تمثلات الرحمة في دين الإسلام

تمثلات الرحمة في دين الإسلام

أظهر حنيف

أظهر حنيف

  • كيف أن التعاليم الإسلامية وسعت مفهوم الرحمة الإلهية لتشمل جميع الخلائق؟

___

قبل عرض هذا المقال، ننوِّهَ إلى أن مادته العلمية في أصلها كانت خطابًا شارك به مؤلفه في مؤتمر القمة العالمي عن وجود  الله تعالى، ثم ارتأت أسرة التحرير إعادة عرضه كورقة بحث على صفحات مجلة “التقوى”، لفائدة القراء الأفاضل.

إن رحمة الله مفهوم موجود في التعاليم الدينية العالمية وهو جزء لا يتجزأ من تعاليم الإسلام الأساسية في القرآن الكريم، ولكن المرء يدهش بالفعل عندما يسمع أن شخصاً عارفًا بأن الله غفور رحيم يقوم بفعل صادم للغاية.

وعن أبي سعيد أن رسول الله   أنه قال: «إن رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ. قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ. فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ»(1)

بعض الديانات تحرق جثث أمواتها ولكن لم يكن هذا شائعًا. إن ما دار في ذهن الأب ليطلب ذلك من أبنائه هو أنه اقترف كثيرا من المعاصي في حق الله تعالى، فإذا قبض عليَّ فسوف يعاقبني كما لم يعاقب أحداً من قبل.

إن ما حمل ذلك الرجل على أن يوصي أولاده ما أوصى، هو خوفه من الله تعالى، وأنه ينجو بهذه الوصية، ولكن الله لا تعجزه المادة ولا الرماد المنثور في البحر. على أية حال، تُظهر الرواية أن الرجل مثُل بين يدي الله تعالى في نهاية المطاف، وعلى الرغم من معاصيه الكثيرة في دنياه، إلا أن الله تعالى غفر له!

إن الدرس المستفاد من هذه الرواية الحديثية أن الله تعالى محب ورحيم ورؤوف بأولئك الذين يخشونه سبحانه ويخافون أن يكونوا خالفوا وصاياه وفعلوا شيئاً ما ضد إرادته ولذلك يخشون لقاءه.

نجد هذه الفكرة في جميع الأديان، وفي الإسلام تعكس هذه القصة مدى فشل هذه الفكرة في فهم عمق صفة الرحمة الإلهية. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (2)

من المحبوبون؟!

إن المخصوصين بحب الله تعالى في القرآن الكريم أصناف شتى بلغ عددها تسعة، وقد عرضت لها ستُّ عشرة آية قرآنية، وهؤلاء هم الْمُحْسِنونَ، والتَّوَّابونَ، والْمُتَطَهِّرِونَ، والْمُتَّقونَ، والصَّابِرونَ، والمتوكلون، والمقسطون، والمطَّهرون، والَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ.. وثمة قواسم مشتركة بين هؤلاء المخصوصين بحب الله تعالى من أهل الأصناف التسعة المذكورة في القرآن، وهذه القواسم المشتركة هي أنهم يخشون الله تعالى ويعون وجوده الأسمى، ويدركون تمام الإدراك أن الحياة ليست مقصورة على هذا العالم، بل إن الدنيا مقارنة بالحياة الآخرة ليست بشيء يُذكر، يقول تعالى:

مقارنة بالحياة الآخرة

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (3)

وهذه القواسم المشتركة نجد أنها تكاد تكون مجموعة ضمن صفة واحدة، هي التقوى، والمتصفون بها يسمون بالمتقين

فالمتقون هم الحائزون على هذا الوعي خلال حياتهم.

بالعودة إلى قصة الرجل المذكورة في بداية المقال، يبدو أنه كان يملك وعيا بأن الله تعالى يراه، وفهم أن ما كان يفعله خطأ، فتملك قلبه الرعبُ من سوء المصير عند الله تعالى، مما دعاه إلى أن يسلك الطريق الذي سلك.

إن هذا الرجل لا شك سعيد الحظ، إذ فاز بمغفرة الله تعالى وعفوه، لا شك أنه كان أسعد حظا لو أنه استوعب صفة رحمة الله كما ينبغي

الرحمة منبع بركات الأسماء الحسنى

تتدفق الصفات الأخرى كلها من محيط الرحمة العظيم فهي مجرد روافد لصفتي الرحيم. وإلى هذه الحقيقة الدقيقة يشير سيدنا المسيح الموعود ، حين يطرح سؤالًا غاية في الأهمية عن سر ذكر صفة الرحمة، ممثلة في اسمَيْ الرحمن والرحيم، مقرونة دون غيرها من الأسماء الصفاتية باسم الله الذاتي، وذلك في عبارة البسملة. ويجيب سيدنا المسيح الموعود بنفسه على السؤال المطروح، فيقول:

«فالجواب أن الله أراد في هذا المقام، أن يذكر مع اسمه الأعظم صفتين، هما خلاصة جميع صفاته العظيمة على الوجه التام، وهما الرحمن والرحيم، كما يهدي إليه العقل السليم»(4).

وهذا مما يُفسر بدء كل سورة في القرآن الكريم بعبارة البسملة، أي «بسم الله الرحمن الرحيم»، من دلالاته أن الله سبحانه وتعالى أمَّن لنا جميعا كل احتياجاتنا، فكل كائن حي يتمتع بقدر من فيوض الرحمة، فما من كائن حي في هذا العالم إلا وقد سبقت وجوده كافة مقومات ذلك الوجود الحي، من ماء وهواء وغذاء، إلخ. بل خلق الله كل ما يحتاجه المخلوق قبل أن يأتي إلى الأرض ليتمتع بهذه النعم.

ثم تتجلى رحمة الله تعالى مرة أخرى فيما وهب لنا من أفضال ونعم وكيف نتعامل معها، وهذا فهم مثير للاهتمام، حيث ندرك من خلاله حقيقة روحانية عظيمة، مفادها أن علاقتنا مع الله سبحانه وتعالى ليست مجرد علاقة عبد مع سيده، بل هي علاقة قائمة على الحب، بما يضمن استمرار تنزُّل بركاتها على المخلوق.

وبالرجوع إلى حكاية الرجل الذي أوصى بإحراق جثته وذرها في مهب الريح، نجد أن ما حمل هذا الرجل على هذا الفعل هو اليأس من رحمة الله في الحقيقة، إنه اليأس ذاته الذي نجده قاسيًا في العالم الآن، ولكن بظلال جديدة أكثف وأقتم.

الرحمة بين تعليمين

إن تعليم نشر السلام والمحبة من أكثر التعاليم التي نحن بحاجة إلى إفشائها في عالمنا المعاصر، وما مشكلات العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية إلا رجع صدى لغياب عنصر المحبة. وتعليم السيد المسيح الناصري في الإنجيل إذ قال:

«أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ»(5)،

هو تعليم إنساني راق، ولا جدال في ذلك. ولكن الأرقى والأعظم منه ما ورد في القرآن الكريم، من توجيه الله تعالى كلامه إلى المسيئين واصفًا إياهم بالعباد، وهو وصف شريف لا يوصف به في الكتاب المجيد إلا ذو حظ عظيم! يقول (عز وجل):

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (6)

لنتوقف هُنيهة متفكرين في هذه الآية الكريمة من سورة الزمر، ولنناجِ الله تعالى قائلين: أنْ يا ربنا، هل تدعو من يخالف قواعدك وأوامرك وتوجيهاتك بـ «يا عبادي»؟ فكيف بالذي  يتبع سبيلك؟!

هذا هو الشيء المدهش في القرآن، فمع أن المخاطبين هنا في هذه الآية الكريمة  هم أناس ارتكبوا الخطأ الجسيم بحق أنفسهم، تماماً مثل الرجل الذي تحدثنا عنه في البداية، إلا أن الله لا يزال يدعوهم بـ «عبادي»، ولا يزال يعاملهم بمحبة ومودة. فلم تنفصم العروة الوثقى بين الخالق والمخلوق والسيد والعبد والحبيب والمحبوب.

لذلك إذا كنت عبدي  فمهما بدرت منك الذنوب، فلا تيأس أبداً من رحمتي. لماذا؟ هذا ما يبينه عَجُزُ الآية:

إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (7).

هذا هو جمال التعاليم الإسلامية المذهل حول الرحمة بحيث لا ينبغي لأحد أن يفقد الأمل أبداً، ولا ينبغي لأحد أن يشعر أبداً مهما عظم ذنبه أو خالف أمراً من أوامر الله أن لا وسيلة أمامه لنيل غفران الله. فالله يخبرنا جميعاً بأننا عباده، كما يتجلى علم الله تعالى التام بالفطرة الإنسانية، وأن ضعفها أمام المعاصي احتمال وارد، فيقول تعالى:

وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (8)

لا يمكن لأي إنسان الجزم بأنه نقي تمامًا من المعصية والخطأ، ولا أن يقول في نفسه وقلبه لم أقترف إثما قط، ولم أخالف أمرًا من أوامر القرآن السبعمائة، بل إننا على الأرجح نخالف دائمًا الأوامر، عامدين أو دون عمد، ومع هذا فإن الله يغفر لنا باستمرار كل تلك الأخطاء والذنوب، صغُرت أم عظُمت.

اليأس.. مبدأ الخراب

إن من أوائل قصص القرآن، قصة خلق آدم واستخلافه، وما تبع ذلك من عصيان الشيطان وتمرده.

لقد عبرت آيات الذكر الحكيم عن الشيطان باسم «إبليس»، وفي العربية،

«الإبلاس هو اليأس، فأَبْلَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَيْ يَئِسَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ «إِبْلِيسُ» والْإِبْلَاسُ أَيْضًا الِانْكِسَارُ وَالْحُزْنُ، يُقَالُ: أَبْلَسَ فُلَانٌ إِذَا سَكَتَ غَمًّا»(9).

وهذا الكائن الذي غلبت عليه شقوته عصى الله مرة، وكان بإمكانه الرجوع والإنابة، غير أن اليأس تغلب عليه، وبلغ به مبلغ أن تمادى في تجاسره، فتعهد بالدأب على إضلال البشر وغرس هذا اليأس فيهم دائماً.

وبالرجوع إلى حكاية الرجل الذي أوصى بإحراق جثته وذرها في مهب الريح، نجد أن ما حمل هذا الرجل على هذا الفعل هو اليأس من رحمة الله في الحقيقة، إنه اليأس ذاته الذي نجده قاسيًا في العالم الآن، ولكن بظلال جديدة أكثف وأقتم.

إننا كثيرًا ما نواجه حقيقة إنسانيتنا، مدركين ضعفنا، فنحن ضعفاء ناقصون والله القوي العزيز الكامل ، ولكن بمجرد أن نواجه تلك الإنسانية المتصفة بالنقص والفساد والضعف، يطغى علينا في بعض الأحيان شعور يجعلنا ننزلق في هوة الظلام، فيغلب علينا اليأس والخوف من أن لا عودة إلى الوراء لا مرجع إلى بر النجاة، وما أن نكون على هذا المنحدر الزلق، يزداد خطر استمرارنا على الخطيئة وينتهي بنا الأمر إلى الإصرار على ارتكاب المعاصي، حيث نظن ألا عودة ترجى ولا توبة تُقبَل. لذلك ورد في مواضع شتى من القرآن الكريم ما من شأنه أن ينبه المؤمنين إلى ضرورة التشبث بالأمل في النجاة، وأن طريق التوبة متاح دوما، فيقول تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (10)

عودة إلى ينبوع الحياة الأول

نحن مستفيد مثالي من تلك الرحمة التي بدأ فيضانها بولادتنا، إذ تستقي الخليقة الحية كلها من ينبوع صفة الله «الرحمن»، وقد ورد في حديث للنبي محمد

«جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»(11)

إن أفضل طريق يمكن من خلاله تقريب فكرة الرحمة الإلهية إلى الأذهان، تشبيهها برحمة الأم بولدها، ولله المثل الأعلى، فالأم تولي أولادها كل الرعاية والحنان والرأفة متغاضية عن كل عيوبهم، حتى وإن أساءوا إليها، فإنها تتجاهل كل عيوب أولادها وإساءاتهم، بل تساعدهم لينموا ويكبروا. وورد في حديث قدسي عن النبي أنه قال:

«قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»(12).

نستشف مما مضى من قوله تعالى

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (13)،

وحديث البخاري، والحديث القدسي المروي في سنن الترمذي، أن لدينا أبوابًا وفرصًا كثيرة للمغفرة بحيث لا ينبغي لأحد منا أن ييأس من رحمة الله، فاليأس من رحمة الله تعالى هو الكفر الحقيقي، يقول تعالى على لسان حضرة يعقوب :

لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (14).

ولعل هذا الظل الملقى على فكرة «اليأس» يجعل منه مشكلة عالمية، لا سيما وأن اليائسين، أفرادا كانوا أو مجتمعات، ينجرفون أكثر فأكثر في خطاياهم وحالهم المزرية، فيضلون السبيل الموصلة إلى النجاة،  ثم لا يستطيعون العودة. وإذا تأملنا في حال الشعوب التعسة، لوجدنا أن سر تخلفها الأول هو يأس أبنائها من إحراز التقدم، إنه اليأس ذاته الذي حرم إبليس من الانصياع لأمر الله تعالى بعد معصيته الأولى.

يقول البعض: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس. ويقول آخرون: عندما تعطيك الظروف سببًا واحدًا لتيأس وتتوقف، أعطها ألف سبب للاستمرار. ولنتذكر جميعًا أن اليأس كان بداية طريق اللاعودة الذي انطلق فيه إبليس، فمعاذ الله أن نكون من اليائسين.

الهوامش:

  1. (صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء)
  2. (آل عمران 76)
  3. (العنْكبوت: 65)
  4. مرزا غلام أحمد القادياني، «إعجاز المسيح»، الطبعة الحديثة، ص 51، الشركة الإسلامية المحدودة، لندن، 2011.
  5. (إِنْجِيلُ مَتَّى 5 : 44)
  6. (الزمر: 54)
  7. (الزمر: 54)
  8. (النساء: 29)
  9. الرازي، مختار الصحاح، مادة «ب ل س»
  10. (البقرة: 223)
  11. (صحيح البخاري, كتاب الأدب)
  12. (سنن الترمذي, كتاب الدعوات عن رسول الله)
  13. الزمر 54
  14. (يوسف: 88)
Share via
تابعونا على الفايس بوك