل رئيس بني حنيفة وزعيم المتمردين مع أصحابه، فينبغي أن تصان دماء المسلمين من المزيد من الخسارة، فقبل الصلح. أخذ مجاعة ضمان الصلح من خالد وقال: أنطلق إليهم فأشاورهم. فانطلق إليهم وهو يعرف أنه ليس في الحصون إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ورجال ضعفاء، فألبسهم الحديد وأمر النساء أن ينشرن شعورهن ويشرفن على الحصون حتى يرجع إليهم. فرجع إلى خالد فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما صنعت، فرأى خالد الحصون مملوة، (لأنه ألبس النساء الحديد وأجلسهن هناك) وقد أنهكت المسلمين الحرب وطال اللقاء وأحبوا أن يرجعوا على الظفر ولم يدروا ما هو كائن، فصالحه على شروط مرنة نسبيًا أي على الذهب والفضة والسلاح ونصف السبي، وقيل ربعه.

فلما فتحت الحصون لم يكن فيها إلا النساء والصبيان والضعفاء، فقال خالد لمجاعة: ويحك خدعتني! فقال: هم قومي (وكان عليّ إنقاذهم) ولم أستطع إلا ما صنعت.

ووصل كتاب أبي بكر إلى خالد أن يقتل كل محتلم، وكان قد صالحهم، فوفى لهم ولم يغدر لأنه كان قد أعطاهم أمانًا. فكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر خطابًا ذكر فيه حال المسلمين وأسباب تصالحه، سُرّ أبو بكر بقراءته واطمأن. ولما فرغ خالد من الصلح، أمر بالحصون فألزمها الرجال، وحلف مجاعة بالله لا يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه، ولا يعلم أحدًا غيبه إلا رفعه إلى خالد، ثم فتحت الحصون، فأخرج سلاحا كثيرا، فجمعه خالد على حدة، وأخرج ما وجد فيها من دنانير ودراهم، فجمعه على حدة، وجمع كراعهم، ثم أخرج السبي، فقسمه قسمين، ثم أقرع على القسمين، ووزن الذهب والفضة، فعزل الخمس، وقسم على الناس أربعة الأخماس، وأسهم للفرس سهمين، ولصاحبه سهما، وعزل الخمس من ذلك كله، حتى قدم به على أبي بكر الصديق.

وحشر بنو حنيفة للبيعة والبراءة مما كانوا عليه من نبوة مسيلمة؛ وجيء بهم إلى خالد في عسكره، فبايعوا وأعلنوا براءتهم من الردة ورجوعهم إلى الإسلام، وبعث خالد بوفد منهم إلى أبي بكر بالمدينة، فلما قدموا عليه قال لهم: «وَيْحَكُمْ! مَا هَذَا الَّذِي اسْتَزَلَّ مِنْكُمْ مَا اسْتَزَلَّ؟! قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، قَدْ كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ مِمَّا أَصَابَنَا كَانَ امرا لَمْ يُبَارِكِ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ وَلا لِعَشِيرَتِهِ فِيهِ.»(7)

هناك رؤيا لأبي بكر الصديق، كان أبو بكر حين وجه خالدا إلى اليمامة، رأى في المنام كأنه أتي بتمر من تمر هجر، فأكل منها تمرة واحدة وجدها نواة على خلقة التمرة، فلاكها ساعة ثم رمى بها، فتأولها، فقال: ليلقين خالد من أهل اليمامة شدة، وليفتحن الله على يديه إن شاء الله. فكان أبو بكر يستروح الخبر من اليمامة بقدر ما يجيء رسول خالد، فخرج أبو بكر يوما بالعشي إلى ظهر الحرة، يريد أن يبلغ صرارًا (موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة)، ومعه عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، ونفر من المهاجرين والأنصار، فلقي أبا خيثمة النجاري وقد أرسله خالد، فلما رآه أبو بكر قال له: ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال: خيرًا يا خليفة رسول الله، قد فتح الله علينا اليمامة.

يقول الراوي: إن أبا بكر سجد. قال أبو خيثمة: وهذا كتابُ خالد إليك، فحمِد اللهَ أبو بكر وأصحابُه، ثم قال: أخبرْني عن الوقعة، كيف كانت.

فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد، وكيف صفَّ أصحابَه، وكيف انهزم المسلمون، ومَن منهم قد استُشهد، وجعل أبو بكر يسترجع ويترحَّم عليهم، وجعل أبو خيثمة يقول: يا خليفة رسول الله ، أتينا من قبل الأعراب، انهزموا بنا وعوَّدونا ما لم نكن نحسن، حتى أظفرَنا الله بعد، ثم قال أبو بكر: كرهتُ رؤيا رأيتها كراهيةً شديدةً، ووقع فى نفسى أن خالدا سيَلقى منهم شدةً، وليت خالدًا لم يصالحهم، وحملَهم على السيف، فما بعد هؤلاء المقتولين يُستبقى أهلُ اليمامة، ولن يزالوا من كذَّابهم مسيلمة فى بلية إلى يوم القيامة، إلا أن يعصمهم الله، ثم قدم بعد ذلك وفدُ اليمامة مع خالد على أبي بكر .

الخير العائد على الأمة ببركة شهداء اليمامة

اختلفت الأقوال في عدد القتلى من المرتدين في هذه المعركة فيقال أنه قُتل عشرة آلاف مرتدٍّ تقريبا، وورد في رواية أنهم كانوا واحدا وعشرين ألفا، بينما استُشهد قرابة خمسمائة أو ستمائة مسلم، وفي بعض الروايات ورد أن عدد الشهداء من المسلمين سبعمائة، وألف ومائتان، وقيل ألف وسبعمائة، وفي رواية أنه قد قُتل في هذه الحرب أكثر من سبعمائة حافظٍ للقرآن الكريم، فكان من بين الشهداء عدد كبير من أكابر الصحابة وحفاظ القرآن، وكان لهم مكانة عظيمة جدا في المسلمين، فكانت شهادتهم كارثة كبيرة، إلا أن شهادة هؤلاء الحفاظ تسببت لاحقًا في جمع القرآن. وأسماء بعض الصحابة المشهورين من هؤلاء الشهداء، سيدنا زيد بن الخطاب، وسيدنا أبو حذيفة بن ربيعة، وسيدنا سالم مولى أبي حذيفة، وسيدنا خالد بن أُسيد، وسيدنا حَكم بن سعيد، وسيدنا الطفيل بن عمرو الدوسي، وسيدنا السائب بن العوام أخو سيدنا الزبير بن العوام، وسيدنا عبد الله بن الحارث بن قيس وسيدنا عباد بن الحارث، وسيدنا عباد بن بِشر، وسيدنا مالك بن أوس وسيدنا سراقة بن كعب، وسيدنا معن بن عدي، وخطيبُ رسولِ الله سيدُنا ثابت بن قيس بن شماس، وسيدنا أبو دجانة، وسيدنا عبد الله الابنُ المؤمن الصادقُ لعبد الله بنِ أبي بن سلول رئيسِ المنافقين، وسيدُنا يزيد بن ثابت الخزرجي رضي الله عنهم.

وقد وقعت معركة اليمامة عند بعض المؤرخين في ربيع الأول من السنة الثانية عشرة من الهجرة، وعند البعض كانت في أواخر السنة الحادية عشرة، ويمكن التوفيق بينهما، أنها بدأت في الحادية عشرةَ وانتهت في الثانية عشرةَ.

القاسم المشترك بين كل أدعياء النبوة في فجر الإسلام

يقول سيدنا المصلح الموعود : كان جميع المدَّعين الذين قاتلَهم الصحابةُ متمردين على الحكومة الإسلامية، وأعلنوا الحرب ضدها، أما مسيلمة فكان بنفسه قد كتب إلى رسول الله في حياته أنه قد أُمر بأن نصف بلاد العرب له والنصف الآخر لقريش، وكان قد طرد بعد وفاة النبي حاكم هَجَر واليمامة منها سيدنا ثمامة بن أثال، وتولى بنفسه الحكم على تلك المنطقة، وهاجم المسلمين. وكذلك اعتقل اثنين من الصحابة وهما سيدنا حبيب بن زيد وسيدنا عبد الله بن وهب، وأراد أن يستصدر منهما الإيمان بنبوته قسرا، فقبِل طلبَه عبدُ الله بن وهب خوفًا، أما حبيب بن زيد فأبى أن يستجيب له، فقطع مسيلمة أعضاءه واحدا بعد آخر ثم أشعل فيه النار.

وكذلك اعتُقل بعض المسئوولين الذي كانوا قد عُيِّنوا في اليمن من قبل النبي وعُذب البعض تعذيبا شديدا. وكذلك قد كتب الطبري أن الأسود العنسي أيضا رفع عَلم التمرد، وأزعج الولاة الذين كان عيَّنهم النبيُّ وأمر بسلب الزكاة منهم، ثم هاجم حاكمَ صنعاء شهرَ بن باذان الذي كان قد عيَّنه النبيُّ وقَتل كثيرا من المسلمين، ونهبهم وقتل الحاكم وتزوج بعد قتله أرملته المسلمة قسرا، وتمرد أهل نجران أيضا، وانضموا إلى الأسود العنسي، وطردوا صحابيَين من المنطقة هما عمرو بن حزم، وخالد بن سعيد.

يتضح من هذه الأحداث أن المتنبئين لم يقاتَلوا لأنهم ادَّعوا النبوة من أمة النبي وأنهم كانوا يدَّعون نشر دينه كلا بل قد حاربهم الصحابةُ على أنهم كانوا ينسخون الشريعة الإسلامية وينفذون قانونهم، وكانوا يدَّعون أنهم هم حكام تلك المنطقة، وليس ذلك فحسب بل قد قتلوا الصحابة وهاجموا البلاد الإسلامية، وتمردوا على الحكومة المستقرة، وأعلنوا تحرُّرَهم.

يقول سيدنا المسيح الموعود : عندما توفي النبي ارتدت الأعراب وساءت الأحوال، وقد ذكرت السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها أنه عندما توفي النبي خرج متنبئون كذابون وترك البعض الصلاة وتغيرت الأحوال تماما، وفي هذه المصيبة العظمى انتُخب أبي خليفةً للرسول ، وقد صُبَّت عليه هموم لو صُبت على الجبال لنسفتْها. فالتحلي بالهمة والشجاعة عند وقوع جبال المصائب ليس من عمل الإنسان العادي، بل إن هذه الاستقامة تتطلب الصدق. وأظهرها الصدِّيق حصرا، فما كان لأحد أن يصمد أمام هذه الفتنة. كان الصحابة كلهم موجودين عندها ولم يقل أحدهم أن الخلافة حقي، كانوا يرون أن النار قد اندلعت ولا أحد يستطيع القفز فيها؟ وفي ذلك الوقت الحرج مدّ عمر يده وبايع أبا بكر، ثم بايع الجميعُ واحدٌ بعد آخر. إن صدق الصديق هو الذي مكَّنه من القضاء على الفتنة والإجهاز على أولئك المؤذين. كان مع مسيلمة مائةُ ألف رجل، وكان يعلِّم الإباحية. (والإباحية هو اعتبار أمرٍ ما مباحًا وجائزا وحلالا في الشريعة) وكان الناس يدخلون في مذهبه برؤية هذه التعاليم الإباحية، (فكان قد أجاز الأمور المحرمة الكثيرة وقد سبق بيانه) ولكن الله تعالى أثبت أنه مع الصديق، وسهَّل عليه الصعابَ كلَّها.

يقول أيضا سيدنا المسيح الموعود : وقت خلافته كان وقت الخوف والمصائب كما لا يخفى على أهل التحقيق. فإن رسول الله لما تُوفّي نزلت المصائب على الإسلام والمسلمين، وارتد كثير من المنافقين، وتطاولت ألسنة المرتدين، وادعى النبوة نفرٌ من المفترين، واجتمع عليهم كثير من أهل البادية، حتى لحق بمسيلمة قريبٌ من مائة ألف من الجهَلة الفجَرة، وهاجت الفتن وكثرت المحن، وأحاطت البلايا قريبا وبعيدا، وزُلزل المؤمنون زلزالا شديدا. هنالك ابتُلِيت كل نفس من الناس، وظهرت حالات مُخوفة مدهشة الحواسّ، وكان المؤمنون مضطرين كأن جَمْرًا أُضرمت في قلوبهم أو ذُبحوا بالسكّين. وكانوا يبكون تارة من فراق خير البرية، وأخرى من فتن ظهرت كالنيران المحرقة، ولم يكن أثرًا من أمن، وغلبت المفتتنون كخضراءِ دِمْنٍ، فزاد المؤمنون خوفًا وفزعًا، وملئت القلوب دهشا وجزعا. ففي ذلك الأوان جُعِل أبو بكر حاكم الزمان وخليفة خاتم النبيين. فغلب عليه همٌّ وغمٌّ من أطوار رآها، ومن آثار شاهدها في المنافقين والكافرين والمرتدين، وكان يبكي كمرابيع الربيع، وتجري عبراته كالينابيع، ويسأل الله خير الإسلام والمسلمين”.(8)

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما جُعل أبي خليفة وفوّض الله إليه الإمارة، فرأى بمجرد الاستخلاف تموُّجَ الفتن من كل الأطراف، ومَوْرَ المتنبئين الكاذبين، وبغاوة المرتدين المنافقين. فصُبّت عليه مصائب لو صُبّت على الجبال لانهدت وسقطت وانكسرت في الحال، ولكنه أُعطي صبرا كالمرسلين، حتى جاء نصر الله وقُتل المتنبئون وأُهلك المرتدون، وأُزيل الفتن ودفُع المحن، وقُضي الأمر واستقام أمر الخلافة، ونجّى الله المؤمنين من الآفة، وبدّل من بعد خوفهم أمنا، ومكّن لهم دينهم وأقام على الحق زمنا وسود وجوه المفسدين، وأنجز وعده ونصر عبده الصدّيق، وأباد الطواغيت والغرانيق، وألقى الرعب في قلوب الكفار، فانهزموا ورجعوا وتابوا وكان هذا وعد من الله القهار، وهو أصدق الصادقين. فانظر كيف تم وعد الخلافة مع جميع لوازمه وإماراته في الصدّيق. (9)

ووصل كتاب أبي بكر إلى خالد أن يقتل كل محتلم، وكان قد صالحهم، فوفى لهم ولم يغدر لأنه كان قد أعطاهم أمانًا. فكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر خطابًا ذكر فيه حال المسلمين وأسباب تصالحه، سُرّ أبو بكر بقراءته واطمأن. ولما فرغ خالد من الصلح، أمر بالحصون فألزمها الرجال، وحلف مجاعة بالله لا يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه، ولا يعلم أحدًا غيبه إلا رفعه إلى خالد

قول في زواج خالد ببنت مجاعة بن مرارة

ولما فرغ خالد من مهمة اليمامة وكان ما زال هناك، كتب إليه أبو بكر أن ينطلق إلى العراق. وفي رواية أن العلاء بن الحضرمي طلب المعونة من أبي بكر فكتب إلى خالد وأمره أن يذهب من اليمامة إلى العلاء بسرعة وينصره ففعل. قتل الحُطَم وحاصر الخُط لخُط: حارة لعبد القيس في البحرين تكثر فيها التمور) بعدها أمره سيدنا أبو بكر للذهاب إلى العراق فسافر من البحرين إلى هناك.

تنشأ بعض الأسئلة عن زواج خالد ببنت مجاعة بن مرارة، وقد ورد بهذا الشأن في كتب التاريخ والسِّير أنه بعد نهاية حرب اليمامة وإبرام الصلح مع من تبقى من قبيلة حنيفة قام خالد بزواج آخر. يقول المؤرخون أنه لما بلغ أبا بكر زواج خالد سخط عليه ولكن لما وضّح خالدٌ الموضوع في رسالة مفصّلة إلى أبي بكر زال سخطه. وبيان ذلك أن خالدا طلب من مجاعة بعد عقد الصلح أن يزّوج ابنته منه. كان مجاعة مطلعا على واقعة ليلى أمّ تميم زوجة مالك بن نويرة وكذلك كان يعرف عن سخط أبي بكر على خالد بسبب زواجه، فقال له: مهلا، إنك قاطع ظهري ولن تسلم عتاب أبي بكر. ولكن خالد قال له: زوِّجني ابنتك يا رجل، ففعل. كان أبو بكر يترقب أخبارا من اليمامة فكان ينتظر رسولا من خالد. وكان ذات مساء مع جماعة من الأنصار والمهاجرين في مكان فلقي أبا خيثمة رسولَ خالد رضي الله عنهما. فلما رآه أبو بكر سأله: ما الخبر وراءك؟ قال: يا خليفة رسول الله الخبر كله خير، وقد رزقنا الله فتحا على اليمامة وها هو كتاب خالد . سجد أبو بكر شكرا فورا وقال: أخبرني عن كيفية المعركة. (وقد سبقت بهذا الشأن رواية من قبل). على أية حال، ذكر أبو خيثمة كيفية المعركة وما فعله خالد وكيف سوى الصفوف ومَن استُشهد من الصحابة، وكيف اضطررنا للتقهقر مرة أمام العدو، وقد عوّدنا على ما لم نعرفه من قبل.

لقد سبق ذكر زواج خالد أيضا. وبهذا الشأن كتب أبو بكر إليه: يا خالد بن أمّ خالد، إنك لفارغ تنكح النساء وتعرس بهن وببابك دماء ألف ومئتين من المسلمين لم تجف بعد، ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك على قومه، وقد أمكن الله منهم.

إذن، هذا كان عتاب خليفة الرسول أبي بكر الذي نزل على خالد بسبب صلحه مع مجاعة والزواج من ابنته. فكتب خالد دفاعا عن نفسه: أما بعد، فلعمري ما تزوجت النساء حتى تم لي السرور وقرت بي الدار. وما تزوجت إلا إلى أمري. لو أعلمتُ إليه من المدينة خاطبا لم أبل. دع أني استشرت خطبتي إليه من تحت قدمي. فإن كنتَ كرهت لي ذلك لدين أو دنيا أعتبتك. وأما حسن عزائي على قتلى المسلمين فوالله لو كان الحزن يبقي حيا أو يردُّ ميتا لأبقى حزني الحيّ ورد الميت. ولقد أقحمت في طلب الشهادة حتى يئست من الحياة وأيقنت بالموت. وأما خدعة مجاعة إياي عن رأيي فإني لم أخطأ رأي يومي ولم يكن لي علم بالغيب. وقد صنع الله للمسلمين خيرا وأورثهم الأرض، وجعل لهم عاقبة المتقين.

فلما وصل كتاب خالد إلى أبي بكر زال غضبه وقد طلبت له العذر جماعة من قريش أيضا جاءت؟ وسوف يستمر الحديث حول هذا الموضوع بإذن الله إلا أن قصة المرتدين قد انتهت.

الهوامش:

  1. محمد بن علي الشوكاني، در السحابة في مناقب القرابة والصحابة
  2. حسين الديار بكري، تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، ج2، ص217
  3. المرجع السابق 4. المرجع السابق    5.  المرجع السابق
  4. أبو الربيع الكلاعي، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
  5. الطبري، تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري)
  6. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني سر الخلافة
  7. المرجع السابق
Share via
تابعونا على الفايس بوك