ذوو الحاجات الخاصة بين الإسلام وسواه

ذوو الحاجات الخاصة بين الإسلام وسواه

ريم إبراهيم

  • كيف كان يُنظر في السابق إلى ذوي الهمم أو القادرين باختلاف؟
  • كيف أظهروا تفوقا ملحوظا في ظل الإسلام؟
  • كيف جعل الإسلام من معاناة هؤلاء القادرين باختلاف ذريعة للتقدم المادي أيضا؟
  • كيف أن اعتبار المعاناة آخر المطاف، ليس إلا وهما من أوهام المادية!

___

إن الإسلام، ولكونه دينًا شاملاً، فإنه يضع في الحسبان المجتمع كله، كالوالدين والجيران والمسافرين والأيتام والمرضى، سأذكر في هذه الورقة البحثية، كيف يلبي الإسلام حقوق ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة وأصحاب الإعاقات الجسدية أو الذهنية، وهم من يسمون حديثًا بذوي الاحتياجات الخاصة، وهذه الشريحة الأخيرة هي محور حديثنا في هذا المقال.

نظرة قديمة قاصرة

لحسن الحظ يمكن القول أن الحقبة الأخيرة، والتي بدأت بعصر فجر الإسلام، بمثابة العصر الذهبي لذوي الاحتياجات الخاصة، وإلا فقد كان يُنظر إلى ذوي الاحتياجات الخاصة في عصور ما قبل الإسلام باعتبارهم نذير شؤم أو علامة على غضب الآلهة، لذلك كانوا في بعض الحالات يقتلون حتى الأطفال المشوهين ولاديًّا.

هذا وقد أخرجهم الفيلسوف اليوناني العظيم “أفلاطون” من مدينته الفاضلة، ولهذا الإخراج تأويلات روحية قد لا تُرضي الماديين، لذا نأخذه هاهنا بظاهره الحرفي الذي يرتضيه الماديون أنفسهم، فنحاججهم به..

في الواقع، تعرض الأشخاص ذوو الاحتياجات الخاصة والإعاقات إلى معاملة قاسية على مر العصور. ففي بعض الأديان، نجد أنه لم يُسمح لهم حتى بدخول أماكن العبادة خشية أن «يدنسوها» بسبب «نجاساتهم»، ويُعتبرون أشخاصًا غير لائقين في المجتمع لا يستطيعون تحقيق أي تقدم مادي أو روحي!

كان العرب قبل الإسلام يتأثرون بمعتقدات أهل تلك الديانات الذين يعيشون معهم على نفس الأرض. وهكذا أساءوا معاملة الأعمى والأعرج والأبرص، متجنبين تناول الطعام معهم، ولم يدعوهم إلى مآدبهم أو غيرها من المناسبات الخاصة.

دين القسط.. كيف نظرت شريعة الإسلام إليهم؟

على الرغم من عمومية التكليفات الشرعية على كافة المسلمين، إلا أن الإسلام يعامل المكلفين كلا بحسب مقدرته وسعته، وهذا هو جوهر القسط، والملاحظة الجديرة بالذكر أن النظرة القديمة إلى ذوي الإعاقات تغيرت مع بعثة نبي الإسلام محمد . حيث بلغ الله من خلاله:

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (1)

وقال تعالى أيضا:

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (2)

أي يستحيل على المؤمنين الذين لا يخدمون الدين أن يصلوا إلى مرتبة المؤمنين الذين يعملون بكل طاقتهم في خدمة دين الله وسمو كلمته. إلا أن الله تعالى قد شمل بينهم أولئك الذين لا يستطيعون خدمة الدين نتيجة إعاقة أو مرض.

كما أن الله تعالى سيأخذ عذرهم بعين الاعتبار ولن يحرمهم من قربه وأجره.

وأوضح القرآن الكريم هذا المفهوم أكثر في موضع آخر حيث قال:

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ (3)

أي عندما ينال الأشخاص أجر أعمالهم من الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، فسيؤخذ كل ما يعيق التقدم الروحي للإنسان، وكل ضرر يتعرض له لأسباب خارجة عن إرادته بعين الاعتبار(4)..

أي يستحيل على المؤمنين الذين لا يخدمون الدين أن يصلوا إلى مرتبة المؤمنين الذين يعملون بكل طاقتهم في خدمة دين الله وسمو كلمته. إلا أن الله تعالى قد شمل بينهم أولئك الذين لا يستطيعون خدمة الدين نتيجة إعاقة أو مرض.

أخلاق دون تجارب، نظرية دون تطبيق

بينما لاقى أصحاب الإعاقات صنوف المعاملة غير اللائقة في عصور قديمة خلت، إلا أنهم صاروا يُنظر إليهم في الإسلام على أنهم مدعاة بركة وقبول الأعمال، فقد قال سيدنا محمد :

«هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ»(5)..

وبطبيعة الحال فإن لفظة «ضعفاء» من العموم بحيث تشمل أصحاب الضعف الاجتماعي أو الاقتصادي أو الصحي أو ذوي الإعاقات بأنواعها. هذا بالنسبة للمجتمع المحيط بالأشخاص من ذوي الإعاقة. أما بالنسبة لذي الإعاقة نفسه، فقد علمتنا شريعة الإسلام أن إعاقته تلك سبب في رفع درجته إذا ما صبر عليها، كما قال خاتم النبيين :

«عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»(5)

وللمسيح الموعود كلام غاية في العمق والجمال بهذا الصدد، إذ يقول حضرته:

«الأشخاص الذين يمرون بضائقة أو الذين يعانون من أجل الله، سوف يُكافَؤون كثيرًا في العالم الآخر. بقدر ما يتعلق الأمر بهذا العالم فهو مكان مؤقت. يجب ألا يعيش الناس هنا طوال الوقت. إذا كان لدى شخص ما الوسائل المتاحة له والتي هي مصدر السرور بالنسبة له ، فليس له حقاً أن يشعر بالتعالي. كل ما يوجد في هذا العالم – من وسائل الراحة أو المصاعب – سينتهي عاجلًا أوآجلًا، وهناك حياة أبدية. أولئك الذين ينظرون إلى بعض الاختلافات غير المهمة في دساتير الحياة البشرية ويربطونها بخطايا وعيوب حياة أخرى سابقة هم مخطئون للغاية. إنهم لا يحاولون التفكير في ولادة أخرى مرتبطة بالعالم التالي حيث سيكافأ الأشخاص الذين لديهم بعض الصعوبات هنا أو الذين وضعوا أنفسهم في مصاعب من أجل الله. هذا العالم هو مكان نثر البذرة واغتنام فرصة بلوغ مرضاة الله»(6).

فيظهر من هاهنا أن تعليم الإسلام ينظر إلى المعاناة بوصفها ابتلاء، وليست بلاء،  كما يعلمنا أن مستوى تقوانا وصلاحنا يعتمد على كيفية تعاملنا مع معاناتنا ومعاناة الآخرين.

وبحسب تعليم الإسلام، فإن الخسارة بجميع أنواعها، سواء كانت خسارة في الثروة، أو العمل، أو شخص عزيز، أو أي شيء آخر، تفيد في الواقع في تذكيرنا بأن هذا العالم وما فيه، فانٍ وزائل وأن قلوبنا ينبغي أن تكون مرتبطة بالصمد الباقي الذي لا يكابد أدنى خسارة.

ماذا على الأصحاء؟!

ويأمر الإسلام المسلمين أيضاً بعدم الاستهزاء بالأشخاص أو مناداتهم بألقاب تحتوي على السخرية، ويعتبر من لا يمتنع عن هذا السلوك من الظالمين. قال الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسٰى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسٰى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (7)

لذلك، يحرم الإسلام على نحو صارم مناداة ذوي الاحتياجات الخاصة بلفظ متعلق بإعاقتهم من شأنه إيذاء مشاعرهم، وحتى إن لم يدركوا هذا الإيذاء لسبب ما، فذات مرة، كان رسول الله جالساً مع أصحابه فمر بهم رجل مجنون، فقالوا: هذا رجل مجنون، فقال رسول الله : «مه، المجنون المقيم على معصية الله تعالى، ولكن هذا رجل مصاب» (8)

قال المسيح الموعود :

«إني أنصح جماعتي أن يتجنبوا الكبر لأن الكبر جِدُّ مكروه في أعين ربنا ذي الجلال. ولكنكم رُبَّما لا تفهمون ما هو الكبر، فَافْهَموا مني فإني أنطِق بروح الله.فكل من يَحْقِر أخاه لأنه أكثر مِنه علمًا أو عقلاً أو بَراعَةً فهو متكبرٌ، لأنه لا يرى الله تعالى مَصْدرًا للعلم والعقل بل يَعتَبر نفسَه شيئا يُذْكَر. أليس الله بقادر على أن يجعله مجنونا ويَهبَ لأخيه الذي يحتقره علما وعقلا وبراعةً أفضلَ مما عنده؟ وكذلك فإن الذي يحقر أخاه بِناءً على ماله وشَرَفِه وكرامته فهو متكبر، لأنه ينسى أن الله تعالى هو الذي أعطاه هذا الشرفَ والكرامةَ. إنه أعمى ولا يعرف أن الله تعالى قادر على أن يُنـزلَ عليه دائرةً فيقع في أسفل السافلين في لمح البصر، وأن يهب لأخيه الذي يحتقره مالا وثَراءً أكثرَ منه. كذلك مَن يَزْهُو بصحته الجسدية أو يتباهى بحسنه وجماله وقوته وقُدرتِه، ويذكر أخاه باحتقار ساخرًا منه ومستهزئا، ويَذكر عيوبَ أخيه الجسديةَ للآخرين، فإنه متكبر أيضا. إنه غافل عن ذلك الإله الذي يقدر على أن يُنـزل عليه عيوبًا جسدية دفعةً واحدةً ويجعلَه أَسْوَأَ حالاً مِن أخيه المحتقَر»(9)

و يجب، بالمثل، في الإسلام تلبية متطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة والإعاقة والاستماع إليها. حيث ترك الرسول الكريم مجلسه ذات مرة لتلبية متطلبات امرأة ذات احتياجات خاصة،

فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا» (10)

بإلقاء نظرة فاحصة على تاريخ العلوم والاختراعات الإنسانية، نجد أن المعاناة، بكافة صورها، تلعب دورًا أساسيًا في تطورنا الروحي والأخلاقي والجسدي، والعلمي أيضًا، فعلى سبيل المثال، كان الدافع وراء التقدم في الطب والتكنولوجيا هو الرغبة في إزالة المعاناة، فمثلا قاد الشعور بالبرد الإنسان إلى اكتشاف النار، وعبء السفر دفعه إلى ابتكار عربات تطورت بشكل أكبر إلى وسائل النقل المتقدمة الموجودة حالياً. لذلك، فإن معاناتنا قادتنا وما زالت تقودنا على طول مسارات التطور والتقدم في كل مجال. ولا يمكننا تجربة السعادة بدون ألم، لأننا نجد أعظم قوتنا في ألمنا. كما أن النجاح لا يبنى على النجاح، إنه مبني على الفشل والإحباط، وهو مبني على الخوف الذي يجب التغلب عليه. ولحضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله) قول رصين في هذا المقام،حيث قال حضرته:

«إن المعاناة تكون محل اعتراض فقط لو كانت قد خُلقت كذات قائمة بنفسها، دون أن يكون لها دور معنوي تؤديه في تدبير الأمور الدنيوية.فبغير الإحساس بالمعاناة.. أوبغير الإدراك لما تعنيه، سوف يختفي أيضاً الشعور بالراحة والفَرَح. وبدون مواجهة الألم وتجربة البؤس، لا بد أن يفقد الفرح والسعادة كل معنى. بل في الواقع.. إن الحياة نفسها سوف تفقد كل معنى.. ولا يكون لها هدف، وسوف تتوقف عجلة التطور.. وتجمد خامدة في مكانها. وعلى هذا .. خلال تطور حواسنا الخمسة، لعب الإحساس بالكسب والخسارة دوره الهام في الحياة.. تماماً مثل عجلتي العربة التي تتحرك عليهما. انزعْ إحدى العجلتين وسوف تفقد الأخرى أيضاً معناها، وبالتالي تتوقف العربة على الفور. إن الصراع بين الحياة والموت الذي ينتج عنه الألم والمعاناة، يخلق أيضاً البهجة والسعادة. وهو العامل الأول في قوة الدفع التي تزود عربة التطور بالطاقة اللازمة للتقدم إلى الأمام دائماً…. فليس في قدرة شفقة الإنسان أن تمحو المعاناة.. بغير أن تمحو الحياة نفسها(11)

المعاناة ليست آخر المطاف!

إذا حاولنا تعريف الخسارة الفادحة فإننا نخلص إلى أنها تلك الخسارة التي لا يمكن تعويضها لاحقا، بمعنى أنها تكون آخر المطاف. أم الخسارة التي يمكن تعويضها،مهما كانت خسارة عظيمة، فإننا نعدها مكسبا على أيةحال، باعتبار الربح الذي ننتظره من ورائها لاحقا.

بنفس المنطق السالف، علينا النظر إلى كافة أشكال المعاناة في هذه الدنيا، ومن بينها الإعاقات الجسدية، فالمتفق عليه بين المؤمنين على الأقل أن الحياة الدنيا مجرد مرحلة عابرة ستنتهي لا محالة، لتبدأ مرحلة جديدة ونشأة أخرى، يقول تعالى:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (12)

لقد فتح الإسلام بابا واسعا للتقدم الروحي، ودعا كل مؤمن إلى الولوج منه لإحراز الترقيات الروحانية، بما في ذلك الشهادة في سبيل الله، وشملت هذه الدعوةكافة المؤمنين، حتى من يشكو منهم من بعض الإعاقات الجسدية، وقصة الصحابي الكريم عمرو بن الجموح والذي كان ذا عرجة قصة معروفة، وبسبب هذه الإعاقة منعه أبناؤه من المشاركة في غزوة بدر، إلا أنه أصر على الخروج مجاهدا يوم أُحد، فأتى إلى رسول الله فقال:

«يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ نَعَمْ فَقُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلًى لَهُمْ فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ» (13)

ويقول الله أيضًا:

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (14)

تسلط هذه الآيات الضوء على كيف لا ينبغي أن ننظر إلى العروض القليلة للعالم بل نحو فيض رحمة الله. يمكن أيضًا تطبيق الاستعارة في هذه الآيات على التجديد الروحي لأن الله هو الذي يملك القوة لإحياء النفوس. وتعلمنا الآية الأخيرة ألا نفخر أو نكون مغرورين بما لدينا. فالله لا يتأثر بإنجازاتنا الدنيوية، بل يتأثر بكفاحنا الداخلي وتقوانا.

وقد أجاز الإسلام في وصاياه للمرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة، ليشتركوا فيها بأي طريقة ممكنة ويؤجروا. وعلى سبيل المثال، يجوز الصلاة أثناء الجلوس أو الاستلقاء إذا لزم الأمر، أو حتى الطواف حول الكعبة راكباً.

 

على سبيل المثال ، ذكرت حضرة أم سلامة زوجة الرسول الكريم :

شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنِّي أَشْتَكِي قَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ َ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ “والطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.(15)

 

القادرون باختلاف.. ونماذج إسلامية

اهتم الإسلام بحقوق ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة والإعاقات، وجعل حقوقهم متساوية مع الأصحاء، كما اعتنى بخطابهم اجتماعيا، فدعاهم قادرين كغيرهم، ولكن باختلاف ما، فصاروا في بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة يُدعون بأنهم «قادرون باختلاف»، صحيح أن هذا المصطلح مصطلح معاصر، إلا أن التاريخ الحضاري الإسلامي يثبت حقيقة تعامل المجتمع المسلم مع أصحاب الإعاقة الجسدية وذوي الاحتياجات الخاصة بوصفهم قادرين باختلاف أيضا، بدليل العدد الضخم من النابغين في شتى المجالات برغم إعاقتهم، وقد كان هذا منذ فجر الإسلام.

لقد حدد الإسلام معيارا واحدا يجري التفضيل بين الناس على أساسه، إنه معيار التقوى، وكون المرء تقيا لا علاقة له بكونه صحيحا جسديا أو ذا إعاقة وخير مثال على ذلك أن رسول الله عيَّن ابن أم مكتوم ليصلي إماماً بالمسلمين في غيابه، وكان ابن أم مكتوم  ضريرا،  كما سمح حضرة عمر لعبد الله بن أم مكتوم نفسه بالمشاركة في معركة القادسية حيث استشهد. وخدم فيها حاملا لواء جيش المسلمين، وهو منصب عسكري رفيع كما نعلم، فيتضح أن إعاقته الجسدية لم تضع من قدره، بل كان قادرًا باختلاف.

كذلك كان معاذ بن جبل من أصحاب رسول الله وكان ذا عرج، غير أنه حظي لدى رسول الله بمكانة سامية، حتى قال فيه : «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل» (16)

ومن علماء وفقهاء المسلمين اللاحقين من كانوا قادرين باختلاف، إذ لم تحُل إعاقتهم الجسدية دون إحراز الدرجات العلى في العلم والدين، نذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: سليمان بن مهران الأسدي، والملقب بالأعمش، وهو القارئ والمحدث المعروف من جيل التابعين. وأبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد. المعروف بالأخفش (أي الذي لا يرى إلا في الظلمة)، وكان من كبار النحاة، وكان استاذا لسيبويه. وآحاد بن أبي رباح، فقيه مكة ومحدثها خلال القرنين السابع والثامن الهجريين (17).

رعاية المسلمين لذوي الاحتياجات الخاصة

مضى ذكر أسوة في حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت تلك الأسوة الحسنة نبراسا اهتدى به الخلفاء الراشدون ومن تلاهم، ففرض حضرة عمر الفاروق لذوي الاحتياجات الخاصة راتباً ثابتاً من بيت المال أسوة بغيرهم من الأصحاء. كذلك في الدولة الأموية أمر عمر بن عبد العزيز بتسجيل اسم كل أعمى أو مُقعَد أو مَن به فالج أو مَن به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة. فرفعوا إليه فأمر بتخصيص موظف لمرافقة كل كفيف يقوده ويرعاه. وأصدر تعليماته لكل من يعاني من مرض مزمن أو إعاقة أن يكون له خادم ليخدمه ويعتني به.

الهوامش

  1. (الفتح: 18)
  2. (النساء: 96)
  3. (الأَعراف: 9)
  4. (التفسير الكبير، سورة المؤمنون)
  5. (صحيح مسلم،كتاب الزهد والرقائق)
  6. (الملفوظات المجلد. 7. الصفحة 93)
  7. (الحجرات: 50)
  8. ( كنز العمال. المجلد 4 ، الحديث رقم 10453)
  9. (نزول المسيح، الخزائن الروحانية، المجلد. 18 ، ص. 402)
  10. (صحيح مسلم, كتاب الفضائل)
  11. (حضرة مرزا طاهر أحمد، الوحي والعقلانية والمعرفة والحق)
  12. (الحديد: 21)
  13. (مسند أحمد, كتاب باقي مسند الأنصار)
  14. سورة الحديد 23 و24
  15. (صحيح البخاري، كتاب الصلاة)
  16. (سنن ابن ماجة ، كتاب المقدمة)
  17. انظر: شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء
Share via
تابعونا على الفايس بوك