فلسفة المعاناة
  • لماذا نعاني أصلا؟
  • لماذا يمتعض الملحدون من حدوث الشر ما دام لا يوجد إله خالق كما يزعمون؟
  • أية علاقة تلك التي بين معاناتنا ورقينا الروحي؟

___

سؤال قديم

لِــمَ  يعاني البشر في العالم؟ وإذا كان الله رحيمًا، ناهيك عن السؤال عمَّا إذا كان لذلك الإله وجود حقيقي أصلًا! فكيف يسمح مثلًا أن يعاني طفل بريء؟! أسئلة طالما يرددها طائفة من دعاة الإلحاد وحتى غيرهم ممن لم تتضح لديهم بعد الصورة الكلية لفكرة معاناة الإنسان، أو لنقل معاناة الخليقة كلها، في هذا العالم. ولكن من المهم في سياق كل هذه التساؤلات البريئة أحيانًا أو غير البريئة في أحيان أخرى، أن نسأل أيضًا عمَّا لو أخرجنا الله من المعادلة الفرضية، فهل تنتهي المعاناة؟! هذا هو باختصار السؤال الذي يشكل محور هذا المقال، رأينا أن نفصح عنه منذ البداية، كي تتضح معالم الطريق للقارئ خلال مطالعة هذا الموضوع الشائك، والذي ناقشه الفلاسفة والنفسانيون والأدباء المبدعون، كما لم تقف الأديان بمنأى عنه، وعلى الرغم من قدم طرحه، إلا أن ما قيل فيه لم يشفِ، على ما يبدو، صدور طائفة الملحدين المتأخرين بعد!

«الله» في المعادلة!

إذا حاولنا أن ننظر إلى هذه القضية من منظور الملحدين أنفسهم، فسنجد أن استمرار المعاناة، حتى في ظل افتراض عدم وجود الإله، يعني من ناحية أخرى أن الملحد يعتقد في قرارة نفسه بوجود الإله القيوم، غير أن هذا الوجود يشكل مدعاة لامتعاضه! وإلا فلم يتخذ من المعاناة ذريعة لدحض وجود الإله الخالق؟!

ما من جدال في أن الخسارة والربح والراحة والألم، وما إلى ذلك من الأضداد، كلها كانت  موجودة في تعاقب مستمر منذ أن ظهرت الحياة وخلال مراحل تطورها. وكلما تطور وعينا، ارتقى مستوى حِسِّنا بالمتعة والألم وآثار العالم من حولنا، وعرفنا أن تلك الأزواج المتضادة، ما كان لها أن توجد إلا في هذا الوضع الزوجي، بمعنى أنه لا يمكن أن توجد السعادة دون شقاء، ولا يمكن العثور على متعة دون ألم، وهكذا.. كما يخبرنا القرآن الكريم:

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (1)

يبين الله في هذه الآية فلسفة الحياة والموت. الحياة قيمة إيجابية والموت هو مجرد غياب لتلك القيمة. وكلما اقتربنا من الحياة ازددنا قوة ووعياً، وبالتالي زاد إدراكنا للمتعة والألم.

لماذا نعاني أصلا؟!

أما بالنسبة للسؤال: لماذا هناك معاناة؟ تجيب الآية: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا». إن هذا الصراع المستمر وهذه التجربة هما ما يدفعان العملية التطورية للحياة إلى مستوى وجود أعلى، جسدياً وروحياً.

إنه بمعنى آخر إشارة إلى مقولة البقاء للأصلح. فلولا المعاناة لما تطورنا، ولما كان لدينا عامل محفز يدفعنا إلى الأمام في الحياة. فتقدمنا في التكنولوجيا وفي العلوم وفي الطب وفي نوعية حياتنا وحتى على المستوى المادي كبشر يعتمد على هذه الظاهرة بالذات، وكذلك تقدمنا الروحي.

وبدون الشعور بالمعاناة، لا شعور بالراحة والسكينة أيضاً، ولا معنى بعد للمتعة والسعادة والفرح.

عندما نتحدث عن قضية معاناة الأبرياء التي لطالما أزعجت الكثير من الناس، يقال أن معاناة الأطفال المصابين بأمراض خلقية مختلفة دون أي ذنب ارتكبوه هو بكل تأكيد ظلم جسيم من الخالق.

وفي نظر الملحد فإن الوضع الطبيعي الوحيد في هذا السياق المحدد لحل قضية المعاناة هو أن يتمتع كل طفل بصحة جيدة.

إن مطالب العدالة المطلقة تتطلب بطبيعة الحال أن يمنح الله الجميع نفس القدرات الجسدية والعقلية، لأننا إذا وضعنا الحالات القصوى من المرض جانباً بقي هناك تفاوت واختلاف بين الحالات الطفيفة وبقيت الحالة غير عادلة.

الاختلاف في ظروف البشر مهما كان بسيطاً، ينتج عنه معاناة أو متعة ما. ومع أن قلبنا ينفطر برؤية ألم أولئك الأقل حظاً، إلا أنه واقع الحياة وجزء من الطبيعة.

ولا يمكننا أن ننسى أن المعاناة هي شعور نسبي. ويتفاوت تقدير الناس للمعاناة على مؤشر الشدة كاختلاف تقديرهم لشدة الحر والبرد، فسكان المناطق القطبية الجليدية يختلف تقديرهم لشدة الحر والبرد عن نظرائهم من أهل المناطق الاستوائية، فحين يرى القطبيون درجة الصفر المئوي حرا لافحًا، فإن الاستوائيين يعتبرون درجة العشرين المئوية بردًا قارسًا، فهذا التقدير لمستوى المعاناة يختلف من شخص لآخر تبعًا لعدة محددات نفسية وثقافية وجسمانية وعقلية، وكل هذه المحددات تشترك في تشكيل درجة وعي الإنسان، ولهذا السبب قال النبي :

«انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ»(2)

سر امتعاض الملحد

المرض والتعاسة ومآسي الحياة كلها في وجهة نظر الملحد نتاج كون خلقته الصدفة. بينما يرى المؤمن أن هناك حياة آخرة بعد هذه الحياة سيُعوض فيها جميع أولئك الذين عانوا عن آلامهم المؤقتة بدرجات أكبر مما يمكن أن يتخيلوا.

هذا يجيب أيضاً على السؤال حول سبب خلق اختلاف بين الناس وعدم منحهم قوى متساوية. والحقيقة هي أن العالم الذي يكون فيه الجميع سواسية هو عالم يكون فيه كل شخص على وجه الأرض نسخة مكررة من بعضهم البعض.

إنه عالم لا يوجد فيه تنوع ولا هوية إنسانية فردية. وإن معظم المعاناة الموجودة في العالم هي للأسف من فعل الإنسان. فالجشع وحب السلطة يحرضان بعض الناس على شن حروب تسبب خسائر فادحة في الأرواح البريئة.

وفي كل عام يُهدر 1.3 مليار طن من الطعام على مستوى العالم، بإلقائها في مياه المحيطات. لماذا؟ للإبقاء على زمام أسعار.الغذاء في يد فئة واحدة تهيمن به على شعوب العالم.

لماذا؟ كل ذلك حتى يصبح الأغنياء أكثر ثراء وحتى يظل الفقراء فقراء. العديد من الناس في جميع أنحاء العالم ينامون جائعين. من المسؤول عن هذه المعاناة، هل هو الله أم أولئك البشر؟

بعض الناس يسألون لماذا يعاني الناس الطيبون بينما يعيش أولئك المنفصلون عن الدين حياة مريحة؟ لكنني أسأل: من قال إن الأشخاص الماديين سعداء والمتدينين تعساء؟!

إن الله يبتلي بعض الناس بالفقر ويبتلي آخرين بالثراء. إذا  كان متاع الحياة الدنيا هو وحده المصدر الحقيقي للسعادة، فلماذا ينتحر المشاهير وأصحاب الملايين؟.

فثبت أن المال لا يملأ الفراغ في قلوبنا. ويخضع جميع الناس في مدى شعورهم باللذة والألم للأسباب والعوامل الدنيوية نفسها.

غير أن المؤمن يتجنب الرغبات المادية في هذا العالم ويضحي براحته في سبيل الله، بل ويتحمل في بعض الأحيان أعظم التجارب والمحن في سبيل الله.

ما من جدال في أن الخسارة والربح والراحة والألم، وما إلى ذلك من الأضداد، كلها كانت  موجودة في تعاقب مستمر منذ أن ظهرت الحياة وخلال مراحل تطورها. وكلما تطور وعينا، ارتقى مستوى حِسِّنا بالمتعة والألم وآثار العالم من حولنا، وعرفنا أن تلك الأزواج المتضادة، ما كان لها أن توجد إلا في هذا الوضع الزوجي، بمعنى أنه لا يمكن أن توجد السعادة دون شقاء، ولا يمكن العثور على متعة دون ألم، وهكذا..

انتحار المصور

لم يكن “كارتر” يتخيل أن الصورة التي سيلتقطها في إحدى دول وسط أو شرق أفريقيا عام 1993 ستكون السبب في انتحاره، تلك الصورة التي هزت مشاعر العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتتذكرها الأذهان حاليًّا مع اجتياح الجفاف للمنطقة.

ففي شهر مارس من عام 1993، قام المصور الجنوب أفريقي “كيفن كارتر” برحلة عمل إلى جنوب السودان، لتغطية أخبار المجاعة التي كانت تعصف بالبلاد حينها. وخلال إحدى جولاته شاهد “كارتر” فتاة صغيرة أنهك الجوع قواها، تسقط منهارة على الطريق المؤدي إلى مركز توزيع الإمدادات الغذائية في قرية «أيود» بجنوب السودان، وعلى مقربة منها نسر يرقب متحينًا فرصة لفظها آخر أنفاسها لينقض على جثتها.

لا شك أن تلك الطفلة المسكينة كانت تعاني الجوع بالفعل، ولكن كيف قرأ المصور الفوتوغرافي معاناتها تلك؟! وكيف قرأ العالم تلك المعاناة؟! لا سيما بعد موجة الغضب العارمة التي اجتاحت وسائل الإعلام في صورة التساؤل عن مصير الطفلة! علمًا أن هناك من المآسي في سائر بقاع العالم ما تشيب له الولدان وتقشعر منه الأبدان، ولكن عدسات الكاميرات كثيرا ما تتعامى عنه.

في 12 أبريل 1994، قامت “نانسي بورسكي”، محررة الصور الأجنبية في “نيويورك تايمز”، بمهاتفة “كارتر” لإعلامه بحصوله على جائزة “بوليتزر” في التصوير الصحفي، ليتسلمها في 23 مايو 1994، في مكتبة “لاو ميموريال”، بجامعة كولومبيا. إلا أن بعد ثلاثة أشهر من تسلمه الجائزة، قرر «كيفين» حاصد الجائزة الانتحار، إثر مروره باكتئاب حاد، واتهام البعض له بأن التقاطه لصورة الطفلة لم يكن عملًا أخلاقيًا(3). والصورة متاحة ضمن أرشيف نيويورك تايمز لحسن الحظ.

 

أحباب الله وتجربة المعاناة

إن التجارب والمحن تشكل جزءاً أساسياً من حياة المؤمن. وإن الألم الذي يختبره الحبيب في سبيل حبيبه يمنحه متعة تفوق التصور في كثير من الأحيان.

يحضرني مثال عن حضرة المولوي برهان الدين ، وهو أحد أصحاب المسيح الموعود فبعدما قبل دعوة حضرته، لاقى ما لاقى من خصوم الأحمدية، حيث أوسعوه ضربًا وإهانة،  حتى بلغ بهم حقدهم وسفالتهم أن الضالين حشوا فمه الطاهر بالروث، فما كان منه إلا أن قال:: «يا برهان، كم أنت محظوظ! انظر كيف تحصد الحسنات حصدًا! لا شك أنه كان موقنًا بأن الألم الذي تحمله من أجل الله كان في حقيقته متعة.

يقول الله سبحانه وتعالى:

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (4)

فكما يتم إلقاء الذهب في النار الحارقة لتنقيته، كذلك يتم تنقية روحنا بشكل طبيعي في فرن التجارب والمحن المشتعل.

يقول الرسول الكريم :

«مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه.(5)

فقط من يعاني يمكنه أن يشعر بمعاناة الآخرين، وفقط عندما نفهم ألم من هم أقل منا حظاً يمكننا أن نتعاطف معهم. لذلك ليست كل المعاناة عقاباً بل هي في معظم الحالات نعمة متسترة.

المعاناة والرقي الروحاني

يتمكن المرء من الخشوع والبكاء في الصلاة غالباً عندما يكون في حالة من الألم. إن أحبة الله يتألقون ويظهرون أعلى معايير الصبر والمثابرة في أوقات الشدائد، فيصبحون مثالاً لي ولك.

فقط من يعاني يمكنه أن يشعر بمعاناة الآخرين، وفقط عندما نفهم ألم من هم أقل منا حظاً يمكننا أن نتعاطف معهم. لذلك ليست كل المعاناة عقاباً بل هي في معظم الحالات نعمة متسترة.

يشير القديسون إلى هذه الحياة باسم دار الابتلاء، مسكن التجارب والمحن. لذلك نعم هناك معاناة في هذا العالم ولكن الذين يعانون من أجل الله يجب أن يتذكروا دائماً أن هذه الحياة المؤقتة ستنتهي قريباً.

لقد شبه الرسول الكريم هذه الدنيا بمحطة أو استراحة مسافر تحت ظل شجرة. محطة يستريح فيها المسافر لفترة قصيرة من الزمن ثم يواصل رحلته.

إننا نعيش في هذه الحياة الدنيا الآن، ولكن ينبغي أن نضع نصب أعيننا العالم الذي سيأتي قريباً؛ الحياة الأبدية.

إنها حياة تمنحنا المتعة الأبدية. وعندما ننظر إلى الوراء ونفكر في الزمن الذي أمضيناه في دار الابتلاء هذه، سيبدو كومضة كما يقول القرآن الكريم:

وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ (6).

دعونا نبقِ الحياة الآخرة دائماً نصب أعيننا. فتهون معاناة ومحن الدنيا وتبدو وكأنها لا شيء على الإطلاق.

إن المؤمنين محظوظون. في حين يقول الملحد أن هذا العالم هو نتاج الصدفة وكل ما نقوم به هنا لا عاقبة له، يعرف المؤمن أن التضحيات التي يقوم بها من أجل الله ليست هباء وهو على يقين أن الله يعلمها.

يعرف المؤمن أن هناك إله يحبنا أكثر مما يمكن لأي أم أن تحب طفلها، وأن الله ينتظرنا في الحياة الآخرة وهو أيضاً معنا هنا في هذه الحياة الدنيا.

فعندما نعاني ونتألم يجب أن نعرف أنه إذا قبلنا ذلك في سبيل الله، فسوف يحملنا الله ويكون دائماً معنا.

لذلك دعونا نكن دائماً ممن لا يخيب أملهم أبداً في الله في أوقات المحن، وممن لا ينسون الله أبداً عندما نكون في حالة من الراحة.

الهوامش:

1. (الملك: 2-3)

2. (مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين)

3. صفحة المرصد المصري للصحافة والإعلام بخصوص المصور”كيفن كارتر”

4. (البقرة: 156)

5. (صحيح البخاري, كتاب المرضى)

6. (النحل 77)

Share via
تابعونا على الفايس بوك