أَكرهك لأَني لا أَعرِفك!
  • سوء الظن وسوء الفهم أساس تعكير صفو المجتمعات. 
  • كيف تم إدراج سوء الظن على قائمة الآفات؟ ومتى؟ 
  • بم يتصف الحوار بين أغلب المتدينين والملحدين في هذه الآونة؟ 
  • ماذا نستشف من عبارة “التطرف لا دين له”؟ 

__

سوء الظن وسوء الفهم، يُعدان البيئة الأم التي تنشأ فيها الخصومات والنزاعات والاتهامات الباطلة والمظالم، بل ومعظم ما من شأنه تعكير صفو المجتمعات. ولا يبرح هذان السوآن، أحدهما أو كلاهما حتى يضرما النار فيما حولهما من العلاقات الإنسانية، مهما كانت وطيدة، فهاتان الآفتان من المواد القابلة للاشتعال من تلقائها، أولم يكن سوء ظن إبليس هو ما تسبب في رجمه وإبعاده؟! كذلك أليس سوء الظن بالأنبياء ومقدَّسي كافة الأديان وجماعاتهم هو سبب البغضاء والشحناء التي يكنها المتدينون تجاه متدينين آخرين يتبعون دينا مغايرا؟! إننا لن نتجاوز إذا جزمنا بأن سوء الظن هو بعض الطبيعة النارية. كذلك لو حاولنا فهم وتقصِّي السبب الأول للحروب والنزاعات السياسية والعسكرية على مدى الستة آلاف سنة الأخيرة، والتي هي عمر الحضارة الإنسانية، لوجدنا أن سوء ظن أحد الطرفين المتشاكسين أو كليهما بالآخر كان الشرارة الأولى التي تندلع منها نيران كل حرب تنكوي بلظاها الإنسانية طوال تاريخها. وعالم اليوم ما زال في صراعه مع هذا المرض المزمن، على الرغم من نداءات الحكماء ونصح الناصحين. أما آن لنا الآن أن نلتمس دواءً شافيا من هذا المرض الفتاك؟! بلى، وكما عودنا القرآن، فصيدليته لا تعدم دواء لكل داء، وهو في مداواته يركز عدسة مجهره أولا على كشف وتشخيص المشكلة، ثم وصف العلاج، فكانت أزمة الثقة التي يعانيها العالم هي سوء الظن الذي قال عنه القرآن:

اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات: 13)،

فكان الإعلان عن قبح سوء الظن بمنزلة وضع هذا المصطلح على قائمة المطلوبين للعدالة، في الوقت الذي بات سوء الظن فيه عملة عالمية رائجة.

لقد أصبحنا في حاجة ماسة إلى الشفاء والخلاص من هذه السوسة التي تنخر في عظام هيكل إنسانيتنا، والحاجة الملحة إلى شيء ما تضطرنا عقليا إلى الإيمان بوجوده، ومن هذا المنطلق نعرف أن ما من داء إلا وأوجد الخالق عز وجل دواء له. وسوء الفهم والظن ليسا بأقل خطورة من وباء يفتك بالقوى الروحانية الخيِّرة للأفراد والمجتمعات والدول والشعوب. أفلا يضطرنا هذا على الأقل إلى افتراض وجود دواء فعَّال لهذا الداء العضال؟! بلى، فثمة دواء مجرب ثبتت فاعليته مرارا، وإن لم تعلن عنه المؤسسات العالمية المعاصرة، إنه دواء لا تتوقف فاعليته على علاج أعراض مرضي سوء الفهم والظن، بل يستأصل خلاياهما السرطانية من جذورها، ويُحِل محلها خلايا جديدة صحيحة.. ترى، ما كنه ذلك الدواء المبارك المباح والمتاح مجانا منذ أكثر من 14 قرنا؟! إنه عين وصفة الشفاء الإلهية القائلة:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 14).

إن عالم اليوم أحوج ما يكون إلى تطبيق هذه الوصفة الدوائية، ولو مُكرَهًا، وليُشر الساسة والمحللون السياسيون والاقتصاديون والخبراء العسكريون والبرلمانيون وأشياعهم إلى أية مشكلة ذات صبغة سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية، فسيتوصلون إلى أن منشأها إما سوء الفهم أو سوء الظن، وحل تلك المشكلة كامن في تلك الوصفة القرآنية المركزة والموجزة آنفة الذكر، ذلك الحل هو تصحيح الفهم، ثم إحسان الظن، ولن يتأتى تصحيح الفهم إلا بتعارف الخصمين وتقاربهما في وجهات النظر، كذلك لن يتأتى إحسان الظن إلا بنمو بذرة التقوى في قلبيهما.

أوليس إذن من قبيل الظلم أن نقصر التهمة بالتطرف على الإسلام وحده، متناسين أنه صاحب الفضل في مد أوروبا بسائر علوم عصر النهضة؟!

إن أكثر ما أسيء الظن فيه اليوم هو الخالق (عز وجل) ورسالته إلى الخلائق، فبسوء الظن هذا قال الملحدون بعدم وجود الخالق، وبسوء ظن كثير ممن يدعون أنفسهم مؤمنين نصبوا أنفسهم أوصياء على إيمان العوام، هذا كله ناهيك عن سوء الظن المتبادل سلفا بين معسكر الملحدين ومعسكر المتدينين، وإن إلقاء نظرة خاطفة على أحد الحوارات العامة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي بين متدينين وملحدين سيدرك الناظر منها أنه أمام حوار للطرشان، ولسان حال المحاور الملحد يقول: أَكْرَهُكَ لِأَنِّي لا أَعْرِفُكَ! وَلسان حال المتطرف المتدين يقول: لا أَعْرِفُكَ لِأَنِّي أَكْرَهُكَ! فبئسا لآفة سوء الظن! فبها يساء الظن في العسل النقي فقيل بأنه سم زعاف، وهوجم الإسلام الحقيقي بدعوى أنه دين تطرف، عجبا! لا شك أن ممن ينسبون أنفسهم إلى الإسلام يمارسون أعمالا متطرفة مخجلة، ولكن أمثال هؤلاء قد ابتُليت بهم شتى الأديان، بل وحتى جانب الملحدين من لا يؤمنون بدين أصلا، أوليس إذن من قبيل الظلم أن نقصر التهمة بالتطرف على الإسلام وحده، متناسين أنه صاحب الفضل في مد أوروبا بسائر علوم عصر النهضة؟! فإلى أي مدى نتفق الآن مع العبارة التي باتت متداولة، والقائلة: «التطرف لا دين له»؟! وماذا نستشف من هذه العبارة أصلا؟! أنفهم منها أن المتطرف لا يمكن أن يكون متدينا بحال؟! أم أن التطرف آفة تصيب كل دين بلا استثناء؟! إن هذا الموضوع ومواضيع أخرى ذات صلة يتألف منها عدد هذا الشهر من مجلة التقوى، فبطرح متوازن نعرض مادة مقالية ثرية بالمعلومات التاريخية يُدرك قارؤنا من خلالها أن التطرف سوسة تنخر في أساس أي دين، وليس مقصورا على دين بعينه، فكما أن الواقع شهد تطرفا باسم الإسلام، فإن التاريخ والواقع شهدا كذلك تطرفا باسم المسيحية، ناهيك عن تطرف مورس باسم أديان أخرى.

ندعو الله تعالى أن يجنبنا آفة سوء الظن، وأن يجنبنا التطرف ذات اليمين وذات الشمال، فيجعلنا أهلا لأن نكون أمة وسطا يجتمع فيها خير الناس، ونسأله تعالى أن تؤتي كل كلمة من كلمات التقوى ثمارها المرجوة، اللهم آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك