حتمية الشقاء لاستمرار البقاء

حتمية الشقاء لاستمرار البقاء

التحرير

  • لماذا نعاني في حياتنا؟
  • ماذا لو لم نعان أصلا؟
  • كيف تعلم الإنسان العاقل تحويل المعاناة إلى قيمة ذات معنى؟

___

ما أصدق ما قال شاعر العربية نزار قباني:

الحب في الأرض بعض من تَـخــيُّلِنا

لو لم نجده عليها لاخترعناه! (1)

 

إن الفطرة لتشهد بصدق هذا القول، ولا شك! ولكن، أترى شاعرنا يكون قد كذب لو استبدل «الحب» بـ «الشر» في بيت شعره المذكور؟! مهلًا أيها القارئ العزيز، فالشر الذي نقصده ها هنا ليس بمعناه الأخلاقي، وإنما هو تلك القيمة الفلسفية النسبية، والتي ندعوها تارة بالمعاناة، وأخرى بالابتلاء، وثالثة بالفتنة، ورابعة، وخامسة، حتى تفرغ جعبة مترادفاتنا. أيعني هذا أننا نفترض حتمية الشر في العالم؟! نعم، بالضبط، وإن لذلك الشرِّ وجودًا حتميًّا فعلًا، ولعل البعض يتساءل مستنكرًا: ولماذا يُعرضنا الرب للشرور والمآسي الـمُهلكة، التي قد تودي بدنيانا وديننا؟! والحق أنه تساؤل مشروع، وإن كان لا يخلو من سوء فهم سرعان ما يتطور إلى سوء ظن، لا يلبث أن يلقي بصاحبه في هاوية الإلحاد!

إن قضية «فلسفة الشر» في واقع الأفراد والجماعات تتجاوز التأملات والتنظيرات لتتجلى في واقعنا اليومي، فلكي يتسنى للاعبٍ أو فريق رياضي اجتياز مسابقة ما، عليه خوض مرحلة تمرينات شاقة، بل تبدو مميتة بالنسبة للبعض، وإلا فلا داعي للتفكير أصلًا في خوض المنافسة! أم حسب اللاعب الرياضي أن يفوز ويحرز الكأس وهو لا يتمرن حد الشقاء؟!

لقد تدخلت قضية حتمية الابتلاء في صلب عملية التطور الإنساني بشقيه، البيولوجي والحضاري كليهما، فمن الناحية البيولوجية، لولا بعض الإجهاد الذي تكابده عضلاتنا لضمرت وتلاشت، ومن الناحية الحضارية، ثبت أن كل كارثة تحل بشعب ما، لو تجرع الشعب مرارتها بصبر، فسرعان ما يعقبها فرج عظيم وفضل عميم، ألم يكن ضرب مدينتي ناكازاكي وهيروشيما اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية بالقنبلة الذرية إيذانا بنهضة يابانية حديثة يُحسد اليابانيون عليها اليوم، حتى كاد البعض يعدون اليابان كوكبًا آخر؟!

كلما كانت الغاية الروحانية سامية، كانت محاولات عرقلة بلوغها عاتية بنفس قدر سمو تلك الغاية، وبهذا يتأتى للكون من حولنا أن يتزن وتتجلى فيه آيات الجمال والجلال والكمال، وذلك الأمر بحد ذاته سُنة كونية أجرى الله تعالى عليها كلا العالمين، الروحاني والمادي على حد سواء، ليكون أحدهما على الآخر شاهدًا ودليلًا، فسبحان الله العليم الحكيم!..

فوَاهِمٌ من يظن أن المشاريع العظيمة تُقام هكذا بمنتهى البساطةِ دون مُعوقات، فما من قصة نجاح إلا وفي سبيل تحققها مُنِيَ صاحبها بإخفاقات ومثبِّطات، وكلما عظمت تطلعات المرء، كانت الحرب عليه أعتى وأشد، فسموُّ الغاية وضراوة الصعوبات ضدان لا يفترقان، كوجهي العملة الواحدة، ووراء الأمر مظهر روحاني لحقيقة فيزيائية نعاينها من حولنا باستمرار في القانون السائد في الطبيعة، ألا نرى أن حال اتزان الأجسام على إطلاقها، من الذرة إلى المجرة، تقتضي وقوعها تحت تأثير قوتين اثنتين متساويتين في المقدار ومتضادتين في الاتجاه؟! فكذلك كلما كانت الغاية الروحانية سامية، كانت محاولات عرقلة بلوغها عاتية بنفس قدر سمو تلك الغاية، وبهذا يتأتى للكون من حولنا أن يتزن وتتجلى فيه آيات الجمال والجلال والكمال، وذلك الأمر بحد ذاته سُنة كونية أجرى الله تعالى عليها كلا العالمين، الروحاني والمادي على حد سواء، ليكون أحدهما على الآخر شاهدًا ودليلًا، فسبحان الله العليم الحكيم!..

لعل القرَّاء المتابعين لإصدارات “التقوى”، منذ مطلع هذا العام، يلفت نظرهم أن الفقرة السابقة كلها اقتباس نصي من افتتاحية عدد مارس الماضي، والتي تحدثنا خلالها عن حتمية الفتن، بل وضرورتها لحياة الشعوب!(2). ولم لا؟! أوليست ألفاظٌ مثل: الفتنة، والمعاناة، والشر، والشقاء، كلها مرادفات لمعنى واحد؟! لقد أدرك خواص العقلاء من الناس تلك الحقيقة، وحتى العوام باتوا يعلمونها، وإن كانوا يميلون إلى الدعة والخمول، لذا استحقت هذه الطبيعة البشرية أن يخاطبها الله تعالى بأسلوب استنكاري فيقول:

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (3).

ولا شك أن شرور العالم كله، على تنوعها، والتي نكابدها بملء إرادتنا مختارين، يمكن إدراجها ضمن قسمين اثنين: القسم الأول: ما نمر به، أفرادا، حبًّا وطوعًا نوعًا ما، بصورة مكابدة الصعوبات واجتيازها لبلوغ المرادات وتحقيق الأمنيات، بحيث تبلغ بنا الحال مبلغ التلذذ بتلك المعاناة والصعوبات، وقد صار هذا الأمر مألوفًا لدى هواة قراءة أدب الحب العذري، قديمًا وحديثًا، وكذلك هواة مشاهدة فن المأساة الدرامية، حتى إن القارئ أو المشاهد كثيرا ما يتأثر بالموضوع إلى درجة أن تنهمر عيناه بالدموع، على الرغم من أنه يعلم تمامًا أن ما يبكيه ليس حقيقيا بحال! والشرور من القسم الثاني، والتي نكابدها بملء الإرادة، هي المجاهدات، حين يتعرض المرء لإغراءات توقظ غرائزه وثوائره النفسية، فإذا قُدر له الانتصار، بمعونة الله تعالى، على تلك الإغراءات سمت روحه، وكان خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين!

قارئ التقوى العزيز، لا يخلو يوم المخلوق من معاناة وشقاء بصورة ما، ولولاها لما تأتَّى لنا تحصيل الأفضال والإنعامات التي عليها مدار تكليفنا، ومن ثم ترقينا وتطورنا، يقول تعالى:

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (4)،

وفي فلك هذا المعنى الروحي السامي تدور خطبة حضرة أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره العزيز، التي بحث فيها حضرته أثر المعارضة الإيجابي في تقدم الجماعة وترقي أبنائها على كافة المستويات، ومن وراء خطبة حضرته (أيده الله تعالى بنصره العزيز) تأتي مقالات العدد مركزة على تعامل الإنسان مع قضية المعاناة، فلسفةً وتاريــخًا.. نأمل أن يعمل ملف هذا العدد على تحسين نظرتنا إلى المعاناة في الحياة الدنيا، لعل الله تعالى يجزينا ثواب ذلك في الآخرة، آمين.

الهوامش:

  1. نزار قباني، الأعمال الكاملة، قصيدة «ماذا أقول له؟»
  2. راجع: افتتاحية عدد مارس 2022 من مجلة التقوى، تحت عنوان «ألم يأن لنار الإفك أن تخمد؟!».
  3. (العنْكبوت: 3)
  4. (الإِنْسان: 3)
Share via
تابعونا على الفايس بوك