بركات رمضان العظيمة

بركات رمضان العظيمة

محمد طاهر نديم

شهر رمضان شهر كريم. تكثر فيه أسباب الغفران، يعظّم الله فيه الأجر والثواب ويجزل المواهب ويفتح أبواب الخير لكل راغب. إنه شهر المنح والخيرات، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، شهر تُفتح فيه أبواب الجنان وإنه شهر قال عنه الرحمن:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 186).

إنه شهر محفوف بالبركات الجليلة ويكفيك الاهتمام الذي يوليه إياه القرآن الكريم بحيث يورد ذكره في طياته ويأمر بفرضيته ثم يحث على الاستمتاع ببركاته الشاملة فيقول:

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (البقرة: 186).

فالمؤمن المسلم يصوم رمضان ابتغاء التخلص من أدران وأرجاس الآثام التي علقت بنفسه طوال السنة ورغبة في الفوز بلقاء الله عز وجل.

ومما لا شك فيه أن الله تعالى علم المسلمين عبادات شتى لتطهير نفوسهم من قذارة المعاصي ووساخة الأعمال السيئة كما أنه خص كل عبادة من هذه العبادات بجزاء معين في حين أنه خص الصوم بلقائه عز وجل جزاءً للصائم ويؤكد ذلك ما ورد في حديث قدسي:

“الصوم لي وأنا أجزي به” (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم). ويسعى الصائم من خلال صومه أن يتخلق إلى حد ما بأخلاق الله تعالى وذلك بامتناعه عن تلبية رغباته الفطرية وتغلبه على اللذة المباحة وتركه المتطلبات النفسية والحسية التي قد سمح له الله بالاستمتاع بها. وإن هذا التشبه إلى حد ما يؤهله للقاء الله تعالى.

ويطرح سؤال مهم جدًا نفسه هنا: كيف يمكن للنفس أن تتزكّى بمجرد تحمّل الجوع والظمأ، ومن أين لهذا التعب الجسدي أن يُنشئ علاقة بين الله وعبده؟

فليكن معلومًا أن القلب الإنساني مشوب بعلل كثيرة. فلا يصلح إناء القلب لاحتواء محبة الله النقية ولا يمكن بلوغ النشوة السامية لدى تذوق تلك المحبة إلا بإخضاع القلب لنار المعاناة والصبر للقضاء على شوائبه وعلله.

فمن الضروري جعلُ النفس صالحة للقاء الله تعالى بتكبدها المشقة والتعب والكد والكدح في سبيله كما يؤكد ذلك تعالى:

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (الِانْشقاق: 7).

ولقد تناول سيدنا الإمام المهدي عليه السلام هذا الموضوع على النحو التالي فقال:

“عليكم أن تتخلوا عن تسمين النفسانية فإن الباب الذي دُعيتم إليه لا يدخل منه السمين” (سفينة نوح)

إن لقاء الله تعالى يستلزم دخول المؤمن الحقيقي في نار المجاهدات الشاقة والشدائد المتنوعة. فاعلموا أن هذه الشدائد نوعان، أولها: هي تلك المصاعب والآفات التي تحل بالإنسان ابتلاء من الله تعالى والتي قد تعجز قدرة الإنسان عن تحملها، لذلك علَّمَنا الله تعالى دعاء لاستبعاد تلك الشدائد والصعاب التي قد لا يطيقها الإنسان. فقال:

رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ (البقرة: 287).

وثانيها: هي تلك المجاهدات التي يختارها المؤمن بنفسه إرضاء لله تعالى. والصوم واحد من تلك المجاهدات. لقد وضّح الله تعالى في القرآن الكريم الغرض الأسمى للصوم، ألا وهو بلوغ التقوى في قوله: …لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة: 184).

وتعالوا نلاحظ، كيف يتمكن الصائم من نيل التقوى بصيامه.

أولاً: يتسنى للصائم أن يستشعر لدى امتناعه عن الأكل والشرب بمدى معاناة الفقراء والجياع والعطاشى مما يحمله على مواساتهم والإحسان إليهم والتعاطف معهم، إذ لا يمكن للإنسان تقدير معاناة الآخرين إلا إذا عانى منها أو مر بها. لذلك فقد أتاح الله للمؤمن فرصة في صيام رمضان حتى يُدرك معاناة البؤساء والمحتاجين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى جعل من رمضان شهرًا يفيض بالصدقات والإنفاق في سبيل الله. ومما يُذكر عن رسول الله أنه “كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل.. فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسَلة” (صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان)

ثانيًا: يتعلم الصائم درسًا من الصيام أنه إذا كان يريد الفوز برضاء الله تعالى فلا بد له من ترك بعض ملذاته الدنيوية ورغباته النفسانية وحاجاته الفطرية، فإذا فعل ذلك فإنه من تقوى القلوب.

ومما يعلمنا الله تعالى في رمضان أنه إذا كان الإنسان يقدر على ترك بعض الحلال من أجله عز وجل، فلم لا يحاول ترك الحرام ابتغاء مرضاة الله تعالى.

إن من بركات رمضان المبارك “استجابة الدعاء”. ففي هذا الشهر تفتح أبواب لقبول الدعاء ويؤكد ذلك قول الحق تعالى حيث قال بعد بيان فرضية الصيام:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة: 187).

هناك بركة عظيمة أخرى لرمضان وهي قيام الليل أو صلاة التهجد. حيث يترك المحب الولهان مضجعه قبل السحور تاركًا نومه العميق وسريره الناعم، فيتوضأ ويقوم في حضرة الله تعالى داعيًا ومناجيًا إياه. فهو يبتهل ويتضرع إلى محبوبه في الوقت الذي قال عنه رسول الله : إن الله تبارك وتعالى ينزل فيه إلى السماء الدنيا وينادي عباده قائلاً: هل من مستغفر فأغفر له، هل من مسترزق فأرزقه، وهل من مستشف فأشفيه.

سبحان الله، ما أجمل هذا الوقت وما أروع تلك الساعات بحيث إن مالك الأرض والسماء وما فيهما يُنادي الناس فاتحًا أبواب خزائن رحمته الواسعة وأفضاله الكبيرة بل ويحرضهم على الاستغفار فيغفر لهم والاسترزاق فيرزقهم والاستشفاء فيشفيهم.

وإن ليلة القدر أيضًا هي من بركات رمضان العظيمة. يقول تعالى في كتابه المجيد:

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر: 2-6).

فليلة القدر إنما هي عيد يُحتفل به بمناسبة نزول القرآن الكريم ويتجلى الله على عباده بالرحمة والرضوان في هذه الليلة المباركة التي تفوق كل ليالي حياة الإنسان بركة وفضلاً. وتتنزل الروح والملائكة على قلب المؤمنين حاملة رسائل الأمن والسلام.

لقد أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ولكن لا يعني هذا أن كل من سهر ليالي الأفراد في العشر الأواخر فقط، يُستجاب له فيها كل ما يدعو به. فإن هذا الأمر مرفوض أو بالأحرى غير معقول، وإن حدث ذلك لانقلب الدين إلى لعبة. بل عليه أن يستجيب لأوامر الله تعالى ليستجيب الله لدعائه الموافق لهذه الليلة.

أن يوفق المرء للإكثار من تلاوة القرآن في رمضان هو بركة أيضًا من بركات هذا الشهر الكريم إذ أن الصائم يرطب لسانه بتلاوة القرآن الكريم آناء الليل والنهار وفي صلاة التهجد، كما أنه يتمتع بسماعها في صلاة التراويح. لقد قال سيدنا محمد :

“من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، ولا أقول “ألم” حرف ولكن “ألف” حرف و”لام” حرف و”ميم” حرف” (الترمذي).

وقال أيضًا إن المؤمن إذا قرأ حرفًا من القرآن محا الله به عنه خطيئة ورفعه درجة.

فإنَّ مجالس دروس القرآن تنعقد في رمضان لتحقيق هذا الهدف النبيل، حيث تملأ المعارف الإلهيّة والعلوم الروحانيّة جوَّ هذه المجالس بذكر الله تعالى مما يجلبُ للحاضرين أفضال الله ورحمته ومغفرته. فقد ورد في حديث أنَّ رسول الله قال:

“إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا. فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ -وَهُوَ أَعْلَمُ- مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ. قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا، أَيْ رَبِّ، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟! قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّا يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟! قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا.”

قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ” (صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، باب فضل مجالس الذكر).

(عن مقالة للأستاذ المرحوم بشارت الرحمن الصوفي إعداد: محمد طاهر نديم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك