الخطيئة الأولى، الشرارة الأولى

الخطيئة الأولى، الشرارة الأولى

التحرير

  • أويمكن القول بأن هذا العصر هو عصر الظنون السيئة بامتياز؟! ولماذا؟!
  • وكيف نتخلص أفرادا ومجتمعات من هذه الآفة القاتلة؟!
  • وأي نموذج عملي يمكننا الاقتداء به في هذا الشأن؟!

__

في أعداد سابقة أفردت مجلة التقوى، وما تزال تفرد، صفحاتٍ للحديث عن آفة طالما ضربت بجذورها في عمق تربة التاريخ، وكانت جرثومتها الخبيثة ممثلة في الخطيئة الأولى، إن جاز لنا استعارة هذا التعبير، ولا نعني أبدًا بالخطيئة الأولى ها هنا ما عناه إخوتنا المسيحيون بخطيئة المعصية الأصلية التي يظنون أنه لا يمحوها سوى الإيمان بكفارة السيد المسيح الناصري ، وإنما الخطيئة الأولى بحسب اعتقادنا الراسخ هي خطيئة سوء الظن، باللّه تعالى أولا، وبمبعوثه المرسل ثانيا.. نعم، لقد كانت تلك الخطيئة هي نفسها الشرارة الأولى التي ما إن وجدت غصنا جافا حتى نشبت فيه واضطرمت نار الذنب التي لم تخمد جذوتها إلى الآن، وامتدت سلسلة ذنوبها عبر الزمان، وتفرعت في كل مكان، منذ بدء التاريخ الإنساني وحتى الآن. فإذا ما نظرنا بعين محللة لتحققنا من صدق هذه المقولة بشواهد تاريخية، ألا نذكر مثلا من أيام العرب حربي البسوس، وداحس والغبراء التي أكلت عددًا كبيرًا من زهرة شباب العرب، ودامت عقودا وعقودا؟! ألا نذكر أن منشأ تلك الحروب كان أتفه من أن يُذكر؟!

إن سوء الظن، يُعد الشرارة الأولى التي أضرمت نيران الخصومات والنزاعات والاتهامات الباطلة والمظالم، بل ومعظم ما من شأنه تعكير صفو المجتمعات. ولا يبرح الظن السيئ حتى يضرم النار فيما حوله من العلاقات الإنسانية، مهما كانت وطيدة، فهذه الآفة من المواد القابلة للاشتعال من تلقائها، بل هي من المواد الملتهبة أصلا.

لقد شاع سوء الظن في هذا العصر، حتى بات البعض يتفاخرون بقدرتهم على تحليل ما ببواطن الآخرين، ولا يتورعون عن إصدار الاستنتاجات، ومن ثَمَّ الأحكام، بحق من حولهم ويعدون ذلك فطنة وذكاء، بل ويدعونه بفراسة المؤمن! ولكن أنى للمرء أن يشق عن قلب غيره؟! لقد زودنا القرآن الكريم وتطبيقه العملي الأكمل المتمثل في سنة نبينا الخاتم  بتدابير بديلة من شأنها حماية الفرد والمجتمع، الذي يسلك سبيل التقوى، من كل خطر ومكيدة محاكة، دون أن يتكبد ذلك الفرد التقي والمجتمع الأتقى إثم الوقوع في سوء الظن، فما أن يتيقن الفرد أو المجتمع بوجود  من هو أعلى حي قيوم، حتى يطمئن وتقر عينه مهما كان حجم الخطر الذي يواجهه. لقد صدر التعليم القرآني القائل:

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 1

فما أجمله من تعليم، ذلك الذي يهب للنفس تلك الطمأنينة، ويرفع عن كاهلها عبء سوء الظن بالآخرين! ولكن هذا لا يتأتى إلا بعد اليقين بإله حي قيوم متصرف في كافة شؤون خلقه، دِقَّها وجُلَّها، وبالنظر إلى تطبيق ذلك التعليم، فلا نجد أروع من نموذج النبي الخاتم  الذي أطلعه العليم الخبير على أسماء المنافقين واحدا واحدا قبل وفاته ، حتى أن حضرته أسرَّ بها إلى أحد صحابته، وهو حذيفة بن اليمان ، ويسكت التاريخ هاهنا، دون أن يتخذ النبي أي إجراء عملي ظاهري ضد هؤلاء المنافقين، لا لشيء إلا لتمثله تعليم القرآن، بإيكال أمرِ ما في قرارة نفوس الناس إلى المطلع على ما في قلوبهم، الله .. إنه اليقين بالله تعالى، وإحسان الظن به، وهو أنجع علاج لأدواء الفصام النفسي، والوسواس القهري، وغيرهما. لسنا نتحدث ها هنا من خلفية نفسانية احترافية، ولكن حق المعرفة أصبح في هذا العصر مشاعا، والمعلومات منثورة هنا وهناك في ثنايا الكتب أو على صفحات شبكة الإنترنت، شريطة بذل بعض الجهد في الانتقاء والتمييز بين المعلومة الصالحة والأخرى الرديئة، عملا بتعليم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا 2

ولعل في ذلك التعليم الفريد أيضا درسا مستفادا لأجهزة الاستخبارات العالمية التي لا ترى أي حرج في إساءة الظنون، بل تعتبر هذا من الواجبات التي تستحق الإشادة، حتى وإن كانت النتيجة احتلال بلاد الآخرين دون تثبت بدعوى امتلاكهم أسلحة خطرة. دعونا نفترض أن الخطأ هنا كان مبنيا على سوء الظن، لا تبييت سوء النية.

لقد أُودعت فطرة الإنسان حسن الظن، فلو عطلت هذه الملكة الفطرية حل محلها مرض سوء الظن، ليصبح المصاب به أسيرًا للأوهام وإلصاق التهم بالآخرين والشك المرضي، فتلفحه نار دائه ويحرَمَ بركاتٍ كثيرة.

قارئ مجلة التقوى العزيز، لأن موضوع آفة سوء الظن هو الخيط الناظم لأكثر مواد عدد هذا الشهر من مجلتك «التقوى»، حرص فريق التحرير على أن يُطلِعَكَ على تفاصيل ذات صلة، بدءا من خطبة حضرة أمير المؤمنين (أيده الله تعالى بنصره العزيز) التي يتابع فيها حديثه الشائق عن الصحابة البدريين y، مقدما إلينا نموذجا يُحتذى به لأناس أحسنوا الظن بربهم، فرضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه. بعدها ننتقل معك عزيزي القارئ إلى مناقشة مسألة سوء الظن من وجهة نظر قانونية بحتة، بالإضافة إلى باقة من الأبواب الثابتة والمعلومات الإثرائية.

ندعو الله تعالى أن يجنبنا آفة سوء الظن، وأن يجنبنا التطرف ذات اليمين وذات الشمال، فيجعلنا أهلا لأن نكون أمة وسطا يجتمع فيها خير الناس، ونسأله تعالى أن يعلمنا طرق التقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

  1. (الأَنْفال: 62-63)
  2.  (النساء: 95)
Share via
تابعونا على الفايس بوك