سر "كن فيكون" صفة الخلق الاقتدارية بين تصورين

سر “كن فيكون” صفة الخلق الاقتدارية بين تصورين

سوسن حسين

سوسن حسين

  • ماذا يقول الخلقيون في صفة الخلق؟
  • كيف يفهم التأويليون هذه الصفة الإلهية الاقتدارية؟

___

الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، فهو القائل في كتابه:

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (1)،

وقال أيضا:

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (2)،

فكل خلق منه، وراجع إليه، وهو الذي أودعه الأسرار والملكات ليكون كما أراد له أن يكون،

الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (3)،

فهدايته له تتمثل في تزويده بالطاقات والقدرات والإمكانات التي تمكنه أن يكون نافعًا مؤديًا وظيفته التي خلقه من أجلها على أتم وجه، فإن كان قد خلقه للإنارة فلابد وأنه قد زوده بالقدرة على الإنارة، وإن كان قد خلقه من أجل الإثمار فحتمًا قد منحه القدرة على أن يكون مثمرًا، وأن تكون ثماره حاملة للصفات التي أرادها بالتمام والكمال فلا عشوائية ولا مصادفة، إنها قدرة الله وحكمته وتقديره وقيوميته، وله القدرة المطلقة على الإبداع والإيجاد من عدم، وله القدرة أيضًا على تغيير مسار نمط الخلق من حال إلى حال، فهو الذي يحول الماء المالح بخار ماء بفعل حرارة الشمس، ويحول البخار سحابًا متراكمًا، ثم يحوِّله من مكانه إلى أماكن أخرى بسوق الرياح، فتأخذه إلى بلد ميت، ليحيي به الأرض بعد موتها، وهو الذي يحول الحبة الصغيرة شجرة هائلة ذات أوراق وأغصان وفروع وجذوع وجذور، وثمار وظلال، لتكون قدرته على تحويل مسار المشهود دليلًا على قدرته المطلقة على الإيجاد من عدم لقوم يتفكرون.

 

الخلق من وجود كائن

ومن جنس الخلق الآخر من موجود سابق نرى من الأمثلة ما يفوق الحصر، ويعجز عنه الإحصاء، فقد خلق من الطين بشرًا، ومن البشر من ظل طينيًا أخلد إلى الأرض، ومنهم من صار ملَكاً ذا أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ووهب لبعض عباده القدرة على محاكاة بعض صفاته  في نطاق معين فجعلهم يخلقون من الطين كهيئة الطير، فينفخون فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وجعل من كفار مكة ومعاندي دعوة الحق من يموتون في سبيل إعلائها ورفع كلمتها بعدما غشيتهم رحمته، وغمرتهم أنواره، واستضاؤوا من ضياء خاتم النبيين واقتبسوا من قبسه، واستظلوا بظل عرشه الذي حل فيه عرش الرحمن، فاستحال سواد قلوبهم بياضًا، وعتمة ليلهم ضياء، وكدر نفوسهم صفاء، وظهر أمام الناس كيف خلق الله من الطين بشرًا فجعله نسباً وصهراً .

يحمل معنى الخلق من عدم، فليس شرطاً أن يكون الشيء كائناً حتى يوجه له سبحانه وتعالى القول(كن)، وإنما تقال للمعدوم أيضاً، لأن المعدوم عند الخلق هو كائن في علم الله وقدرته، إنما قوله له (كن) هو أمر بالتكون والمثول بين يديه والظهور للعلن بعدما كان مخفياً عن الكائنات، ولم يكن له صورة مادية يتجلى فيها

الخلق من العدم

ليس خلق الله من موجود كائن بأقل من خلقه تعالى من معدوم غير كائن، فإن الله تعالى يأخذ بيد الإنسان كطفل يحبو ثم يخطو خطوة خطوة كيلا يتعثر، ثم ما يلبث أن يسير منتصبًا ثم يهرول ثم يعدو، فيصل من المحسوس المشهود إلى الغيب المطلق، ومن أجل ذلك خلق الله الماديات المشهودة لتكون دليلا على الروحانيات التي لا تدركها الحواسّ، فلربما انتصب فارسٌ قائماً بعد كبوته، ولربما ذلت قدم بعد ثبوتها، وكل ذلك خلق جديد.

وقد تجلى الله على عبده هذا، فخلقه خلقا من بعد خلق، فقال له: «إنا جعلناك المسيح بن مريم»(4) بعدما لم يكن، فكان، وقال له أيضا: «يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ»(5) لتكون له العصمة من الخلق التي كانت لعيسى بن مريم، فلا يقتله ولا يصلبه أحد من أعدائه، كما كان سبحانه قد سمَّى المسيح الناصريّ بهذا الاسم أيضاً، فإن القرآن الكريم يخبرنا أنه لم تُطلق عليه أمه ولا أحد من سبطه اسم المسيح عيسى بن مريم، بل إن الله تعالى هو الذي وهبه من عنده تلك التسمية، فقال

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (6)

فكما تجلى بفضله بتسمية المسيح الأول، فقد تجلى بفضله أيضا وسمَّى المسيح الموعود عليه السلام (عيسى بن مريم) في هذا الإلهام، إنها سُنة الله التي لا يعتريها تحوُّل، ولا يأتي عليها تغيُّر، وإنه تعالى لا يزال يخلق ولم تتعطل فيه صفة الخلق، ولا يزال يقول للشيء كن فيكون، ولا يزال يدلل على ذلك ويسوق البراهين، فإنه سبحانه لما اقترب وعده الحق بإنزال المسيح من سماء القدرة نظر في قلوب عباده أيهم يكون مسيحاً، فرأى ذلك العبد قد دنا، فأمره أن يتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، قوس الرب الهادي، وقوس العباد المفتقرين إلى الهدى، فكان إماماً للمتقين، يُعيد الإيمان من الثريا، ومسيحاً موعوداً يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهذا هو المعنى الحقيقيّ للبعث، فكما أن البعث بعد الموت يجعل من البشر المبعوثين وكأنهم خلقٌ آخر تماماً، فإن البعث بمعنى التحوُّل من حال إلى حال بفعل الله الخالق يكون كذلك أيضاً، فيصير المبعوث من الكفر إلى الإيمان مخلوقاً خلاف المخلوق الأول، ومن هنا فقد اعتبر رسول الله   أصحابه جميعاً مبعوثين، فقال لهم موجهاً إياهم:

«فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»(7)

فقد بعثهم الله من الظلمات إلى النور، كما يبعث الأموات من ظلمات القبور إلى نور حضرته وضياء وجوده.

إن المسيح الموعود عليه السلام لهو خير مثال على تحقق قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ (8)، وهو الحال نفسه الذي كان مع المسيح الناصريّ عليه السلام، فلقد خلقه الله تعالى أيضاً بقانون «كن فيكون» فقال عز من قائل:

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (9)،

إنه نفس القانون الذي يخلق الله سبحانه وتعالى به كل عبد أراده أن يكون المسيحَ عيسى بن مريم فإنما يقول له: «كن فيكون:، والناظر في هذه الآيات بل وكل الآيات التي ورد فيها قوله تعالى «كن فيكون» يجد أنها جميعاً عبرت عن التكوين بصيغة المضارعة الدالة على الاستمرار غير المنقطع، ولم يكن التعبير عن التكوين بالماضي الزائل، فإن كان هو عيسى واحداً، فكان حتماً قد (كان) فلم يقل سبحانه «كن، فكان» وإنما قال «كن فيكون» والمفهوم من ذلك أنه لا يزال (يكون) والفرق بين التعبيرين أن الله تعالى عندما يريد خلق أحدٍ من عباده ليجعله المسيح عيسى بن مريم فإن الاستجابة لهذا الأمر تحدث بصورة متكررة، فليس مسيحاً واحداً خلقه الله مرة واحدةً فـ (كان)، إنما هم مسحاء يخلقهم الله بالأمر نفسه (كن) كلما كانت حاجة العالم ماسّة إلى مسيح، فإننا ما زلنا نقرأ حتى اليوم ويقرأ القارئون إلى قيام الساعة أمر الله إلى المسيح أن يكون، وما زال الأمر يتحقق في صورة مسحاء جدد، ولا ينقطع، وفي هذا المقام يؤكد المسيح الموعود عليه السلام أن المسحاء لن ينقطعوا من بعده، وأنه ليس المسيح الأخير الذي أغلق باب المسحاء إلى الأبد، ولكنه قد يأتي بعده ألف مسيح، وبما أن الخلافة بعده مستمرة إلى يوم القيامة فلا بدأن يكون هؤلاء المسحاء من جماعته، المهديين بهديه، فإنه هو وحده (المسيح الموعود) أما هم، فمسحاء منه يبعثهم الله كلما كانت الضرورة ملحَّة في حاجة إلى مسيح.

وكما أن الله تعالى يأمر المسحاء أن يكونوا، فيكونوا، بما كان لهم من صفاء قلوب، وجهاد نفس، وقرب وفضل، فإنه يأمر الظالمين المعتدين بما فيهم من فساد طبع وكدر نفس وسوء سيرة أن يكونوا قِردةً خاسئين

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (10)

إنه أمرٌ بالكينونة إلى سفول، بما سفلوا بأعمالهم وعنادهم ومخالفتهم شريعة الله ونهجه، فكما أن الله يأمر أن يكون الصالحون مسحاء لنكات بيضاء في قلوبهم، فإنه يقضي أن يكون الطالحون قِردةً خاسئين لنكاتٍ سوداء في قلوبهم أيضاً، وكما أن هؤلاء لم تتغير خلقتهم من جنس البشر إلى جنس القردة والخنازير بعد قضاء الله فيهم، ولم تحلَّ فيهم أرواح قردة وخنازير على وجه الحقيقة، فإن الطاهر الذي يقضي سبحانه أن يجعله مسيحاً لا يستحيل إنساناً آخر غيره، أو تحل فيه روح المسيح الذي خلا، وإنما القدرة الإلهية تتجلى حينما يكون هو هو الذي كان، ثم يُنشئه الله خلقاً آخر، فيتبارك الله أحسن الخالقين جيلا بعد جيل

إرادة الصالحين من إرادة الله

من ناحية أخرى، فإن الله تعالى يستجيب رجاءات الصالحين، ويحقق أدعيتهم على هذا النحو أيضاً، فيجعل مراداته موافقة لمراداتهم، ويسخِّر خلقه تلبيةً لمطالبهم، وقد أدركت أم المؤمنين ذلك فقالت لرسول الله : «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك»(11)، ولقد أكد المصلح الموعود رضي الله عنه في التفسير الكبير، في تفسيره للآية الحادية والأربعين من سورة النحل على هذا المعنى، وقد استشهد للتدليل على ذلك بقصة أبي خيثمة، الذي لم يكن في المدينة عند الخروج لغزوة تبوك، وقد كره له رسول الله أن يكون مع المخلَّفين، وما أن رأى الصحابة راكباً مقبلاً عليهم حتى أخبروه عليه الصلاة والسلام، فنظر الرسول تجاهه وقال: «كن أبا خيثمة»(12)، ويتابع الراوي فيقول: «فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري»(13).

ولكننا نؤكد هنا أيضاً أن لذلك القول (كن فيكون) أبعادٌ أخرى أيضاً، حيث يحمل معنى الخلق من عدم، فليس شرطاً أن يكون الشيء كائناً حتى يوجه له سبحانه وتعالى القول(كن)، وإنما تقال للمعدوم أيضاً، لأن المعدوم عند الخلق هو كائن في علم الله وقدرته، إنما قوله له (كن) هو أمر بالتكون والمثول بين يديه والظهور للعلن بعدما كان مخفياً عن الكائنات، ولم يكن له صورة مادية يتجلى فيها، فإن أمر الله تعالى له (كن) بمثابة التكوُّن والظهور لمن كان عدماً محضاً بالنسبة لهم، فإنه وإن كان معدوماً عند الخلق، إلا أنه كان كائناً عند الله في علمه وتقديره وإحاطته

وبهذا يفسد الاعتراض الذي يعترضه الهندوس الذين يعتقدون قِدم المخلوقات جميعاً، وأنها تشترك مع الخالق في صفة الأزلية، وكانوا يحتجون بهذه الآية الكريمة على صحة معتقدهم، ويقولون أن الأشياء التي يأمرها الله أن (تكون) هي كائنة فعلاً، لأنه ليس من المنطق توجيه الخطاب للمعدوم، وبالتالي فهي شريكة معه سبحانه في القِدم والأزلية، حتى أصبح لديهم أعداد هائلة من الآلهة بعدد سائر الكائنات.

الهوامش:

  1. (الرعد 17)
  2. (يس 82)
  3. (طه 51)
  4. إلهام تلقاه سيدنا المسيح الموعود في 1893م، وسجله ضمن: (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية، مجلد 5، ص 373-375)
  5. إلهام تلقاه سيدنا المسيح الموعود في 1883م، وسجله ضمن: (رسائل أحمدية، مجلد 1، ص 67، رسالة يوم 20/11/1883 إلى مير عباس علي شاه)
  6. (آل عمران 46)
  7. (البقرة: 118)
  8. (آل عمران 60)
  9. (البقرة 66)
  10. (صحيح البخاري، كتاب النكاح)
  11. (صحيح البخاري، كتاب المغازي) 12 و 13 (نفس المرجع السابق)
Share via
تابعونا على الفايس بوك