القرآن الكريم، ونبوءة اكتشاف الانفجار العظيم

القرآن الكريم، ونبوءة اكتشاف الانفجار العظيم

عمر ناصر

  • لماذا يتخذ الماديون من الاكتشافات العلمية ذريعة للقول بعدم وجود خالق للكون؟
  • كيف يعتمد المؤمنون على نفس تلك الاكتشافات في قولهم بوجود الخالق؟
  • كيف يقرِّب مثال “نملة البالون” فكرة تمدد الكون ويدحض القول بلانهائيته؟
  • ما دلالة الاستفهام الاستنكاري الذي خُتمت به الآية الحادية والثلاثون من سورة الأنبياء؟

 ___

إن القرآن الكريم عند المسلمين هو كلام الله والطبيعة هي عمل الله. لذا نتوقع أن نجد انسجاماً كبيراً بين كلام الله وعمله(1). القرآن ليس كتاباً علمياً بحتًا، بالمعنى العصري للعلوم البحتة، إلا أنه يورد الحديث عن الظواهر الفيزيائية لإظهار الحقائق الروحية، كحديثه المتكرر عن الماء كمصدر للحياة المادية، في سياق حديثه عن الوحي كسبب جوهري في إحياء الأرض الميتة روحياً. وعلاوة على ذلك، فإن وصف الظواهر الفيزيائية يخدم في كثير من الحالات غرضاً آخر، وهو إيراد نبوءات علمية مستقبلية. وهذا يشكل برهانًا على أن القرآن ليس من تأليف النبي محمد ، بل هو كلام الله. وقد أصبحت الآيات نبوءات علمية عامل جذب رئيسي إلى الإسلام في العصر الحديث، حيث أعجب العديد من أولي الألباب بفصاحتها ودقتها.

الانزياح الأحمر، نملة البالون، وتمدد الكون!

منذ أكثر من 100 عام، سادت المجتمع العلمي بأكمله تقريباً فكرة خاطئة مفادها أن الكون لا بداية له بل كان موجوداً دائماً وسيظل دائماً. لكن نظرية أينشتاين في النسبية العامة قلبت الموازين. فعندما نظر الفيزيائيون إلى معادلات تطبيقها، أدركوا أن الكون يتوسع مثل بالون يجري نفخه، ولو عدنا بالزمن إلى الوراء، ندرك أن الكون المتوسع بدأ من نقطة منشأ أولية صغيرة جداً. لم يطل انتظار علماء الفيزياء، إلا وتوصلت أبحاث إدوين هابل في عام 1920 إلى اكتشاف ظاهرة الانزياح الأحمر، والتي يمكن تلخيصها في أن الضوء القادم من المجرات البعيدة يتجه طيفه جهة اللون الأحمر، مما يشير إلى تمدد الكون، ولتقريب فهم هذه الظاهرة لنتخيل معًا خطًّا قاتمًا مرسومًا على السطح الخارجي لبالون يجري نفخه، ويتمدد باستمرار، لا شك أن ذلك الخط الأتم ستخف قتامته شيئًا فشيئًا كلما تمدد البالون، فلو أن نملة تقف على سطح ذلك البالون لن يمكنها قطعا الاستدلال على تمدده بمجرد النظر، إلا أن تغير درجة لون الخط سيشكل لها دليلًا على ذلك التمدد.

الله تعالى يقدم نفسه بصفته «رب العالمين»، وهذا يعني أن الله هو خالق وحافظ ومطور كل عالم. التطور هو القانون الأسمى لعلم الكونيات في القرآن، من قضاء الله إلى الوجود الفعلي (الكون)، ومنه إلى الكون الذي نراه اليوم.

وذلك الرب الخالق نفسه يصف لنا في القرآن الكريم لحظات الكون الأولى وصفاً دقيقاً ومفصلاً في قوله تعالى:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (2)

فالكون، ممثلًا في السماوات والأرض، واللتين رغم تمايزهما الآن، كانتا في يوم من الأيام كتلة مصمتة، لا نجد تعبيرا أبلغ من وصفها بـ «الرتق». ثم فُتح ذلك الرتق لتكون نشأة السماوات والأرض بعد عملية الفتق. العجيب في الأمر ما حوته الآية من نبوءة مستقبلية، تتلخص في أن الأدلة الرصدية على ذلك سيعثر عليها «الكفار»، أي: غير المسلمين. وتنتهي الآية بالحديث عن هذا العصر الإلحادي،نفهم هذا من الاستفهام الاستنكاري “أفلا يؤمنون؟”، إذ سوف «يرى» الكفار هذا، أي: سيكون هناك دليل على ذلك قائم على الملاحظة، وستكون مضامين الآية حجة للإيمان بالله وبالإسلام. وفي الآية نفسها التي قدمت وصفا دقيقا لبداية نشأة الكون، نجد وصفًا لسر الحياة، ممثلا في الماء، الذي هو مصدر الحياة.

ثم لا يتوقف القرآن عند هذا الحد، ففي موضع آخر يصف أيضاً عملية توسع الكون في قوله تعالى:

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (3)

نحتاج أولاً إلى أن نبحث في معنى رتقاً، وهو مصدر للفعل رَتَقَ، والــرَّتْقُ معناه الضمّ والالتحام(4) وابن منظور في معجمه الشهير «لسان العرب» يذكر من معاني الرتق «الظلام»(5). وهكذا يكون المعنى كتلة مظلمة متجانسة، تصبح “السماوات والأرض».

والمعاني الواردة في قاموس القرآن لمالك غلام فريد هي رَتْقُ القماش أي خياطته، أو ترقيعه. وبالتالي فإن المعنى الأساسي هو تنسيق عناصر مختلفة في كتلة واحدة(6). وفي سياق هذه الآية، يترجمها على أنها “كتلة ملتحمة”، ويدل على ذلك الحالة غير الـمُعرَّفة، حيث لم تكن السماوات ولا الأرض قد تميزت بعد.

بعد ذلك ننتقل إلى معنى «الفتق”. وفتق الشيء هو خلاف الرَّتْق، في لسان العرب: “فَتَقَــهُ يَــفْتُقُــه ويَــفْتِقُــه فَتْقــاً: شقه”(7) تثنية الكلمة تعود لـ «السماوات والأرض» الموصوفتين للتو بكتلة ملتحمة.

إن هذا الوصف لمذهل للغاية وينطبق تماماً على الانفجار العظيم، إذ كان الكون في الواقع كتلة ملتحمة، أي نقطة صغيرة وكثيفة جداً أعطت الكون الواسع.

خلق الكون في أساطير الأولين

على الرغم من التفاصيل الدقيقة التي يذكرها القرآن عما كان في بدايات الكون الأولى، إلا أن طائفة من الملحدين يزعمون بأن هذه  التفاصيل ليست بمفاجئة، لأن فكرة انقسام السماوات والأرض  هي بالفعل أسطورة كائنة في تراث الشرق الأوسط. يكتب النقاد:

 «عند المصريين على سبيل المثال، كان الانفصال القسري لـ «جِب” (إله الأرض) عن زوجته وأخته نوت (إلهة السماء) هو تسبب في فصل الأرض عن السماء. كما تصف ملحمة جلجامش السومرية اللحظة «التي انفصلت فيها السماوات عن الأرض، عندما حُدَّت الأرض عن السماء» نتيجة لانفصال إله السماء (آن) عن إلهة الأرض (كي). فلو أقصينا المرجعية الوثنية، حصلنا على قصة القرآن نفسها»(8).

وبالتالي فإن الاعتراض باختصار، يقدِّم خصوم الإسلام مثل هذا المقتبس لإثبات أن فكرة تقسيم السماوات والأرض هي ببساطة مسروقة من أساطير الأولين.

منجهنا كمسلمين، لا ننكر أبدا أن فكرة الفصل بين أجزاء مختلفة من الكون هي في الواقع واحدة من الموضوعات العديدة المتكررة في أساطير الخلق القديمة، بيد أننا نوقن تماما أن القرآن هوصاحب السبق في الوصف الدقيق للرتق، أي ما كان قبل تميز مادة الكون المبكرة.

علاوة على ذلك، لو كان النبي محمد، لا سمح الله، انتحل هذه الأفكار، فلماذا ينتحل أساطير الخلق هذه من الثقافة الوثنية التي يكرهها؟! لماذا لم يأخذها من الكتاب المقدس، والذي كان متاحاً له على الأقل نظرياً؟! ولكن بالطبع، تختلف أيام الخلق المذكورة في الكتاب المقدس اختلافاً جذرياً عن تلك الموجودة في القرآن، كما هي حال العديد من التفاصيل الأخرى. مما يدحض فكرة انتحال النبي من الكتاب المقدس أو من أي مكان آخر.

ففي أسطورة الخلق السومرية مثلا، اعتقد السومريون أن «البحر البدائي» سبق السماوات والأرض، وموجود على ما يبدو منذ الأزل. وأن السماوات والأرض متحدتان في هيئة جبل. ويفسد الأسطورة بأكملها ذكر أنصاف آلهة مختلفة تتشاجر وتقاتل بعضها البعض.

بالطبع لا يذكر القرآن بحراً بدائياً موجوداً مسبقاً، ولا أن السماوات والأرض كانتا جبلاً، ولا الأفكار الأخرى التي لا تعد ولا تحصى في أساطير الخلق السومرية. وبالتالي فإن تخيل أي علاقة بينهما أمر غير معقول، لأنه يتطلب عندها شرح سبب دخول جزء صغير فقط من أسطورة الخلق، يصادف أنه صحيح، إلى الوسط العربي.

كما أنه لن يفسر لماذا يشارك النبي محمد ، الذي كان يكره الأساطير الوثنية العربية، في أسطورة الخلق هذه.  ويفشل أخيراً في شرح دقة عبارات الآية القرآنية.

وإذا ما انتقلنا إلى أسطورة الخلق المصرية القديمة، نجدها تتحدث عن “نون”، وهو بحر بدائي، سكنته العديد من الآلهة ومنه انبثق الكون. هذا طبعا بإيجاز شديد، والتفاصيل يذكرها عالم المصريات الشهير، غاري ج. شو في كتابه « الأساطير المصرية»

العجيب في الأمر ما حوته الآية من نبوءة مستقبلية، تتلخص في أن الأدلة الرصدية على ذلك سيعثر عليها «الكفار»، أي: غير المسلمين. وتنتهي الآية بالحديث عن هذا العصر الإلحادي،نفهم هذا من الاستفهام الاستنكاري “أفلا يؤمنون؟”، إذ سوف «يرى» الكفار هذا، أي: سيكون هناك دليل على ذلك قائم على الملاحظة، وستكون مضامين الآية حجة للإيمان بالله وبالإسلام. وفي الآية نفسها التي قدمت وصفا دقيقا لبداية نشأة الكون، نجد وصفًا لسر الحياة، ممثلا في الماء، الذي هو مصدر الحياة.

كَفَّةُ القرآن ترجح

إذا ما قارنا كلتا الأسطورتين، السومرية والمصرية، مع ما ذكره القرآن الكريم في قول الله تعالى:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (9)

حتى بصرف النظر عن عبادة الأصنام الوثنية، فإن هذه الآية تختلف بشكل لافت للنظر عن أسطورة الخلق المصرية. ففي الأسطورة، يسبق فصل السماوات والأرض وجود مياه بدائية وأرض بدائية وأجرام سماوية وربما البشرية نفسها.

في القرآن الكريم، لم يتم ذكر هذا. على عكس الكتاب المقدس، الذي ربما تأثر بهذه الأساطير، لا يوجد ماء بدائي. لا توجد أيضاً أرض سابقة، ولا أي أجرام سماوية سابقة. في الواقع، إن الأسطورة المصرية غير متماسكة تماماً. إذ يبدو أن السماوات كانت تعمل بشكل جيد قبل انفصالها عن الأرض. أما القرآن فيؤكد على وحدتهما البدائية بلغة دقيقة. إنه لا يضيف شيئاً، ويلخص نظرية الانفجار العظيم في صياغة مناسبة تماماً.

أن يصل النبي محمد إلى أسطورة الخلق المصرية ويستخرج منها الآية المعنية، كان يتطلب على الأقل بصيرة إلهية. ولو انتقلت الأسطورة إلى الأساطير العربية، فلا يوجد سبب يمكن تصوره يبرر وجودها بهذه الصيغة في هذه الآية. أما الانتقال المتبادل بين أساطير الخلق السومرية والمصرية أمر محتمل جداً نظراً لأوجه التشابه بينهما.

والحقيقة هي أن الآية القرآنية لا تجد سابقة في أساطير الخلق القديمة ولغتها صحيحة تماماً. فمن الأفضل للملحدين أن يعيدوا النظر بصدق وأمانة في هذه الحقائق.

الهوامش:

  1. حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد، رحمة للعالمين
  2. (الأنبياء: 31)
  3. (الذاريات: 48)
  4. الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، مادة «ر ت ق»
  5. بن منظور، لسان العرب، مادة “ر ت ق”
  6. مالك غلام فريد، معجم القرآن الكريم، ص
  7. ابن منظور، لسان العرب، مادة “ف ت ق”
  8. حمدي الراشدي، أساطير الخلق عند مختلف الأديان
  9. (الأنبياء: 31)
Share via
تابعونا على الفايس بوك