رأيت حسنه أزيد من مائة ألف يوسف

وكنت أحب زمرة الروحانيين. وكنت أجد قلبي مائلا إلى القرآن ودقائقها ونكاتها ومعارفها. وكان القرآن قد شغفني حبا، ورأيت أنه يعطيني من أنواع المعارف وأصناف الأثمار لا مقطوعة ولا ممنوعة، ورأيت أنه يقوي الإيمان ويزيد في اليقين.

ووالله إنه دُرّة يتيمة. ظاهره نور، وباطنه نور، وفوقه نور، وتحته نور، وفي كل لفظه وكلمته نور. جنّة روحانية، ذُلِّلتْ قُطوفها تذليلا، وتجري من تحته الأنهار. كل ثمرة السعادة توجد فيه، وكل قبس يُقتبس منه، ومن دونه خَرْطُ القَتاد. موارد فيضه سائغة، فطوبى للشاربين. وقد قُذف في قلبي أنوار منه ما كان لي أن أستحصلها بطريق آخر.

ووالله لولا القرآن ما كان لي لطف حياتي. رأيتُ حسنه أزيد من مائة ألف يوسف، فملت إليه أشد ميلي، وأُشْرِبَ هو في قلبي. هو رباني كما يربى الجنين. وله في قلبي أثر عجيب، وحسنه يراودني عن نفسي. وإني أدركت بالكشف أن حظيرة القدس تسقى بماء القرآن. وهو بحر مواج من ماء الحياة، من شرب منه فهو يحيا بل يكون من المحيين. ووالله إني أرى وجهه أحسن من كل شيء. وجه أُفرِغَ في قالب الجمال، وأُلبس من الحسن حلّةَ الكمال. وإني أجده كجميل رشيق القد، أسيلِ الخد، أُعطيَ لـه نصيب كامل من تناسب الأعضاء، وأُسبغت عليه كل ملاحـة بالاستيفاء، وكل نور وكل نوع الضياء. وضيئٌ.. أعطي له حظ تام من كل ما ينبغي في المحبوبين من الاعتدالات المرضية، والملاحات المتخطفة، كمثل حَوَرِ العيون، وبَلَجِ الحواجب، ولَهَبِ الخدود، وهَيَف الخصور، وشَنَب الثغور، وفَلَجِ المباسم، وشمم الأنوف، وسَقَمِ الجفون، وتَرَفِ البنان، والطُّرر المزينة، وكل ما يُصبي القلوبَ ويسرّ الأعين ويُستملح في الحسين.

ومن دونه كل ما يوجد من الكتب، فهي نَسَمة خِداجٍ، أو كمضغة مسقَطة غيرِ دِماج، إن كانت عين فلا أنف، وإن كان أنف فلا عين، وترى وجوهها مكروهة مسنونة ملوَّحة. ومثلها كمثل امرأة إذا كُشف برقعها وقناعها عن وجهها فإذا هي كريهة المنظر جدا، قد رُمي جفنُها بالعَمَش، وخَدّها بالنَمَش، وذوائبها بالجَلَح، ودُررها بالقَلَح، ووردُها بالبُهار، ومِسكها بالبُخار، وبدرها بالـمُحاق، وقمرها بالانشقاق، وشعاعُها بالظلام، وقوتها بالشيب التام. فهي كجيفة متعفـنة، نَتِنةٍ مُنتـنة، تؤذي شامّة الناس، وتستأصل سرور الأعين، يتباكَون أهـلُها لافتضاحهم، ويتمنى النظيفون أن يدسّوها في تراب، أو يذبّون عن أنفسهم إلى أسفل السافلين.

فالحمد لله ثم الحمد لله أنه أنالني حظًا وافرًا من أنواره، وأزال إملاقي من درره، وأشبع بطني من أثماره، ومنح بي من النعم الظاهرة والباطنة، وجعلني من المجذوبين. وكنت شابًا وقد شختُ، وما استفتحت بابًا إلا فتحت، وما سألت من نعمة إلا أعطيت، وما استكشفت من أمرٍ إلا كشفت، وما ابتهلت في دعاءٍ إلا أجيبت، وكل ذلك من حبي بالقرآن، وحبّ سيدي وإمامي سيد المرسلين، اللهم صل وسلم عليه بعدد نجوم السماوات وذرات الأرضين. ومن أجل هذا الحب الذي كان في فطرتي، كان الله معي من أول أمري، حين ولدت وحين كنت ضريعا عند ظِئْري، وحين كنت أقرأ في المتعلمين.

وقد حُبِّبَ إلي منذ دنوت العشرين أن أنصر الدين، وأجادل البراهمة والقسيسين. وقد ألفت في هذه المناظرات مصنفات عديدة، ومؤلفات مفيدة، منها كتابي: “البراهين”. كتاب نادر ما نُسج على منواله في أيام خالية، فليقرأه من كان من المرتابين. قد سللت فيه صوارم الحجج القطعية على أقوال الملحدين، ورميت بشهبها الشياطين المبطلين. قد خفض هام كل معاند بذلك السيف المسلول، وتبيّنت فضيحتهم بين أرباب المنقول والمعقول، وبين المنصفين. فيه دقائق العلوم وشواردها، والإلهامات الطيبة الصحيحة والكشوف الجليلة ومواردها، ومن كل ما يجلّي درر معارف الدين المتين. ولي كتب أخرى تشابهه في الكمال، منها: الكحل، والتوضيح، والإزالة، وفتح الإسلام، وكتاب آخر سبق كلها ألفته في هذه الأيام، اسمه: “دافع الوساوس”، هو نافع جدًا للذين يريدون أن يروا حسن الإسلام، ويكفّون أفواه المخالفين.

تلك كتب ينظر إليها كل مسلم بعين المحبة والمودة وينتفع من معارفها، ويقبَلني ويصدّق دعوتي، إلا ذريةَ البغايا الذين ختم الله على قلوبهم فهم لا يقبلون.

ولما بلغت أشد عمري وبلغت أربعين سنة، جاءتني نسيم الوحي بِرَيَّا عناياتِ ربي، ليزيد معرفتي ويقيني، ويرتفع حجبي وأكون من المستيقنين. فأول ما فتح عليّ بابه هو الرؤيا الصالحة، فكنت لا أرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وإني رأيت في تلك الأيام رؤيا صالحة صادقة قريبًا من ألفين أو أكثر من ذلك.. منها محفوظة في حافظتي وكثير منها نسيتها، ولعل الله يكررها في وقت آخر ونحن من الآملين.

ورأيت في غُلَواء شبابي وعند دواعي التصابي، كأني دخلتُ في مكان وفيه حفدتي وخدمي، فقلتُ: طهّروا فراشي، فإن وقتي قد جاء. ثم استيقظتُ وخشيت على نفسي وذهب وَهْلي إلى أنني من المائتين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك