الصحابة.. معقبات أعدها الله تعالى حماية لنبيه

الصحابة.. معقبات أعدها الله تعالى حماية لنبيه

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)

  • فكيف أبدى سعد بن معاذ نموذجا يحتذى في الوفاء للنبي في يوم بدر؟
  • وكيف تحقق كون الصحابة هم أنفسهم من ملائكة الله في الأرض؟
  • وأي درس علمته والدة سعد بن معاذ كل امرأة مسلمة؟

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

متابعةً لذكر سعد بن معاذ

كنتُ أذكر سعد بن معاذ منذ الخطبة الماضية، وهناك حادث آخر تكلمنا عنه وهو إظهار عهد الوفاء في مشهد بدر، وقد ذُكر هذا الحادث في الخطبة الماضية أيضا، وبينه المصلح الموعود أيضا بأسلوبه فقال:

من الطبيعي أنه إذا كانت ثمة علاقة حب بين طرفين فلا يريد المحِبُّ أن يصيب محبوبه أي أذى، ولا يحب أن يذهب محبوبه للحرب ويلقي بنفسه إلى التهلكة، بل يسعى كل السعي ليحمي محبوبه من الحرب ومخاطرها، كذلك الصحابة كانوا يكرهون أن يتخلفوا عن الحرب، إلا أنهم ما كانوا يحبون أن يخرج النبي   إليها. ومشاعرهم تلك مشاعر طبيعية يُكنها كل محبّ لمحبوبه، وإضافة إلى ذلك نرى أنه ثابت من التاريخ أن النبي حين بلغ موضعًا قريبا من بدر فقال للصحابة: أخبرني الله تعالى أننا سنواجه الجيش ولن نواجه القافلة، ثم استشارهم في الأمر، وسألهم عن رأيهم فيه. حين سمع كبار الصحابة ذلك قاموا من فورهم واحدا تلو الآخر وألقوا خطابات تنضح بالإخلاص، وأبدوا استعدادهم لكل تضحية.

فإن الملائكة هي التي كانت تحرسه في الفترة المكية، وإلا ما كان لينجو من الأعداء الذين حاصروه من كل صوب. أما بعد الهجرة إلى المدينة فقد تمتع فعلا بالحماية بنوعيها: حماية ملائكة السماء وحماية ملائكة الأرض، أي الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وإن معركة بدر أصدق مثال على هذه الحماية الظاهرية والباطنية.

كانوا يقومون تباعًا، يلقي كل واحد منهم كلمته معبرًا عن مشاعره  ويعطي مشورته ويجلس، وهكذا كل من قاموا كانوا يقولون بأساليب مختلفة: إذا كان الله تعالى يأمر بالقتال فسنقاتل حتما، ولكن كلّما جلس أحدٌ بعد خطابه قال النبي : أشيروا عليَّ أيها الناس، إلا أن من قاموا وتكلموا جميعًا كانوا من المهاجرين، وحين كرر النبي قوله: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، فهِم سعد بن معاذ رئيس الأوس مراده ، فقام ممثلًا للأنصار وقال: يا رسول الله: قد أُشير عليك ولكن بالرغم من ذلك تقول: أشيروا عليَّ، ويبدوا أنك تريد أن تعرف رأي الأنصار يا رسول الله. أما نحن فإذا كنا صامتين إلى الآن فكان ذلك لكي لا يظن إخواننا المهاجرون أننا نريد قتال قومهم وإخوتهم والقضاء عليهم. ثم قال: يا رسول الله، لعلك تفكر في عهدنا معك حين بيعة العقبة التي كانت تنص شروطها على أننا لا نقاتل معك إلا لو شُن الهجوم على المدينة، ولكن إذا كان القتال خارج المدينة فإننا لن نكون مسؤولين عن ذلك. فقال النبي : نعم. قال سعد بن معاذ : يا رسول الله: حين دعوناك إلى المدينة لم تكن مكانتك العظيمة ومقامك الرفيع قد تبيَّن لنا بصورة جلية، أما الآن فقد رأينا حقيقتك بأم أعيننا، وظهر علينا ما كان خفيًا من جمالك وجلالك، وأصبحنا على استعداد تام أن نضحي بأضعاف أضعاف ما تعاهدنا عليه من قبل، فقد كان عهدنا معك على أسس دنيوية أكثر منها أسسًا روحانية، أما الآن فتبدّل الحال، لذا فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، يا رسول الله إننا سنقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ولن يصلك العدو حتى يطأ أشلاءنا الممزقة..

في يوم بدر، الصحابة نموذج ملائكة الأرض

قال المصلح الموعود في تفسير الآية 12 من سورة الرعد

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ :

الحق أن حياة النبي ما بعد الدعوة كلّها شاهدة على هذه العصمة التي وعدها الله تعالى في قوله «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ». فإن الملائكة هي التي كانت تحرسه في الفترة المكية، وإلا ما كان لينجو من الأعداء الذين حاصروه من كل صوب. أما بعد الهجرة إلى المدينة فقد تمتع فعلا بالحماية بنوعيها: حماية ملائكة السماء وحماية ملائكة الأرض، أي الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وإن معركة بدر أصدق مثال على هذه الحماية الظاهرية والباطنية. لقد عاهد أهل المدينة النبي ، قبل أن يهاجر إليهم، أنه لو حاربه العدو خارج المدينة فهم في حِلٍّ من الخروج معه. وقبل مشهد بدر استشار النبي المهاجرين والأنصار في أمر القتال. فكان المهاجرون يشيرون عليه بكل حماس بالخروج من المدينة، ولكنه لم يزل يقول: «أشيروا عليّ أيها الناس». فتقدم أحد الأنصار، سعد بن معاذ وقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال: يا رسول الله لا شك أننا اشترطنا عليك أنه لو قاتلت خارج المدينة لن نكون ملزمين بالخروج معك، ولكنا كنا حين ذاك حديثي العهد بالإسلام. أما وقد شهدنا الآن واختبرنا أنك رسول الله حقًا، فلا حاجة للاستشارة. والله لو أمرتنا أن نخوض بخيلنا البحر لخضناه. والله، إنا لن نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون. ولكننا سنقاتل العدو عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ولن يَخلصوا إليك ما لم يطؤوا جثثنا الهامدة. (البخاري، مسلم، السيرة لابن هشام). قال المصلح الموعود : أرى أن هؤلاء المخلصين أيضا كانوا من المعقبات التي جعلها الله تعالى لحفظ النبي .

قال أحد الصحابة: لقد شهدت مع النبي ثلاث عشرة غزوةً، ولَأنْ أكون صاحب هذه الكلمة أَحَبُّ إليّ مما فعلت. (البخاري، المغازي)

قال مرزا بشير أحمد في سيرة خاتم النبيين وهو يذكر إخلاص سعد بن معاذ في يوم بدر:

إن الموقع الذي عسكرت فيه قوة المسلمين لم يكن موقعا مناسبا للحرب، فقال الحباب بن المنذر للنبي : أرأيت هذا المنزل؟ أمَنزلًا أنزلَكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

قال رسول الله : بل هو الرأي، ولم ينزل عليَّ بهذا الصدد أيُّ أمر من الله تعالى، فإن كنت ترى غير ذلك فأتِ بما عندك. فقال يا رسول الله: هذا ليس لك بمنزل جيد نظرا إلى القتال، بل الأفضل أن تنهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من قريش، فتنزلها وتقبض عليها، فإني عالم بهذه البئر وقد عرفت عذوبة مائها.

فأعجب النبي بهذا الاقتراح، وكانت قريش تعسكر خلف التل ولم يكونوا قد وضعوا يدهم على البئر، فتقدم المسلمون وقبضوا عليها. ومع ذلك لم يكن بتلك العين ماء كاف في ذلك الوقت، كما نجد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك، وظل المسلمون بحاجة إلى المزيد من الماء، كما أن أرضية طرف الوادي الذي كان به المسلمون لم تكن جيدة بل كانت رملية وكانت أقدامهم لا تثبت عليها.

بعد اختيار المكان المناسب  قال سعد بن معاذ: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول الله خيرا، ودعا له بخير. ثم بني لرسول الله عريش، فكان فيه. لقد قال سعد قوله ذاك من فورة إخلاصه، ولا شك أنه يستحق به الثناء عليه، وإلا فمتى كان لنبي الله أن يفر من ساحة القتال؟ كان الرسول أمام القوم كلهم دائما أثناء القتال. فإننا نرى يوم حنين أن الجيش المسلم الذي كان قوامه اثنيْ عشر ألف مقاتل لما ولى مدبرًا ظل مركز التوحيد هذا   في مكانه لم يتزحزح.

على كل حال، أُعِدّ العريش كما كان اقتراح سعد، وقام سعد وبعض الأنصار الآخرين بواجب حراسته، وبات فيه النبي وأبو بكر ، وظل النبي يدعو الله تعالى ببكاء وابتهال طوال الليل. وورد أن النبي كان الوحيد الذي لم ينم طوال الليل من بين القوم، أما الآخرون فناموا  بالتناوب.

عند غزوة أحد بات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي الله عنهم ليلة الجمعة في المسجد النبوي مدججين بالسلاح يحرسون باب النبي .

ويوم أُحد أيضًا

لما خرج رسول الله لغزوة أحد راكبًا فرسه، متنكبًا قوسه، حاملاً رمحه، كان السعدانِ أي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يجريان أمامه وكل واحد منهما لابسًا درعه.

كتب حضرة مرزا بشير أحمد وهو يسجل أحداث غزوة أحد: خرج النبي من المدينة إلى أحد بعد صلاة العصر مع جماعة كبيرة من أصحابه، وكان سعدُ بن معاذ سيدُ الأوس، وسعدُ بن عبادة سيدُ الخزرج، يمشيان أمام راحلته ببطء، وكان سائر الصحابة يمشون عن يمينه وشماله ومن خلفه .

أم سعد بن معاذ، ورسالة هامة إلى السيدات الأحمديات

لما رجع النبي إلى المدينة من غزوة أحد نزل عن فرسه، ودخل بيته مستندًا إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.

يقول حضرة المصلح الموعود وهو يتحدث عن مدى حب والدة سعد بن معاذ للنبي : عند القفول من غزوة أحد كان سعد بن معاذ يمشي بكل فخر أمام راحلة النبي حاملا خطامها، وكان أخو سعد قد استُشهد في القتال، فلما اقتربوا من المدينة رأى سعد أمَّه قادمةً، فقال يا رسول الله، ها هي أمي قادمة. وكانت أمُّ سعد قد قاربت الثمانين أو الاثنتين والثمانين، وذهب نور عينيها وضعف بصرها ، وكانت لا تُحسن التفريق بين النور والظلام، ولما سمعت هذه العجوز خبر استشهاد رسول الله خرجت من المدينة تمشي صوب أُحد متخاذلة القدمين، وكلما تعثرت نهضت بإصرار مواصلة سيرها. فلما قال سعد يا رسول الله هذه أمي قادمة، قال رسول الله أوقف راحلتي عند أمك.

لو تأملتنّ في الموضوع لوجدتنّ أنفسكنّ متخلفات كثيرا عن الصحابيات، وأن بينكن وبينهن بونًا شاسعًا.

ولما اقترب النبي منها فإن هذه العجوز لم تسأل عن أبنائها، وإنما قالت أين النبي ؟ فقال سعد ها هو أمامك يا أمي. فرفعت العجوز عينيها الكالتين، وظلت تنظر إلى وجه الرسول ببصيص خافت. فقال لها النبي : لقد تأسفتُ جدًا لأننا قد فقدنا ابنك في المعركة، لكنه الآن قد حاز مراتب الشهداء. والمعتاد أنه عندما يسمع المرء العجوز مثل هذا الخبر فإنه يفقد صوابه، ولكن ما أروعَ ما أجابتْ به هذه العجوز! حيث قالت: ماذا تقول يا رسول الله؟! إنما كنتُ عليك أحاذر.

بعد ذكر هذه الواقعة يقول حضرة المصلح الموعود مخاطبًا السيدات الأحمديات مذكرًا إياهن بواجب التلبيغ والدعوة: إن هؤلاء النساء هن اللواتي كن يعملن في مجال نشر الإسلام والدعوة مع الرجال جنبًا إلى جنب، وهؤلاء هن النسوة اللواتي يفتخر العالم الإسلامي بتضحياتهن. إنكنّ تدّعين اليوم أنكن آمنتن وصدقتن بحضرة المسيح الموعود ، وبتعبير آخر تدعين أنكنّ بروز للصحابيات، ولكن بالله اصدُقْنَني القولَ: أأنتن مُمتلئاتٌ من أجل الدين حماسا وحبا كاللذين امتلأت بهما الصحابيات؟ أَوَ يوجد فيكن نفس النور الذي  كان موجودا في الصحابيات؟ أَوَأولادكن صالحون مثل أولاد صحابيات النبي ؟ لو تأملتنّ في الموضوع لوجدتنّ أنفسكنّ متخلفات كثيرا عن الصحابيات، وأن بينكنّ وبينهن بونًا شاسعًا.

إن التضحيات التي قدمتها الصحابيات لا يوجد نظيرها اليوم على وجه الأرض. لقد  قدّمنَها مضحيات بأنفسهن، وقد أُعجب الله تعالى بها كثيرا لدرجة أنه أعطاهن النجاح سريعا، وقد أنجز الصحابة والصحابيات في غضون سنين قليلة ما لم يستطع العالم والأقوام الأخرى إنجازه في قرون. أقول: لما كان حضرته يخاطب النساء الأحمديات لذلك فقد ذَكَر النساء بوجه خاص في هذا الخطاب، وإلا فقد قال الخلفاء في مناسبات عدة، وقلتُ أنا أيضا مرارًا أن من واجب الرجال أيضا في الجماعة أن يقدموا الأسوة نفسها، لا يمكننا أن نحقق ما ادعيناه، من أننا سننشر دعوة الإسلام في العالم كله، وسنجمع العالم كله تحت رايته إلا إذا كانت تضحياتنا وأعمالنا مطابقة للأسوة التي قدمها لنا الصحابة رضي الله عنهم.

Madina Mosque at night

يقول سيدنا المصلح الموعود : العالم المسيحي فرحٌ جدا بشجاعة مريم المجدلية وصاحباتها أنهن وصلن إلى قبر المسيح وقت الصباح متخفيات عن الأعداء، ولكني أقول لهم: تعالوا وانظروا إلى المضحين المخلصين لحبيبي وانظروا في أية ظروف حالكة قاموا معه وفي أية ظروف قاهرة رفعوا راية التوحيد! هناك مثال آخر من هذا القبيل مذكور في التاريخ، وبيان ذلك أن النبي كان عائدا إلى المدينة بعد دفن الشهداء، وخرجت النساء والأطفال إلى ظاهرة المدينة للقائه . وكان حبل بغلته في يد سعد بن معاذ سيّد المدينة. كان سعد يقود البغلة بفخر واعتزاز، وكأنه يعلن للعالم كله أنه رغم كل ما حدث، فقد استطعنا أن نعود برسول الله سالمًا معافى إلى المدينة. وحدث أن رأى قرب المدينة أمّه العجوز تتقدم، وكانت كليلة النظر جدًا، وكان ابنها عمرو بن معاذ قد اُستشهد في أُحد، وعرفها سعد والتفت إلى الرسول قائلًا: يا رسول الله، هذه أمّي قادمة. قال رسول الله : دعها تتقدم على بركة الله. جاءت المرأة تتقدم إلى الأمام، وببصر كليل تنظر هنا وهناك لتعثر على الرسول ، وأخيرًا، لما استطاعت أن تتبيّنه ظهرت عليها أمارات السعادة. فقال لها النبي أتأسف على استشهاد ابنك فقالت: ما دمتُ قد رأيتك بخير وعافية فكأنني شويتُ المصيبة وأكلتُها. إن شواء المصيبة وأكلها تعبير غريب حقا ويدل على حزن عميق وأن الإنسان قد تحمّل ذلك الحزن العميق. فبأية شجاعة قالت تلك العجوز التي كانت قد بلغت من الكِبَر عتيًّا إن حزني لمقتل ولدي لن يأكلني بل ما دام محمد رسول الله حيا يُرزق فسآكل أنا ذلك الحزن، ولن يقتلني موت ولدي، بل لأنه قد ضحى بحياته من أجل رسول الله فقد زادني ذلك قوة.

ثم يقول المصلح الموعود مادحا الأنصار وداعيا لهم: أيها الأنصار! فدتكم نفسي، ما أعظم الثواب الذي نلتموه!

سعد بن معاذ وقصة إعدام كعب بن الأشرف

ثم نأتي إلى الحكم الذي أصدره النبي بقتل كعب بن الأشرف بسبب مؤامراته ومكائده ضد الإسلام ونشره الضغائن والعداوة بل مؤامرته لقتل رسول الله ، فقد استشار النبي سعدَ بنَ معاذ بصفته سيد الأوس. وقد سبق أن بيّنت قبل فترة في بيان سوانح صحابيين تفصيل هذه القصة، أي تنفيذ هذا الحكم بقتل كعب بن الأشرف، غير أنني سأذكر جزءًا منها هنا أيضا، أي الجزء الذي يتعلق بسعد بن معاذ . وما سأذكره الآن قد اقتبسته من المرجع الذي ذكرته من قبل وكذلك من كتاب «سيرة خاتم النبيين».

حين جاء النبي   المدينة مهاجرا،  كان كعب مع اليهود الآخرين الذين كتبوا مع النبي   وثيقة المدينة التي تُقرُّ الأمن والأمان والدفاع المشترك، ولكن بدأت نار البغض والعداء تنشب في قلب كعب خفيةً، وبدأ يحارب الإسلام ومؤسِّسه بالمكايد السرية والمؤامرات الخفية.

إذن، إن استقطاب كعبٍ مشائخ اليهود كان أمرا عاديا، ولكن الأخطر في الموضوع كان أنه سلك بعد معركة بدر مسلك عيث الفساد وإضرام نار الفتنة، مما أدى إلى جعْل المسلمين في وضع حرج.

حين نال المسلمون فتحا عظيما يوم بدر، وقُتل معظم رؤساء قريش، علم كعب الذي كان يظن من قبل أن هذا الدين جديدٌ وسوف يتلاشى تلقائيا، علِم أن هذا الدين الجديد لن يتلاشى بسهولة كما كان يظن، بل سینتشر، وبالتالي بعد «بدر» بذل كل ما لديه من طاقة وقوة من أجل القضاء على الإسلام ولم یدّخر وسعًا في محاولاته المستميتة لإبادته؛ بل وعقد العزم على تدمير الإسلام بأي حال من الأحوال. وكما قلت: إنه امتلأ غيظا وغضبا أكثر بعد انتصار المسلمين في بدر. فلما عقد العزم على إبادة الإسلام مندفعًا بثورة غضبه أعدّ للسفر من فوره وتوجّه إلى مكة، ونتيجة طلاقة لسانه وقوة شعره ألهب النار المضطرمة في قلوب قريش، وأثار في قلوبهم لهيب عطشٍ لا يبرد لقتل المسلمين، بحيث قال لهم: إنكم انهزمتم بعد أن قَتَلوا زعماءكم وجلستم دون أن تحركوا ساكنًا، فانهضوا الآن واذهبوا وخُذوا ثأركم. فاستشاطوا غضبا لأنه ملأ صدورَهم بعواطف الانتقام والعداوة بخطاباته وشعره، وحين توقدت عواطفهم للغاية نتيجة إثارته، جمَعَهم في فناء الكعبة وجَعَلهم يمسكون بأستار الكعبة في أيديهم وحلّفهم على أنهم لن يهدؤوا ما لم يُبيدوا الإسلام ومؤسِّسه من على وجه الأرض. لم يكتفِ كعب بإثارة بركان الغضب والإثارة في مكة فحسب، بل وبعد ذلك توجّه هذا الشقي إلى قبائل العرب الأخرى، فأخذ يتنقل من قبيلة إلى أخرى ويثيرهم ضد المسلمين، ثم عاد إلى المدينة وكثف نشاطاته في معاداة الإسلام، وأنشد بين غير المسلمين ولا سيما في اليهود بعض قصائده الحماسية كما ذكر في أبياته المُشبِّبة بالنساء المسلمات بأسلوب بذيء وفاحش. لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل تآمرَ لاغتيال الرسول ، حيث خطّط أن يدعو النبي إلى بيته بحجة استضافته ليقتله هناك بعض الشباب اليهود، ولكن الله بفضله أطلع النبي على المؤامرة قبل حدوث شيء، ففشلت هذه الخطة. فلما بلغ الأمر هذا الحد، وثبتت جرائم كعب من نَكْثِ عهد كان قد أبرمه سابقا، والتمردِ ضد الحكومة القائمة، وإثارة حرب وفتنة، والتشبيب بالنساء دون حياء  ومؤامرته لقتل النبي نفسه، أصدر النبي قراره بأن كعب بن الأشرف يستوجب الإعدام على تصرفاته الإجرامية تلك، وكان قراره بصفته رئيسًا وحاكمًا أعلى للحكومة الديموقراطية القائمة نتيجة المعاهدة التي تمت بين مختلف شعوب المدينة بعد هجرته إليها. فقد أصدر النبي قراره بأن كعب بن الأشرف يستحق عقوبة الإعدام بسبب جرائمه، وأمر بعض صحابته بقتله. ونظرًا للظروف السائدة ومراعاةً للحكمة أمر النبي ألا يُقتَل كعبٌ علنًا، بل يجب أن يقتل بهدوء في فرصة مواتية، وعهد بهذه المهمة إلى صحابي مخلص من الأوس وهو محمد بن مسلمة، وأوصاه أن يستشير سعد بن معاذ رئيس الأوس في اتخاذ أي طريق مناسب لقتل كعب. فاستشار محمد بن مسلمة سعدَ بن معاذ وأخذ معه أبا نائلة واثنين أو ثلاثة من الصحابة، ونفّذ عقوبة الإعدام في كعب. أما الطريق الذي تم اتباعه لقتله فقد سبق أن تناولت تفاصيله في ذكر سوانح بعض الصحابة.

على أية حال، الطريق الذي تم اتباعه هو أنه أُخرج ليلا من بيته وأُعدِم.

ولما انتشر خبر قتله في البلدة سادها الصمت المشوب بالخوف، وثارت ثائرة اليهود، وجاء وفدهم في الصباح إلى النبي واشتكوا إليه قتل رئيسهم كعب بن الأشرف. فقال النبي بعد سماع كلامهم ألا تعلمون جرائمه؟ أي صحيحٌ أنه قُتل ولكنه قُتِل عقابًا على جرائمه. ثم إن النبي عدّد لهم جرائمه المختلفة مِن نكثِ عهد، وتأجيج حرب، وإثارة فتن، وتشبيب فاحش، ومؤامرة قتل وغيرها. فسكت اليهود وخافوا ولم يثيروا المزيد من الضجة لأنهم كانوا يعلمون أن كعبًا كان يفعل كل هذه الأفاعيل. ثم قال لهم النبي عليكم الآن أن تعيشوا معنا مسالمين ومتعاونين ولا تبذروا بذور الفتن. فرضي اليهود بقول النبي وكُتبتْ معهم معاهدة جديدة وعدوا فيها من جديد بالتعايش السلمي متجنبين الفتنة والفساد.

لم يرد في أي مصدر تاريخي أن اليهود ذكروا بعد ذلك قط قتل كعب بن الأشرف واتهموا المسلمين بقتله دون مبرر، لأنهم كانوا يدركون في قرارة نفوسهم أنه نال عقوبة كان يستوجبها. لقد تلقى عقوبة جرائمه، لم ينكر النبي قتله، ولم يقل أنه لا يعرف ذلك، بل عدّد لليهود كل أفاعيله. ثم كان قتله وفق قرار النبي الذي كان رئيسًا للحكومة، وكان اثنان من رؤساء المدينة أيضا قد اشتركا في هذا القرار وأحدهما سعد بن معاذ.

لقد خطط بنو النضير، أحد أحياء اليهود، لقتل النبي خداعًا بإلقاء الحجر عليه من فوق، ولكن الله تعالى بوحيه أطلع النبي على ذلك – وكان النبي قد ذهب إلى ناحية هذه القبيلة مع أصحابه – فرجع النبي فورًا إلى المدينة مع أصحابه. وبعد ذلك أمر النبي بمحاصرة هذه القبيلة اليهودية.

اضطر النبي في ربيع الأول عام الرابع للهجرة إلى الخروج مع جيشه دفاعًا ضد بني النضير ونتيجة لذلك أجليت هذه القبيلة من المدينة. فلما جاءت النبيَّ غنائمُ بني النضير دعا ثابت بن قيس فقال له: ادعُ لي قومك.  فقال سیدنا ثابت بن قیس، هل تقصد الخزرج؟ قال اُدعُ جميع الأنصار من أي قبيلة كانوا. فدعا الأوس والخزرج إلى حضرته، فألقى النبي فيهم الخطاب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر منن الأنصار على المهاجرين أي إسكانهم إياهم في بيوتهم، وإيثار الأنصار المهاجرين على أنفسهم. فذكر كيف أَحسنَ الأنصار إلى المهاجرين. ثم سألهم هل أُقسم أموال الفيء التي جاءت من بني النضير عليكم وعلى المهاجرين؟ بحيث يبقى المهاجرون في بيوتكم وأموالكم. أي إنني أقسم هذه الأموال عليكم وعلى المهاجرين بالمناصفة وفي هذه الحالة سيبقون في بيوتكم كالمعتاد وتستمرون في الإحسان إليهم. أو إذا أردتم فأُقسم هذه الأموال على المهاجرين فقط ولا أعطي الأنصارَ شيئا منها. وفي هذه الحال يخرجون من بيوتكم، ويدبرون لهم شؤون الحياة بأنفسهم لأنهم قد نالوا الأموال. فتشاور سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وقالا له يا رسول الله: قّسِّم هذه الأموال على المهاجرين وحدهم، وفي الوقت نفسه سيظلون يقيمون في بيوتنا، إذ لا نريد أن يخرجوا من بيوتنا بعد الحصول على الأموال. بل ستبقى المؤاخاة كما هي. وقال الأنصار يا رسول الله نحن راضون بذلك وننقاد للأمر. فلن نشتكي إذا قسَّمتَ المال كله على المهاجرين فقط. فقال رسول الله اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار. ثم قسَّمَ أموال الفيء كلها على المهاجرين فقط ولم يعط منها شيئا لأي من الأنصار، إلا اثنين من ذوي الحاجة وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة. وأعطى سيف أبي الحقيق اليهودي لسعد بن معاذ، وكان هذا السيف مشهورًا جدًا في اليهود.

مواقف أخرى مُشرفة لسعد بن معاذ

حين اتُّهمت السيدة عائشة إفكا، وواجه النبي والسيدة عائشة رضي الله عنها وعائلتُها، أشد الأذى، ثم ذكر هذا التصرف الباطل للمنافقين خلال تلك المدة أمام الصحابة، فعندها أيضا كان سعد بن معاذ قد أبدى إخلاصا عظيما مشرّفًا.

لقد بين سيدنا المصلح الموعود هذا الحدث بالتفصيل، وقد ذكرتُه لكم بالتفصيل أيضًا ضمن بيان ذكر أحد الصحابة وهو حضرة مسطح بن أثاثة، وأتناول هنا أيضا ما يتعلق منه بسيدنا سعد بن معاذ. فقد خرج الرسول وجمع أصحابه وقال: من ذا الذي يريحني من هذا الشخص الذي يؤذيني؟ وكان يقصد عبدَ الله بن أبي سلول. فقام سعد بن معاذ زعيم الأوس وقال: إذا كان هذا الشخص من قبيلتنا ضربنا عنقه، وإذا كان من الخزرج فنحن مستعدون لقتله أيضا.

فلما بلغ الأمر هذا الحد، وثبتت جرائم كعب من نَكْثِ عهد كان قد أبرمه سابقا، والتمردِ ضد الحكومة القائمة، وإثارة حرب وفتنة، والتشبيب بالنساء دون حياء  ومؤامرته لقتل النبي نفسه، أصدر النبي  قراره بأن كعب بن الأشرف يستوجب الإعدام على تصرفاته الإجرامية تلك، وكان قراره بصفته رئيسا وحاكما أعلى للحكومة الديموقراطية القائمة نتيجة المعاهدة التي تمت بين مختلف شعوب المدينة بعد هجرته إليه …

وأثناء غزوة الخندق أرسل أبو سفيان زعيم بني النضير حُيَيَ بن أخطب، إلى زعيم بني قريظة كعب بن الأسود، وطلب منه أن ينقض ميثاقه مع المسلمين، فلما لم يقبل أغراه بالكثير وأكد له هلاك المسلمين وأقنعه بأن لا يعمل بحسب الميثاق الذي عقده مع المسلمين، بل قد جعله يقبل أن تكون قبيلته عونا لكفار مكة.

فعن هذا الحدث كتب سيدنا مرزا بشير أحمد في كتابه سيرة خاتم النبيين، أن رسول الله حين اطلع على غدر بني قريظة الخطير، أرسل أولا الزبير بن العوام مرتين أو ثلاثا سرًّا لتقصي الحقائق. ثم أرسل إليهم بشكل رسمي سيدَي الأوس والخزرج سعدَ بن معاذ وسعدَ بن عبادة في وفد يضم بعض الصحابة ذوي النفوذ. وأكد عليهم أنه إذا وجدوا أمرا مُقلقًا فيجب أن لا يذكروه علنا للناس بعد العودة من هناك، بل يجب أن يتكلموا بالإشارة أو الكناية. فحين وصل هؤلاء إلى مساكن بني قريظة وقابلوا زعيمهم كعب بن الأسود استقبلهم ذلك الشقي بمنتهى الجلافة والتكبر. وحين ذكر له السعدان، أي: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الحلفَ الذي بينهم، تمرد هو وأفراد قبيلته، وقالوا: اذهبوا فليس بيننا وبين محمد أي حلف، فلم نكتب معه أي حلف. وعند تلقي هذا الجواب عاد وفد الصحابة، وأطلع سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رسولَ الله على الأوضاع بأسلوب مناسب.

على كل حال كان تصرُّفهم يومذاك هزة كبيرة للمسلمين، حيث كان كفار مكة قد حاصروا المدينة من الجهات الأربع، وخلال الحرب لم تكن أي عملية ضد هذه القبيلة  أمرا يسيرًا. فلما عاد النبي إلى المدينة بعد نهاية الحرب أطلعه الله في الكشف على غدر بني قريظة، وضرورة عقوبتهم على التمرد. فصدر الأمر بمعاقبتهم، حيث أعلن النبي أن يتوجه المسلمون إلى حصون بني قريظة، وأن يصلوا العصر هناك. وأرسل عليا مع كتيبة الصحابة فورا. ولهذه المعركة تفصيل طويل نوعا ما، حيث كان لسعد بن معاذ إسهام في تنفيذ القرار، لذا سوف أتناوله في المستقبل إن شاء الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك