كمالات الله سبحانه وتعالى وسنة الابقاء على نماذج الصلحاء

كمالات الله سبحانه وتعالى وسنة الابقاء على نماذج الصلحاء

التحرير

  • أيُضيع الله تعالى دعاء الحسين سُدى؟!
  • وكيف لفاجعة استشهاد الحسين أن تكون دليلا على وجود الله تعالى؟
  • وبأي عين علينا أن نعيد النظر في كافة القضايا محل الخلاف؟

_________

نحن الآن في شهر محرَّم، وهو، بلا شك، شهر يحمل من البركات ما يحمل، سيَّما وأنه واحد من الأشهر الحُرُم التي حُرِّم فيها القتال بتشريع كوني غليظ، لقوله تعالى:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (1).

وقد عُدَّ فاجرًا من يريق في الشهر الحرام دمًا عمدًا بغير حق، والتصق في ذاكرة العرب اسم «حرب الفجار» بالحروب القبلية التي نشبت خلال تلك الأشهر الحُرُم. ولكن على الرغم من غلَظ التحريم الذي بلغ حد التجريم، إلا أنه قد لا يكون كافيًا لردع اللصوص والمجرمين الفجرة عن ارتكاب جرائمهم من سطو وقتل وغير ذلك من أبشع الجرائم! ولا تقاس بشاعة الجريمة بالنظر إلى أسلوب وشكل ارتكابها فقط، بل بمدى مخالفة التحذير الصادر ضدها والقانون المعلن عنه تخويفًا من ارتكابها أيضًا في إعلان عام ينفي شبهة الجهل بالجرم. ولنرجع سويًّا في التفاتة إلى الوراء خمسة عشر قرنًا، حين أصدر النبي الخاتم r بيانه التحذيري الصارم ووصيته الأشهر في التاريخ الإسلامي يوم حجة الوداع التي جاء فيها:

«فإنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا. فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لَا تَرْجِعــُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ»(2)..

ولئن كان القتل بشكل عام محرمًا، فتحريمه في الأشهر الحرم أولى وأشد، فماذا لو كان ضحيته نفس زكية؟! هذا بالضبط ما حدث مع سيدنا الإمام الحسين t، في العاشر من شهر الله المحرم، فيما بات يعرف تاريخيا بفاجعة كربلاء، ومع هذا، ينبغي علينا ألا نجعل من تلك الذكرى الأليمة مأتـمًا ومِهرجان لطميات سنويا، كما يشيع في رقعة واسعة من بلاد الإسلام، ترصيخًا لخلاف مذهبي قديم.

والأمور كلها، لا سيما المُعضلة منها، علينا أن نتأملها من منظور كمالات الله تعالى وما ينبغي له عز وجل. فمن تلك الكمالات أنه عز وجل حي سميع بصير قيوم، فهو حي يهب الحياة، وسميع دعوات عباده الصلحاء وتضرعاتهم، وبصير مطَّلع على خفايا الأمور وبواطنها، وقيوم أي متصرف في أدق الأمور وأعظمها في الآن نفسه بكل اقتدار! فلئن قضى الحسين نحبه استشهادا، فإنما ليُحيي الله تعالى ذكراه، أولم نسمع قوله عز وجل: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (3) ثم لا شك أن الحسين عشية استشهاده لم يكن مشغولًا بنفسه ولا بأهل بيته بقدر انشغاله بمصالح أمته ومواساتها، أو يُضيع الله تعالى دعاءه لمن خلفه سُدى؟! كلا والله، فإن لم يستجب ذلك السميع دعاء عبد صالح كالحسين، فلمن يستجيب إذن؟! كذلك إن الله بصير مطلع على مجريات الأحداث وتفاصيلها، وهو، جل في علاه، يعلم أن ملكًا ما قام على دماء الأطهار، فلا جرم أن نهايته تكون بسفك دماء أبنائه، ولله درُّك يا أمير الشعراء حين قلت:

جُزِيَت مَروانُ عَن آبائِها ما أَراقوا مِن دِماءٍ وَدُموع

وَمِنَ النَفسِ وَمِن أَهوائِها ما يُؤَدّيهِ عَنِ الأَصلِ وَالفُروع (4)

اليوم، وبعد مضي قرون مديدة على فاجعة كربلاء، لن يتأتى لنا، مهما فتشنا ونقبنا، أن نعثر على مسلم يظهر كرهًا أو يكن ضغينة لذريَّة النبي r وقرابته، دعك من مقدار ذلك الحب الذي قد يعبر عنه البعض بمغالاة تفسد العقيدة، فالجميع يقرون، ولو باللسان، بحب أهل البيت الكرام، والذين يقول فيهم ربهم:

إِنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِ وَیُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِیرࣰا (5)،

بينما على الجانب الآخر، فإن من تورطوا في دم الحسين، بسبب ميل سياسي وعرض دنيوي، نجد نسلهم الآن ينكرون عليهم ميلهم المقيت ذاك. فالواضح إذن أن الميول والحسابات الدنيوية والسياسية تموت، بينما تبقى سير الأطهار حية منيرة على مر الزمان.

لقد زادت جريمة قتل الحسين سيد الشهداء في نهاية المطاف فجوة الانقسام الطائفي والمذهبي بين المسلمين اتساعًا بكل أسف، ولكننا نحمد الله إذ بعث في هذه الحقبة المباركة بعد طول انقسام من يجمع الخراف القاصية من حظيرة الإسلام، كما بعث المسيح الناصري ليجمع خراف بيت إسرائيل الضالة من قبل، لتزول ببعث ذلك المبعوث والانضمام إلى جماعته كل مادة للضغينة تلقائيًا، وليكون في ذلك تجل لنبوءة:

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (6)..

هذا الأمر في ذاته يجعل واجبا على كل مسلم مبايعته u امتثالًا لوصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

«فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ»(7)،

وبالتالي إنهاء كل الانقسامات، والاتحاد تحت لواء إمام العصر. فنرجو من الله تعالى أن يمكّننا دائمًا من التعبير السديد عن حبنا لذرية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن الصلاة والسلام عليه.

قراء التقوى الأفاضل، في عدد شهر أغسطس/ آب 2022  تحل ذكرى عاشوراء، بأفراحها وأتراحها، مذكرة إيانا بأن ألاعيب الساسة والمنكبين على زخرف الدنيا كزبد البحر الذي لا يلبث أن يذهب جفاء، فالسياسة إلى زوال، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، ألا وهو تضحيات الأبطال.. وتتخذ أسرة التحرير من هذه المناسبة مدخلًا نعيد من خلاله النظر إلى الأمور كلها من منظور «كمالات الله تعالى»، وهو المحور الذي تدور حوله سائر مواد هذا العدد، والتي وإن غلب عليها طابع التنوع الموضوعي ما بين موضوعات عقائدية أصولية وأخرى علمية حديثة، إلا أنها تشترك في المضمون الذي هو كمالات الله تعالى وصفاته الحسنى. وعلى رأس مواد العدد تتلألأ كلمة حضرة خليفة الوقت التي ألقاها في القمة المنعقدة منتصف مايو عن وجود الله تعالى، فكان أن افتتح حضرته كلمته بفكرة استجابة الدعاء، كون هذه الاستجابة الربانية أبلغ دليل على وجود ذلك الإله الحي القيوم مجيب دعاء الداعين، وإلا فالميت لا يجيب دعاء ولا يسمع رجاء، كما اهتدت إلى هذا المعنى فطرة العربي القديم، فعبرت عنه ببيتين صارا يضربان مثلًا لمن يُدعى فلا يقبل ولا يفهم، فذاك والميت سواء! قال:

لقد أسمعْتَ لو نَاديتَ حيًّا

وَلكنْ لا حياةَ لِمنْ تُنادِي

….

ولو نارٌ نفخْتَ بها أضاءَتْ

ولكنْ أنتَ تنفخُ في رمادِ(8)

فندعو الله السميع المجيب عز وجل أن نكون ممن يرون كمالاته في الوجود من حولهم، ويتصبغون ظليًا بصفاته، هم وأهلُهم، آمين.

الهوامش:

  1. (التَّوۡبَة: 36)
  2. (صحيح البخاري، كتاب الحج)
  3. (آل عمران: 170)
  4. أحمد شوقي، «الشوقيات»، ج2، ص171، ط2، مكتبة مصر،القاهرة، 1993م.
  5. (الأَحۡزَابِ: 34)
  6. (فصلت: 35)
  7. (سنن ابن ماجه, كتاب الفتن)
  8. عمرو بن معدي كرب الزبيدي، ديوان شعره، ص113، ط2، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1985م.
Share via
تابعونا على الفايس بوك