لقاء مع الأستاذ المرحوم مصطفى ثابت (1)        

لقاء مع الأستاذ المرحوم مصطفى ثابت (1)        

محمد طاهر نديم

  • الخلفية العائلية
  • الإيمان بالله والثقة بتأييده
  • ذكريات الطفولة

__

بدأ الأستاذ المرحوم حديثه بما يلي:

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد فأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

خلفية العائلة

انحدرت من ناحية الأب من عائلة ألبانية، ومن ناحية الأم من عائلة تركية، وقد هاجر الأجداد إلى مصر واستوطنوها.  هذا بخصوص أجدادي، أما أنا فولدت من عائلة مصريه بحتة. وكانت لعائلتي من ناحية الأب نشاط سياسي بارز، حيث كان والدي وأخواته من رواد الحركة النسائية في مصر، وأيضا من المشاركين في الثورة المصرية ضد الإنجليز في عام 1919، ولما قضت الحكومة البريطانية بنفي قائد الثورة الزعيم سعد زغلول، كانت إحدى عماتي في صحبته هو وزوجته لأنها كانت صديقة لزوجته السيدة صفية التي تُعتبر أم المصريين، ولم يعطى هذا اللقب لسيدة سواها. وتقديرا لمكانتها سمّت عمتي حفيدتها بـ “صفية”.

نشأت في بيت وطني حيث بدأ والدي وهو في سن مبكرة بتوزيع المنشورات. أما والدتي فكانت سيدة متديّنة جدًا حيث كانت تحج تقريبا عامًا بعد عام إلى بيت الله الحرام. ولم يكن والدي متدينًا بهذا الشكل، ولكنه كان يهتم بالنواحي الوطنية، ويبدو أنني ورثت منهما كلا الأمرين.

الإيمان بالله تعالى والثقة بتأييده

لقد حرك في نفسي تدين والدتي للتعرف على الله سبحانه وتعالى في سن مبكرة، وبالتحديد أثناء الحرب العالمية الثانية. كنا نقضي العطلة الصيفية في الإسكندرية، وفي ذلك الوقت – في أوائل الأربعينيات – كانت قوات المحور من ألمانيا وإيطاليا تشن الغارات الجوية على مصر، لأن قوات هتلر كانت تتقدم في الصحراء الغربية حتى وصلت إلى مدينة “العَلَمين” التي تبعد حوالي سبعين كيلومترًا عن الإسكندرية، فكانت هناك غارات مكثّفة. بدأت الحرب في 1939. وما بين سنتي 1940 و 1941، عندما كانت تحدث غارة جوية ننـزل إلى المخبأ تحت العمارة. كنت أسمعهم يقولون من قرأ آية الكرسي نجّاه الله سبحانه وتعالى من أي شر، وكانت والدتي وكل المختبئين يتلون آية الكرسي، أما أنا فكنت صغير السن ولم أكن أحفظها، فطلبت من والدتي أن تحفظني إياها فقامت بذلك. ثم لدى تكرر الغارات كنا ننـزل مسرعين إلى المخبأ وأرى الناس خائفين، فكنت أقول لهم: لماذا أنتم خائفون إقرأوا آية الكرسي فسينجيكم الله سبحانه وتعالى، هذه كانت معرفتي الأولى بالله سبحانه وتعالى وهي أن هناك إلهًا ينقذ من يتقرب إليه أو يتلو كلامه. كنت أعرف أن هذا كلام ربنا ولكني لم أكن أفهم كثيرًا من معانيه، إلا أنني عرفت إلى هذا القدر فحسب في ذلك السن المبكرة أن من يتلو كلام الله سينجيه من المصائب.

عسى الله يعطيني عصا مثل عصا موسى

كان عمري ست سنوات خلال أول فصل من الدراسة الابتدائية حيث وزعوا علينا كتبًا للمطالعة. بدأت بقراءتها لأني تعلمت المطالعة في وقت مبكر، لأن أهلي بعثوا بي إلى روضة الأطفال وتعلمت فيها أشياء كثيرة. المهم قرأت في كتاب المطالعة قصة سيدنا موسى وكيف وقف أمام فرعون بعصاه وشق البحر، وكان يفعل بها الأعاجيب. وبما أن الله سبحانه وتعالى كان يؤيد سيدنا موسى استطاع أن يتغلب على فرعون، وكان لهذه القصة أثر كبير على قلبي لأني أدركت أن من يكون بجانب الله فإن الله سبحانه وتعالى سينصره، لأنه نصر موسى الضعيف الذي لا حول له ولا قوة، بينما فرعون بكل مملكته وبكل جيشه لم يستطع الانتصار عليه. وكنت أقول في نفسي إن شاء الله عندما أكبر أريد أن أكون مع الله سبحانه وتعالى وربما سوف يعطيني الله عصا مثل عصا موسى وأستطيع أن أفعل بها الأعاجيب.

ذكريات طفولتي

تزوج والدي بزوجة أخرى، والوالدة تزوجت بزوج آخر. فذهبت لأعيش مع الوالد. كانت طفولتي شقية جدًا. كنت أعيش مع زوجة الوالد، وكنت أحبها، وأمرني أخواتي الكبار أن لا أحبها، وكان جوابي: هي زوجة جيدة وسيدة طيبة وتخدمنا وتحبنا. تقول التقاليد عندنا أن زوجة الأب عدوة للأبناء وظالمة دومًا، ولكني لم أكن أرى ذلك فيها وكنت أحترمها وأحبها.

أنقذني الله من الموت المحتوم

تركنا بور سعيد ورجعنا للعيش في القاهرة، وتعرضت لحادث في يوم 3 يناير في عام  1949 عندما كنت في طريقي إلى المدرسة. كان عليّ أن أركب القطار الذي يكون دائما مزدحمًا عند الصباح. فلدى وصوله استطعت أن أضع قدمًا واحدةً على السلم ومسكت بالعمود بيد واحدة وبأخرى كنت أحمل كتبي، وإذا بشخص على الرصيف يصدمني فالتفّ جسمي، وتحركت قدمي التي على السلم فأصبحت في الهواء فوقعت بين عربتي القطار. وبينما أنا نازل – ساقط إلى الأسفل – شعرت كأن صوتا يقول لي: “لا تترك الدرابزين” فظللت ماسكًا الدرابزين إلا أنه كان ناعمًا فنـزلت إلى الأسفل للغاية، طبعا سقطت الكتب وبعضها وقع على سكة القطار الحديدية، على أية حال، ظللت ممسكا بالدرابزين والقطار يسير ويجرني معه إلى أن توقف. ثم ساعدني بعض الأشخاص وخرجت من تحت القطار وانتظرت إلى أن مشى القطار فنـزلت إلى سكة الحديد أجمع ما بقي من الكتب. كان لهذه الحادثة وقع شديد عليّ لأن هذا الصوت كان صوت من داخلي ولم يكن صوتا مجسما، لكن بفضل الله نجوت ولم يحدث لي شيء ولم يصبني خدش.

التحاقي بالإخوان المسلمين

عندما كنت في المدرسة الثانوية تعرفت على شخص من الإخوان المسلمين كان زميلا لشقيقتي الكبرى في الجامعة، دعاني لرحلة – كانوا يسمونها رحلة  إلى الحرم –  فذهبت لأحضر معهم هذه الرحلة. وحان وقت الصلاة فأسرعت لأتوضأ فبعد رجوعي وجدتهم في الركعة الثانية، فقلت في نفسي يجب أن أكمل هذه الركعة بسرعة لأدركهم في الركعة الثانية. فكنت أركع وأقوم وأسجد وأقوم وهم يفعلون شيئا آخر إلى أن لحقت بهم في الصلاة. فلما أكملنا صلاتنا علمني صديقي هذا كيفية إكمال الصلاة. هذا الشخص أصبح فيما بعد من المشهورين جدا على صعيد مصر كلها لأنه أصبح مذيعا في الراديو وكان يقدم برنامجا مشهورا في التلفزيون أيضا اسمه “نور على نور” وهو الذي قدّم للتلفزيون الشيخ متولي الشعراوي. هذا الشخص هو الأستاذ أحمد فرّاج رحمه الله. كان ينتمي إلى الإخوان المسلمين وهو من عرّفني على هؤلاء الإخوان المسلمين الذين تعلّمت منهم كثيرًا من الأمور الدينية. كان هذا في أواخر الأربعينيّات، والشخص الذي كان يعلمني كان في الحقيقة إنسانًا عظيمًا جدا، أتمنى له الصحة والشفاء إن كان على قيد الحياة لأني سمعت أنه أصيب بشلل ولا يستطيع الكلام. المهم تعلمت من الإخوان المسلمين الدين، فصرت أقرأ القرآن وأحفظه وأقرأ كتب السنة وكتب الشريعة. وحينما قرأت هذه الكتب لفت أنظاري موضوع علامات الساعة، وشدني هذا الموضوع وأثار انتباهي لأني لاحظت أن معظم علامات الساعة قد تحققت إلا مجيء المسيح الدجال ونزول المسيح عيسى ابن مريم لمقاتلة الدجال وأن من يكون مع المسيح عيسى ابن مريم حين ينـزل من السماء ويقاتل الدجال فسيكون له مقام كبير في الجنة. فكنت أفكر وأقول اللهم إذا عشت إلى وقت نزول المسيح فسوف أترك كل شيء وأذهب وأقاتل معه المسيح الدجال.

جماعة دينية تحولت إلى حزب سياسي

لقد انتهيت من الدراسة الثانوية، وللأسف لم أحصل على مجموع كبير يؤهلني لدخول الجامعة في القاهرة، فكان لا بد أن أذهب إلى الإسكندرية لألتحق بالجامعة هناك. وقبل هذا بسنتين حدثت ثورة في مصر وانقلاب عسكري، وتغيّر النظام الملكي، وجاءت ما يسمى بثورة 23 يوليو، التي قام بها الجيش. في أول الأمر كنا نساعد الجيش، أذكر أن هذه الثورة قامت يوم الأربعاء مساءً حيث جمعونا وقالوا لنا يجب أن نحرس الأماكن الهامة، وفعلا خرجنا في ليلة الخميس لنحرس الأماكن العامة مثل الجسور، ومحطات القطارات وغيرها. فهمنا أن الإخوان المسلمين يؤيدون هذه الثورة، بل قيل لنا أن ضبّاط الجيش الذين قاموا بهذه الثورة هم من الإخوان المسلمين، لكن لاحظت شيئا غريبًا خلال فترة ما بين سنة 1952 إلى سنة 1954 أننا في الإخوان لم نعد نهتم كثيرًا  بدروس القرآن، والأحاديث والسّنة والسيرة بل كان أكثر كلامنا في السياسة وبماذا فعلت الحكومة. ثم حدث خلاف بين الحكومة وبين الإخوان. يبدو أنه كان هناك اتفاق مع الجيش أن يشترك أربعة أشخاص من الإخوان المسلمين في الوزارة، ولكن عندما نجحت حركة الجيش واستقر الأمر رفضوا، وقرروا أنه يكفي أن يشترك اثنان منهم، فأخذوا اثنين من مكتب الإرشاد، والهيئة التأسيسية للإخوان ولكن عندما وجد الإخوان هذا الوضع انفصلوا عن الحكومة وفصلوا هذين الاثنين أحدهما الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي أصبح وزيرًا للأوقاف، والثاني نسيت اسمه. وبعد هذا بدأ الصدام أو الاحتكاك مع الحكومة وأصبحت كل اجتماعاتنا سياسية، ولم تعد هناك دراسة للقرآن، ولم يكن هناك دراسة للشرع، وهكذا تحولت الحركة الدينية إلى الحركة السياسية. ومما أثار انتباهي في أول الأمر أنهم وزعوا علينا قوائم التماس لكي نوقع عليه، هذا الالتماس يقول، أننا حزب سياسي، فتعجبت! كيف نكون حزبًا سياسيًا بينما نحن جماعة دينية؟!!

فقيل لي نحن فقط نقول هكذا ولكن الحقيقة هي أننا جماعة دينية فقط!!!. لم يعجبني هذا التفسير.. فوقع في قلبي أننا نكذب وبالتالي هذا ليس من الإسلام في شيء. فبدأوا يقولون الدين والسياسة شيء واحد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاكمًا في المدينة، وأبو بكر كان خليفة وكان حاكمًا أيضا، وعمر كان خليفة وحاكمًا سياسيًا أيضا، فلا بأس .. الدين والسياسة شيء واحد!! . لم أقتنع ولكني وقّعت الوثيقة. بعد هذا وجدتهم يوزعون وثيقة أخرى تقول أن حزب الإخوان المسلمين ليس حزبًا سياسيًا بل هو جماعة دينية. فقلت ما هذا؟ فقالوا نحن نقول هذا لأن الحكومة تريد أن تحل الأحزاب السياسية كلها، فنقول إننا جماعة دينية كي لا نُحلّ، ووقّعت كما وقّع الجميع، على أن الإخوان جماعة دينية، ولكن في الحقيقة هذه الأمور لم تعجبني، مرة نقول نحن حزب سياسي وأخرى نقول نحن لسنا بحزب سياسي.. كما  وجدت أمورًا أخرى كثيرة، منها أن الإخوان بعد هذا الاحتكاك مع الحكومة أرادوا أن يجمعوا أكبر عدد من الناس ليشكّلوا بها قوة تضغط على الحكومة وتفرض عليها ما تريد، فمثلا  إن وجدنا في المدرسة أحد التلاميذ يصلي ذهبنا إليه وسلمنا عليه وسألناه عن اسمه، وإذا أخبرنا عن اسمه أصبح من الإخوان، هذه الأمور أيضًا لم تعجبني، فصرت أتساءل وأقول كيف يدخل هؤلاء الناس إلى الجماعة وهم لا يعرفون أي شيء عن الدين، فقلت يجب أن أكتب هذه الأمور وأرفعها إلى المسؤولين في الجماعة، وأحذّر أنه إن استمر الأمر بهذا الشكل فهو سيضر بالجماعة، عملا بما تعلمت وهو أن الدين النصيحة. وقد كتبت فعلاً تقريرًا ورفعته إلى المسؤول عن شعبتي أو حلقتي التي أتبعها. وفوجئت بعد هذا بأن الإخوان يتحاشونني ولا يكلمني أحد. كنت أذهب إلى المسجد وأشعر بأنني منبوذ. ثم عرفت فيما بعد من صديق فلسطني اسمه مصطفى أيضًا، كان في طريقه إلى ألمانيا ليدرس الطب، قال لي: الإخوان قرروا فصلك من الجماعة ولهذا لا يتصلون بك، وأرجو أن لا تقول أنني أخبرتك شيئا. ففهمت أنني فصلتُ من هذه الجماعة بسبب الخطاب الذي أرسلته، لكن هذا كان فضل من الله سبحانه وتعالى لأن الذي حدث بعد هذا هو أن الحكومة ألقت القبض على أفراد الإخوان المسلمين، وألقي القبض على الجميع.. حتى زملائي في المدرسة، ومن كان في الفصل الدراسي معي، وأنا لم يلقى القبض عليّ لسببين، أولهما أنهم قد شطبوا اسمي من الكشوف عندهم، ثانيًا انتقلت من القاهرة وذهبت إلى الإسكندرية لكي ألتحق بالجامعة، وهكذا نجوت بفضل الله سبحانه وتعالى. ولكن في الحقيقة تعجبت كيف يتم القبض على جميع أفراد الجماعة الذين كانوا يسكنون حولي ولم يقبض عليّ، فهذا كان فضل من الله سبحانه وتعالى.

في الإسكندرية التحقت بالجامعة وكنت أسكن مع بعض الطلبة في مجمع سكني خاص بالطلاب، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى شقة، كنا خمسة طلاب، وحيث إنه عندما يسكن الطلبة سوية قد يقومون ببعض الأفعال غير الجيّدة، وأنا لم أكن أحب هذه الأمور، ففكرت بواجب الانفصال عنهم، كما يجب أن أتزوج سريعا كي لا أنغمس بمعصية. ولكني ما درست في الجامعة إلا سنتين فحسب، فقلت من تتزوجني وأنا طالب في الجامعة، ولكن تذكرت أنه لما ولدت لعمتي حفيدتها الأولى سمتها باسم زوجة سعد زغلول ” أم المصريين ”  صفية.. كنت صغيرًا عندما ولدت هذه الطفلة وأذكر جيدا أن أمها سلمتني إياها ملفوفة لأحملها وقالت لي: خذ احمل عروسك، ولما كبرنا كنت أعلم ونحن نلعب سوية أن هذه الفتاة ستكون زوجتي في يومٍ من الأيام. في الحقيقة لم أكن أحب اللعب مع البنات ولكن كنت ألعب مع أخيها الذي كان يصغرني ببضع سنين وكانت تأتي لتلعب معنا. ولما كبرت  وفكرت في الزواج، فقلت طبعًا لا أحد يرضى أن يعطي ابنته لطالب في الجامعة، ولكن قلت لماذا لا أحاول، فسافرت إلى القاهرة في إحدى الإجازات وقابلت أباها…

نذكر في القسط التالي بإذن الله تعرف الأستاذ على الأحمدية والبحث في معتقداتها ثم اعتناقها (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك