مفهوم الجهاد بين الإِسلام الحقيقي وفهم المسلمين المتأَخرِين

مفهوم الجهاد بين الإِسلام الحقيقي وفهم المسلمين المتأَخرِين

أظهر حنيف

أظهر حنيف

  • المعنى اللغوي للجهاد في العربية 
  • نظرة المتطرف إلى العالم  
  • ما دوافعهم إلى الجهاد القتالي؟! 
  • القرآن الكريم بريء من جهادهم المشوَّه 
  • دور المستشرقين المسيحيين في نشر الصورة الزائفة للجهاد الإسلامي الحقيقي 
  • سر من أسرار انتشار التطرف الديني 
  • اعتماد مروجي المعنى الخاطئ للجهاد على نسج قصص ووعود زائفة  
  • جهادنا الحقيقي في هذا العصر 
  • عواقب وخيمة وأرقام سوداء جراء تجاهل النُّذُر  
  • حقيقة الجهاديين المخادعين 
  • حرمة دم الإنسان في الإسلام 
  • الدوافع المشروعة وراء الجهاد القتالي زمن الإسلام الأول  
  • سلاح الدعاء في الدعوة إلى الله 
  • الطريق إلى السلام 
  • الشباب وقود كلا الجهادَين 

__

لا شك أن الحديث حول الجهاد أمر شائك لدى جميع الأطراف على الساحة منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى وقتنا هذا، وذلك نظرا إلى اختلاف مفهومه لدى الداعين إليه من ناحية، والارتياب الشديد حتى من مجرد ترديده لدى أطراف أخرى. لقد بات سوء الفهم متفشيا لدى أغلب الأطراف عن مفهوم الجهاد الصحيح، ما دعانا إلى محاولة إزالة سوء الفهم ذاك هنا.

المعنى اللغوي للجهاد في العربية

الجهاد في اللغة مشتق من المادة اللغوية «ج هـ د»، وتتضمن هذه المادة في أقرب معانيها تكبد المشقة وبذل الجهد، وبمرور الزمن تطبعت الكلمة بمعنى الحرب والقتال، لما فيه من مشقة كبيرة وجهد مُضنٍ. ولهذا يظن الكثيرون أن الجهاد في حد ذاته هو الحرب المقدسة في سبيل الدين. وهذا هو المفهوم الشائع في أذهان الجماهير العريضة ولا سيما هنا في بريطانيا، خاصة بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة. وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان الرعب آنذاك يتملك سكان بريطانيا جراء الغارات التي كان يشنها القراصنة المسلمون انطلاقا من سواحل شمال غرب أفريقيا حيث كانوا يهاجمون السفن التجارية والأراضي التابعة للمملكة، وكان هؤلاء القراصنة يقومون بخطف السكان بغرض بيعهم كعبيد في أراضي بلادهم. ويقدر ما تم الاستيلاء عليه بأكثر من 450 سفينة بريطانية، وأكثر من مليون إنسان وقع في الأسر في هذه الفترة، ولا سيما الفتيات الصغيرات اللاتي اعتُبرن غنيمة ثمينة، وهن ما عبر عنهن بـ «الذهب الأبيض» كمصطلح شائع في تجارة الرقيق. وخلافا للاستعباد الذي مارسه الأوربيون في القارة الأفريقية، بقيت الحملات التي شنها المسلمون غائبة في طي التاريخ، والسبب غير متضح تمام الوضوح، غير أننا نميل إلى التخمين بأن السبب هو الخشية من استحضار الشعوب الإسلامية ذلك النموذج مجددا على ساحة المواجهة..وعندما بدأت هذه الغارات في استهداف السفن الأمريكية، سارع السفير الأمريكي لدى بريطانيا «جون آدمز»، والذي أصبح الرئيس الأمريكي فيما بعد، وبرفقته السياسي «توماس جفرسون» والذي تولى الرئاسة خلفًا لجون آدامز، إلى عقد اجتماع مع السفراء العرب التونسيين في الثامن والعشرين من 28 مارس / آذار عام 1786م لمناقشة الأزمة، وكان مما كتبه توماس جفرسون فيما بعد عن المحادثات الدائرة خلال الاجتماع:

«قمنا بجهود ذاتية لنستفسر عن الأسباب التي قادت بهم لاتخاذ سبل العداء ضد أمة لم تناصبهم العداء، وأبدينا موقفنا المُتلخص في اعتبار الناس جميعا أصدقاء لنا ما لم يخطئوا بحقنا ولم يعتدوا علينا» (1)..

وكما يتعذر على الكثير من الدبلوماسيين اليوم فهم سبب الهجمات الإرهابية الحاصلة، كذلك تعذر على السيد جفرسون فهم السبب آنذاك، فسأل سفراء العرب عن ذلك، وسجل إجاباتهم كما يلي:

«أجابنا السفير بأن فعلهم قائم على شريعة نبيهم الذي ذكر في كتابهم أن جميع الأمم التي لا تعترف بسلطتهم هي أمم آثمة، ومن حقهم بل وواجبهم شن الحروب على تلك الأمم أينما وجدوهم وأن كل من وقعوا أسرى في قبضتهم يكونون عبيدا، والمسلم الذي يقتل في المعركة يدخل الجنة.»

نظرة المتطرف إلى العالم

ما ذكرناه هو جوهر ومنطق الإيديولوجية الجهادية الذي يولد الإرهاب اليوم. فمن وجهة نظر المتطرف ينقسم العالم إلى معسكرين: الأول دار الكفر والثاني دار الإسلام.ويفترض المتطرفون أن من واجب المسلم شن الحروب ضد الكفار، ومن يختلف معهم في الدين، ويحق لهم قتلهم وأسرهم أينما وجدوهم. والنتيجة أن الدول غير الإسلامية تظل واقعة تحت خطر الهجمات الإرهابية المباغتة باسم الإسلام. ولم يعد هناك مكان آمن حتى أن المساجد ودور العبادة بات الخطر محدقا بها ايضا، بما في ذلك المسجد الحرام في مكة حيث أحبطت القوات السعودية محاولة تفجيره في يونيو / حزيران من عام 2017م. فلم يعد أحد بأمن من الهجمات، وتفجيرات حفل «مانشستر» الأخيرة تشهد بذلك.

ما دوافعهم إلى الجهاد القتالي؟!

يتردد هذا السؤال كثيرا في البلاد الغير الإسلامية على إثْر وقوع أي حادث إرهابي كتفجير أو إطلاق نار أو عمليات خطف أو إعدام بصورة وحشية كقطع الرؤوس، المنظر الذي شوهد مرارا على شاشات التلفاز في الآونة الأخيرة. ووراء ترديد السؤال المذكور حاجة ملحة إلى معرفة سر تعطش هؤلاء المتطرفين للدماء إلى هذه الدرجة!

والواقع أن أبرز من أجاب على هذا التساؤل كان المسيح الموعود ، إذ قدم بين ثنايا العديد من كتاباته إجابة وافية على السؤال آنف الذكر، نطلع عليها من خلال مقتبس من كلامه، نلخصها في أن هؤلاء المتطرفين المتشدقين بالجهاد يتغذون منذ طفولتهم على الأساطير والقصص الخاطئة المتعلقة بالمفهوم الخاطئ للجهاد، والتي يتم في كل مناسبة تجسيدها أمام أنظارهم وإلقاؤها على مسامعهم وغرسها في قلوبهم. نتيجة لذلك، يصيرون «موتى أخلاقيا» بحيث يعجزون حتى عن مجرد إدراك شناعة هذه الأعمال البغيضة. مما يعني أن الفهم المعاصر للجهاد هو فهم خاطئ بكل المقاييس، ومصدر هذا الفهم الخاطئ ليس القرآن الكريم بتاتا، ولا سنة الرسول كذلك، إنما منشأ فكرة الجهاد القتالي هو مزاعم المتأخرين من رجال الدين الضالين المضلين الذين غرسوا هذه الأفكار في عامة المسلمين وحرضوهم عليها، مستغلين حالة الشعور العام من الإحباط والعجز والرغبة العارمة في الثأر والانتقام.

.الفهم المعاصر للجهاد هو فهم خاطئ بكل المقاييس، ومصدر هذا الفهم الخاطئ ليس القرآن الكريم بتاتا، ولا سنة الرسول كذلك، إنما منشأ فكرة الجهاد القتالي هو مزاعم المتأخرين من رجال الدين الضالين المضلين الذين غرسوا هذه الأفكار في عامة المسلمين وحرضوهم عليها، مستغلين حالة الشعور العام من الإحباط والعجز والرغبة العارمة في الثأر والانتقام.

القرآن الكريم بريء من جهادهم

يتضح لنا جليا أن الإسلام الحقيقي، ممثلا في القرآن الكريم والتطبيق النبوي له، لا يشكل أي مصدر للإرهاب. فالقرآن الكريم يعلن مرارا وتكرارا:

وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (2).

والإسلام يرفض العدوان بشكل عام، ولا يسمح بالقتال إلا في حال الدفاع عن النفس وفي سبيل نشر حرية العبادة، يقول تعالى:

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (3).

بل والأكثر من ذلك أن القرآن الكريم نفسه يدعو إلى العفو عن المعتدي إذا ما كان ذلك العفو ذريعة لإصلاحهن يقول تعالى:

وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (4)،

فليدلنا منتقدو الإسلام على أي إشارة في كتابنا الأقدس (القرآن الكريم) إلى استباحة دماء الأبرياء أو الاعتداء بكافة صوره!

دور المستشرقين المسيحيين في نشر الصورة الزائفة

الضلالات والفتاوي الفاسدة التي أشاعها مشايخ ذلك الزمن لم تكن السبب الوحيد وراء انتشار المفهوم الخاطئ للجهاد. بل إن المستشرقين المسيحيين، ولا سيما من كانوا منهم رجال دين، لعبوا دورا أساسيا في ترويج ذلك المفهوم الخاطئ بين المسلمين، فسعوا لإيهام العوام بوجود تناقض حاد بين تعاليم المسيحية والإسلام، مصورين النبي كنبي كاذب، والعياذ بالله، سعى لنشر دينه بالسيف، على خلاف يسوع الذي نشر الحب والوئام بين البشر. فأقحموا في الدين الإسلامي أمورا ليست منه وسعوا لتعزيزها بقوة.. وقد أشار المسيح الموعود إلى حقيقة ذلك الدور المشبوه، فقال:

«صحيح أن المشايخ أخذوا نصيبا من هذا الظلم، لكن القساوسـة يقلُّون عنهم في هذا المجال، حيث رسخوا في أذهان عامة الناس كـلام المشايخ قليلي الفهم، بتوجيه اعتراضات من هذا القبيل إلى الإسلام. فزعم عامة الناس إنه ما دام مشايخنا يفتون بالجهاد، وكذلك القساوسة، وهم أصحاب العلم، يثيرون الاعتراضات نفسها؛ فيثبت من ذلك أن الجهاد مسموح به في ديننا. ما أعظمه من ظلم اُرتُكب إذ أُلصق هذا الاعتراض بالإسلام بشهادتين! لو لم يسلك القساوسة هذا المسلك وقالوا بأمانـة التزاما بالحق والصدق بأن هؤلاء المشايخ يفتون هذه الفتـوى جهـلا وغباوة منهم وإلا فإن الظروف التي أدت إلى هذه الضرورة في صـدر الإسلام لم تعد موجودة في الزمن الراهن، لكان من المأمول أن تختفـي فكرة الجهاد المذكورة من الدنيا نهائيا. ولكن لما كان الإفراط في الحماس والتفريط في الفهم لم يفهموا الحقيقة» (5)

انتشار التطرف الديني

وعلى الجانب الآخر نجد من بين مفكري الغرب الكثير من المنصفين الموضوعيين، كـ «سكوت أتران» المختص في الأنثروبولوجيا

(علم الإنسان) والذي نشر عام 2008 مذكرة أعدتها وحدة العلوم السلوكية في قسم المخابرات العسكرية البريطانية، والمعروفة بـ MI5، ولتي تم نشر محتواها لاحقا ضمن كتاب للمؤلف نفسه بعنوان «التحدث على العدو» ذكر فيها:

“What inspires the most lethal terrorists in the world today is not so much the Qur’an or religious teachings as a thrilling cause and call to action that promises glory and esteem in the eyes of friends. Jihad is an egalitarian, equal-opportunity employer: fraternal, fast-breaking, glorious and cool…Western volunteers for

 ISIS are mostly youth in transit



«إن ما يحمس الإرهابيين الأكثر دموية في العالم اليوم ليس القرآن أو التعاليم الدينية التي لا توجد فيها تعاليم تدعو للقتل لقاء المجد والشهرة. بل نجد أن الجهاد الحقيقي قائم على المساواة والتكافؤ وتعزيز المؤاخاة والمبادرة برفع الظلم وهذا شيء رائع في حد ذاته.وعلى العكس من ذلك، نجد أن المتطوعين لداعش أغلبهم من الشباب المفتقرين في غالبيتهم إلى المعرفة الدينية والذين يبحث كل منهم عن طريق ليتخلص من ذنوبه، محاولين إقناع أنفسهم بأنهم يضحون في سبيل الدين بانخراطهم في حركة تاريخية لإعادة الخلافة» (6)
ional stages in their lives. For the most part, they have no traditional religious education and are ‘born again’ to religion…They be-lieve that they are part of a great historical movement that has reestablished the Is-lamic Caliphate”.

وفي مذكرته نفسها استطرد قائلا:

«بعيدا عن كونهم متعصبين، نجد العديد منهم لا يمارسون الشعائر الدينية بانتظام، والكثيرين مفتقرين إلى أية ثقافة دينية، حتى يمكن عدهم من قليلي الفهم في الدين» (7)

هذا ولم يكن «سكوت أتران» وحده من توصل إلى هذه الفكرة، فقد توصل محللون آخرون إلى أن الراسخ في علوم الدين يمتلك أفضل حماية ضد التطرف.

قصص ووعود زائفة

من اليسير جدا على حائكي المؤامرات والدسائس أن يقودوا من ليس لديهم معرفة بالدين إلى الالتحاق بالمنظمات الإرهابية، فخلال الحرب الروسية الأفغانية عام 1980 قام المدعو عبد الله عزام بتجنيد حشود من الناس فيما سمي بـ «تنظيم المجاهدين» عن طريق نسجه روايات خيالية من قبيل تغلبه بمفرده على جحافل من جيوش السوفييت، ونجاته من إطلاق الرصاص المتطاير ومن الدهس تحت الدبابات، وفي كتاب له بعنوان: «آيات الرحمن في جهاد الأفغان» يبالغ المذكور في خيالاته قائلا أن الطيور انقضت معترضة القذائف مُشكِّلة مظلة واقية لتحمي المجاهدين، بل إن الملائكة شوهدت على صهوات الجياد وهي تقاتل معه. وللأسف وقع البله الجهلة في فخ تصديق هذه القصص الخيالية، فانخرطوا في هذه المنظمات مندفعين بصيحة «الله أكبر» ظانين أنهم ينصرون الدين. وأعظم إغراء يقدم إلى هؤلاء المغترين أن موتهم في هذه الحروب المقدسة سيدخلهم الى الجنة من دون حساب ليستمتعوا مباشرة بالملذات والخمور وحور العين. وبهذا يختزلون هدف الدين الحنيف في نيل بعض المتع الحسية والجسدية. وتبقى هذه الضلالات والخيالات ما يجذب الشباب الغافلين إلى الانضمام إلى معسكراتهم.

جهادنا الحقيقي في هذا العصر

الصورة الراهنة والخاطئة سالفة الذكر للجهاد، تضطرنا إلى السعي لإظهار النمط الصائب للجهاد في الإسلام، على الأقل من باب شهادة الحق إزاء شهادة الزور التي يروجها الضالون والمضلون، فالسكوت عن إظهار المفهوم الصحيح للجهاد في الإسلام هو بمثابة كتم للشهادة، وهو ما نهينا عنه بشدة

وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (8)،

فعلينا أن نقوم بجهادٍ آخر حيال معارضي الإسلام لتثقيف المسلمين ولصدهم عن التطرف، وجهادنا هو «جهاد القلم» الذي قال عنه المسيح الموعود أنه جهاد العصر. فالقلم أقوى من السيف، ومهمتنا هي فتح قلوب العباد، لا الأراضي والبلاد. وخلال حياته، أنشأ المسيح الموعود ترسانة ضخمة من الكتب التي تعمل عمل السيوف في العقول بحدتها ضد الحملات المشنونة ضد الإسلام. وكل ما يتوجب علينا فعله هو أن نثقف أنفسنا بهذه المعارف لكي نربح هذه الحرب الفكرية بنجاح.

عواقب وخيمة وأرقام سوداء جراء تجاهل النُّذُر

إن ما يفشل المتطرفون دوما في إدراكه أن أكثر من تضرر من جهادهم هو العالم الإسلامي نفسه. نشرت جمعية «أطباء للمسؤولية الاجتماعية» في آذار\مارس 2015 أنه خلال العقد التالي لهجوم الحادي عشر من سبتمبر على مركز التجارة العالمي في أمريكا شُنَّت حروب حصدت ما يزيد على مليون شخص في العراق، و220 ألفا في أفغانستان و80 ألفا في باكستان. ما يعكس شيئا من العواقب الوخيمة لهذا الفكر الدموي على المسلمين أنفسهم.فقبل بضعة عقود، لم يكن يسمع بالتفجيرات الانتحارية في عالمنا الإسلامي. ففي الثمانينيات لا يكاد يُذكَر سوى تفجير واحد. أما اليوم فقد أصبح الأمر كالخبر العادي. وليس هذا نتيجة عداء غير المسلمين للمسلمين، بل المسلمون أنفسهم من يقتلون أنفسهم خلافا للحكم الصريح:

وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (9).

فما يحدث الآن من مرارات يتجرعها المسلمون هو بعض النار التي يصلونها نتيجة انحرافهم عن تعليم كتابهم ونبيهم الخاتم ( ).وقد قدم معهد دراسات الأمن القومي الأمريكي بيانا ذكر فيه أن عام 2016 كان الأكثر دموية نتيجة التفجيرات الانتحارية. حيث رصد 469 تفجيرا في 28 بلدا، نتج عنها 5,650 شهيد و9,480 جريح. وذكر أن 77 من الانتحاريين كانوا من النساء! وفي بعض الحالات كان النساء يحملن أطفالهن أثناء التفجير. السنة الماضية في كاليفورنيا، قام زوجان بترك طفلهما بالمنزل ثم قاما بعملية إرهابية قتلا فيها 22 شخص. استغرب العالم من اقتراف أبوين جريمة كهذه! مع أن الإسلام في الواقع يسعى لإيواء النساء حتى في خضم الحروب وبشاعتها. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت:

«يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ قَالَ لَا لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» (10)

الجهاديون المخادعون

من أكثر مظاهر الخداع في هذه الحرب من يعلنه هؤلاء الجهاديون الكذبة من إدانة لدول الغرب بهتافات ونداءات جوفاء في العلن، بينما هم في السر يعتمدون على الوسائل التي يتيحها الغرب لتنفيذ عدوانهم، والحق أن هذا الأمر تفطن إليه حضرة الخليفة الرابع (رحمه الله تعالى)، في كتابه «كارثةالخليج والنظام العالمي الجديد» إذ ذكر فيه ما مفاده أن هناك دولا إسلامية تعتمد في تسلحها على الدول التي تعلن الجهاد ضدها، بحيث إن المسلمين يصفون البلدان الشرق والغرب بأنها دار الحرب وبلاد المشركين الطغاة أعداء الله، ثم من جانب آخر يمدون اليدي إليهم متسولين للصواريخ والطائرات المقاتلة والسفن الحربية وغير ذلك من مظاهر التسليح.وطالما ظل المسلمون يتقاتلون فيما بينهم، شيعي ضد سني، وهذا البلد ضد ذاك، سيبقون ضعفاء إزاء غيرهم، ويخدمون بهذا سياسة «فَرِّق تسُد» التي تفرضها القوى الغربية. وبسبب هذه الصراعات المتواصلة يغيب المسلمون عن جهادهم الحقيقي الذي يجعل منهم قوة أخلاقية موحدة لإشاعة الخير في العالم عملا بقول الله عز وجل:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (11)..

ومرت حقبة على المسلمين كانوا مثار إعجاب العالم بسبب صدقهم وتقواهم ونزاهتهم، ونظرا إلى الأمن والسلامة التي وفروها في بلادهم لغير المسلمين حيث كانوا يلجؤون إلى بلادنا لينعموا بالحرية والسلام. فلماذا يغيب هذا التصور والانطباع عنا الآن؟! لا شك أن السبب بات مفهوما.

فالقلم أقوى من السيف، ومهمتنا هي فتح قلوب العباد، لا الأراضي والبلاد. وخلال حياته، أنشأ المسيح الموعود ترسانة ضخمة من الكتب التي تعمل عمل السيوف في العقول بحدتها ضد الحملات المشنونة ضد الإسلام. وكل ما يتوجب علينا فعله هو أن نثقف أنفسنا بهذه المعارف لكي نربح هذه الحرب الفكرية بنجاح.

حرمة دم الإنسان في الإسلام

اختصارا لما سبق، نجزم بأن الفكر الدموي الذي يتبناه الإرهابيون لا يمت بصلة لدين سيدنا محمد ، فمن خلال السيرة النبوية الشريفة نتبين أنه أول من أدان هذا الفكر الدموي الذي يطال دماء الناس وأعراضهم. وقد ورد عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أنه قَالَ:

«أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَغَزَوْتُ مَعَهُ فَأَصَبْتُ ظَهْرًا فَقَتَلَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَان.َ وَقَالَ مَرَّةً الذُّرِّيَّةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَهُمْ الْقَتْلُ الْيَوْمَ حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: أَلَا إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِين.َ ثُمَّ قَالَ: أَلَا لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، أَلَا لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً. قَالَ: كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا وَيُنَصِّرَانِهَا» (12)،

فيا له من بيان قوي أعلنه رسول الله ! فكل حياة لها قدسية، وكل طفل هو هدية وثروة ثمينة مهما كان دينه وآباؤه. ولذلك نحزن ونتأسف عندما يموت الأطفال في هذه الحروب الكريهة. فهؤلاء المجرمون يستهدفون الأطفال كما حصل في تفجير مانشستر حيث فجروا حفل موسيقي للصغار، وخطفوا أكثر من 200 فتاة صغيرة في نيجيريا، وذبحوا 132 طفلا في مدارس بيشاور، وضحايا أطفال سوريا لا تعد ولا تحصى. فقد راح عشرات الآلاف من الأطفال الأبرياء ضحايا هذا الإرهاب الغاشم. يقول الله تعالى في القرآن الكريم حيال حرمة الدماء:

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (13)

.. يفترض المتطرفون أن لهم الحق في سلب حياة غير المسلمين، صغارا كانوا أم كبارا. ولكن هذا ليس ما يعلِّمه الإسلام. عندما كان رسول الله يرسل بعثة للجهاد كان يقول لهم:

«انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (14)،

فهيهات بين تعاليم رسول الله وأفعال أولئك المتطرفين، فبينهما بعد المشرقين. لقد وسعت رحمة رسول الله كل ذي نفس من الدواب، ناهيك عن الناس، وكان يكره الحروب، فلم يخضها إلا مكرَها وسعى لإقامة السلم بكل الطرق المتاحة له لينهي الحروب ويقلل المعاناة الحاصلة من الحرب التي تطال المساكين ويذهب فيها الضحايا. فهذه الأخلاق منعدمة تماما لدى مقاتلي داعش والقاعدة الذين فشلوا بامتياز في اتباع أخلاق نبينا محمد ، ولذلك من غير اللائق نسبة أفعالهم للإسلام بحال من الأحوال.

الدوافع المشروعة وراء الجهاد القتالي زمن الإسلام الأول

عند تحليل أحوال المسلمين في صدر الإسلام ندرك سبب اضطرار المسلمين الأوائل إلى القتال كصورة من صور الجهاد المتعددة. وأول الآيات التي سمحت بالجهاد القتالي تقول:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (15)،

وفي هذه الآيات الكريمة لا نرى ما يسوقه المتطرفون اليوم من دواعش وغيرهم بقتال كل من لم يدن بدين بالإسلام، ولا نجد سماحا بالقتل والترويع وزرع المتفجرات وسبي النساء والأطفال. كما لم يسمح بإخراجهم من الأرض التي يعيشون فيها وتحويلهم إلى لاجئين ولم يقل بمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية وتدنيس وتفجير معابدهم كما حدث بسوريا والعراق وباكستان، بل أعطي الإذن بالقتال لثلاثة أسباب: إما دفاعا عن النفس أو حماية لحق الغير في حرية العبادة واختيار الدين، أو معاقبة للطغاة والمجرمين. وهذه الأسباب الثلاثة فقط هي الأسباب التي سُمح بموجبها حسب القرآن الكريم وسيرة النبي الشريفة بالقتال، وكان القتال بدافع تلك الأسباب جهادا أيضا.

سلاح الدعاء في الدعوة إلى الله

عندما أتى جيش قريش بنية إبادة المسلمين، دخل رسول الله خيمته ودعا ربه عز وجل:

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ» (16)،

فطوال حياة النبي كلها لم يدع أبدا إلى أي نوع من الغزوات ضد الكفار لإجبارهم على دخول الإسلام. بل كان يدعو بحرقة وألم ليلا ونهارا للبشرية جمعاء حتى قال الله تعالى له:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (17)،

فهذا كان جهاد النبي بالدعاء ولم يأت إنسان قبل أو بعد النبي دعا للبشرية مثلما دعا حضرته . ولو اجتمع المسلمون اليوم كلهم للدعاء بنفس روح وأسلوب النبي لتحول عالمنا إلى جنة للسلام والازدهار.الجهاد الآخر الذي قام به رسول الله ، والذي نحن بصدده، كان دعوة الناس إلى خالقهم، وقد وظف كل طاقاته وقام بجهد حثيث بالرغم من المعارضة الصارمة التي كان يتلقاها، لكنها كلها لم تؤثر قط على جهوده في الدعوة إلى الله. حتى أن القرآن الكريم سمى مساعي الدعوة الفكرية تلك بالجهاد الأكبر، يقول الله تعالى:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (18)

وسلاح المؤمنين في هذه المعركة ليس ماديا، بل هو القرآن الكريم نفسه الذي يشتمل على حقائق قادرة على النفاذ إلى القلب بما هو أقوى من السيف، وحجج صارمة توفر حماية أكثر من الدروع الصلبة. وقد عمل الرسول وصحابته على نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والحجج الصادقة لهداية الناس. أما الظروف القاهرة قد أرغمت المسلمين على حمل السيف للدفاع عن أنفسهم، وإلا لقضى الرسول والمسلمون طوال 23 سنة، والتي هي مدة دعوته ، بالجهاد القرآني والدعوة إلى عبادة الله تعالى والحب والصلاح. ولذلك عندما عاد رسول الله من إحدى غزواته قال:«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه» (19)، ولذلك يتوجب على المسلم أن يقوم بمجاهدة نفسه ليطهرها من الخبائث والشهوات ويرغمها على السعي على الطريق القويم.

الطريق إلى السلام

فهذه رسالتنا إلى العالم الإسلامي اليوم وللعالم أجمع في هذه الأوقات العصيبة. يجب أن تنتهي النزاعات القائمة على الاختلاف الديني والقائمة على إكراه الناس لتغيير دينها. قد وعد الله بمساعدتنا إذا تعاونا على مكافحة شرور أنفسنا في سبل ترسيخ دعائم السلام والعدل في العالم. يقول الله تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (20)

فالسعي من أجل السلام هو الجهاد الحقيقي لنا وهذا المجال مفتوح أمام الجميع للانضمام إليه.

الشباب وقود كلا الجهادَينكما شكَّل الشباب المسلمون بجهلهم في الماضي وقودا شديد الاشتعال لأضاليل الشيوخ ودعاويهم إلى الجهاد القتالي الذي لا أصل له في ديننا الحنيف، فإن الشباب المثقف الآن تقع على عاتقه مهمة توفير الوقود الحيوي النظيف لتلك الحرب المقدسة، فهم الأنسب لهذا، حيث لم تعد المطبوعات كافية، بل اتسعت جبهة الحرب الفكرية لتشمل مقاطع الفيديو وشاشات التلفاز والسينما ووسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت الأخرى.

الهوامش:
2 – (البقرة 61)
3 – (البقرة 191)
4 – (الشورى: 40-41)
5 – حضرة مرزا غلام أحمد القادياني (عليه الصلاة والسلام) – الترجمة العربية لمقال بعنوان «كيف يمكن التخلص من الإثم؟!»6 – سكوت أتران – التحدث إلى العدو

7. نفس المرجع السابق

8- (البقرة: 284)

9 – (النساء: 30-31)

10 – (صحيح البخاري، كتاب الحج)

11 – (آل عمران: 111)

12 – (مسند أحمد، كتاب مسند المكيين)

13 – (الأنعام 152)

14 – سنن أبي داوود كتاب دعاء المشركين 2614

15 – الحج 40 -41

16 – (صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير)

17 – (الكهف 6)

18 – (الفرقان 52)

19 – ابن عابدين – رد المحتار على الدر المختار

20 – (العنكبوت 70).

Share via
تابعونا على الفايس بوك