بين التمسك بالحرفية وضرورة التأويل

بين التمسك بالحرفية وضرورة التأويل

محمد منير إدلبي

باحث إسلامي

احذروا الدجال يجتاح العالم (4)

ثمة صراع قديم بين التمسك بحرفية النصوص الدينية المقدّسة والضرورة التي تُحتّم -في كثير من الأحيان- تأويلها بشكل منطقي يقبله العقل دون أن يكون ذلك على حساب النصّ الموثّق.

ويتبدّى هذا الصراع حادًّا أكثر ما يتبدّى حول النصوص المتعلّقة بالنبوءات المستقبلية التي وردت في الكتب المقدّسة (التوراة والإنجيل والقرآن الكريم) لدى أصحاب الرسالات السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام.

وأمّا فيما يتعلّق ببحثنا هذا: (خـروج المسـيح الدجّال) فإنّ الصراع بين الإصرار على التمسّك بحرفية النص وضرورة الأخذ بالتأويل يكاد يبلغ ذروته القصوى، كما أنه يقسم الباحثين والمهتمين -من حيث الفهم والاعتقاد- إلى فريقين متباينين، وقد يصل الخلاف بينهما إلى حدّ يجعل القائلين بالحرفية يتّهمون مخالفيهم بإفساد العقيدة والناس، وقد يصل أحيانًا إلى حدّ تكفيرهم!

ولمـّا كان لابدّ من وجود (حقيقة) في الأمر تكون هي الأصل والمرجع الصحيح الذي يجب أن يؤخذ به، كي تُفهم -من خلاله- الحقائق ذات الصلة، لذا فإنّ من الضروري لكلا الفريقين، أن يُعاودوا النظر في موقفهما الاعتقادي من غير تعصّب أو تصلّب، وذلك بُغية الوصول إلى الفهم والاعتقاد السليمين الخاليين من شوائب التقليد الأعمى المتوارَث دون ما تفكّر أو دراسة أو تمحيص لتبيّن الهَدْي الصحيح للنصوص المقدّسة، والتي لا ريب في أنها لم ترد عبثًا، بل جاءت تحمل رسالة يقُصد منها الهداية إلى فهمٍ أو ممارسة معيّنة؛ وبذلك يستنير الفرد والمجتمع بالهَدْي الصحيح للنبوءة المقدّسة، ويصير أقرب إلى الإيمان الحقّ الذي يعتقد المؤمنون أنّ فيه الخير. ولا شكّ في أنّ الإيمان الحقّ يجب أن يهَدْي إلى العمل الحق الذي فيه كلّ الخير للإنسان الفرد وللبشرية جمعاء.

 

* ضلال الفهم المترتّب على التمسّك بالحرفية

مما لاشكّ فيه أنّ أحاديث خروج الدجّال ومجيء المسيح الموعود عليه السلام قد بلغت حدّ التواتر ولا يمكن إنكارها، كما بيّن ذلك العلمـاء المحقّقون ومن بينهم القاضي العلاّمة محمد بن علي الشـوكاني في  (التوضيح في تواتر ما جاء في المهَدْي المنتظر والدجّال والمسيح)[2]، ولكنّ المسلم المصدّق بها يجد نفسه مضطرًّا إلى عدم الأخذ بحرفيتها لأنّ مَن يدرس هذه الأحاديث  بمجملها -على ضوء الأسس الإيمانية المبيّنة في القرآن الكريم والحديث الصحيح- يجد أنّ الإصرار على فهم هذه الأحاديث الشريفة بالحرفية التي جاءت فيها دون أيّ توفيق أو تأويل منطقي مدروس على أساس الهَدْي القرآني الصحيح، يضع الفأس على رأس التوحيد،كما أنه يؤديّ بكلّ تأكيد إلى:

1 ـ التناقض بين بعض هذه الأحاديث وبعضها الآخر.

2 ـ التناقض بين هذه الأحاديث والقرآن الكريم.

3 ـ التناقض بين هذه الأحاديث والمنطق العلمي والعقلي السليمين.

وبما أنهّ يستحيل وجود أية تناقضات في الأحاديث الصحيحة، فلا بدّ إذن من محاولة فهمها على أسس التأويل التي أقرّها وبيّنها القرآن الكريم كما سنبيّن ذلك في مكانه من هذا الكتاب بعون الله تعالى.

ولبيان التناقض المترتّب على الأخذ بالحرفية نورد الأمثلة التالية:

* دخول الدجّال مكّة وطوافه بالبيت:

جاء في عدد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال لا يستطيع دخول مكّة ولا المدينة، لأنّ الله عزّ وجل قد حرّم عليه دخولهما، ولكننا نقرأ في أحاديث أخرى أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة، فقد جاء في صحيح مسـلم ومسـند ابن حنبل في حديث رسـول الله صلى الله عليـه وآلـه وسلم الحديث التالي، حيث يقـول الدجّـال عن نفسه:

(..وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا) (صحيح مسلم, كتاب الفتن وأشراط الساعة)

وكذلك روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام الحديث التالي:

(وَإِنَّهُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الْأَرْضِ إِلَّا وَطِئَهُ -أي الدجال- وَظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَا يَأْتِيهِمَا مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا إِلَّا لَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً) (سنن ابن ماجه, كتاب الفتن)

يتأكد من هذين الحديثين أنّ الله عزّ وجل قد حرّم على الدجّال دخـول مكّـة والمدينة بالرغم من أنّه سيظهر على الأرض كلّـها، في حيـن أننا نقرأ في الحديث التالي أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة أيضًا.

جاء في صحيح البخاري في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

(..{وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطِطًا أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ) (صحيح البخاري, كتاب أحاديث الأنبياء).

أجمع العلماء على أنّ رؤى الأنبياء حقّ لأنها من الله، ونجد في هذا الحديث أنّ الدجّال يدخل مكّة ويطوف بالكعبة؛ في حين جاء في الحديث الآخر أنّ مكة والمدينة محرّمتان على الدجّال ولا يستطيع دخولهما، فكيف يمكن فهم هذا التناقض؟! ثمّ كيف يمكن لعملاق قَدِرَ على الأرض جميعها أن يعجز عن دخول مدينتين صغيرتين منها؟ وما القوى التي ستمنعه في حين أنّه قد ملك القوى كلَّها، كما تُبيِّن الروايات التي تتحدّث عنه؟[3]

وهل يُعقل هنا أن يأمر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الناسَ من أمّته أن يُلقوا بأنفسهم وأهليهم في نار الدجّال – باعتبار أنها هي الجنة، لو كانت هذه النار حقيقية؟ وماذا لو أوقد الدجّال نارًا حقيقية هائلة ثم أَمَر المسلمين أن يلقوا بأنفسهم فيها طاعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! وهل يمكننا تخيل مشايخ المسلمين يفعلون ذلك لكونهم أول من يحرص على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

ومن الأسئلة الإشكالية التي قد تُثيرها هذه الأحاديث أيضًا -في نظر بعضهم- هي: كيف يدخل الدجّال مكة ويلتقي بالمسيح الموعود عليه السلام في حين أنّ الدجّـال لا يسـتطيع مـواجهته؟ إذ ورد في أحاديث الرســول صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال إذا رأى المسيح الموعود ذاب كما يذوب الملح، أو كما يذوب الرصاص، أو انماث كما تنماث الشحمة في الشمس، أو أنه يموت بِنَفَسِهِ لأنه كافر؛ فقد ورد أنّه لا يحلّ لكافر يجد ريح نَفَس المسيح الموعود عليه السلام إلاّ مات. راجع هذه الأحاديث في بحث الدجّال في مصادر الحديث الشريف

وجاء أنّ القاضي عيّاض أجاب عن هذا الإشكال فقال:

“إنّ رؤيا الأنبياء وإن كانت وحيًا، إلاّ أنّ منها ما يقبل التعبير”.

ويؤكّد العلاّمة علي القارّي هذا المذهب في الفهم فيقول:

“قال التوريشي: إنّ طواف الدجّال عند الكعبة مع أنّه كافر، مؤوّل بأنّه رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من مكاشفاته، إذ كوشف بأنّ عيسى في صورته الحسنة التي ينزل عليها يطوف حول الدين لإقامة أموره وإصلاح فساده، وأنّ الدجّال في صورته الكريهة التي يظهر عليها يدور حول الدين يبغي العوج والفساد” (المرقاة شرح المشكاة ج: 5 – باب بين يدي الساعة)

 

* عين الدجّال العوراء

ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال: (أعور العين اليمنى). صحيح البخاري

وجاء في حديث آخر:

(الدجّال أعور العين اليسرى). صحيح مسلم

وقد اختلفت الروايات حول شكل عينه العمياء، إذ جاء في الحديث:

(كأنّ عينه عنبة طافئة) وفي حديث: (إنه مطموس العين) مشكاة المصابيح.

وجاء في رواية أبي سعيد عند أحمد أنّ الدجال:

(جاحظ العين اليمنى كأنها كوكب درّي).

فكيف يمكن الأخذ بهـذه الأحاديث بحرفيتها مع وضـوح التناقض فيها؟ لا بدّ إذن من برهان مقنع.

* قدرات الدجّال الخارقة

بيّنتْ أحاديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الدجّال يتّصف بصفات وقدرات خارقة نورد فيما يلي أمثلة عليها:

 

* يأتي معه بالجنة والنار وجبال من خبز ولحم وطعام

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ:

(الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى … مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ) (صحيح مسلم, كتاب الفتن وأشراط الساعة)

وجاء في رواية أنّ الدجّال:

(مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ وَنَهَرَ مَاءٍ) (صحيح البخاري, كتاب الفتن).

وفي رواية:

(إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وَإِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تُحْرِقُ وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ) (صحيح مسلم, كتاب الفتن وأشراط الساعة)

وهل يُعقل هنا أن يأمر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الناسَ من أمّته أن يُلقوا بأنفسهم وأهليهم في نار الدجّال – باعتبار أنها هي الجنة، لو كانت هذه النار حقيقية؟ وماذا لو أوقد الدجّال نارًا حقيقية هائلة ثم أَمَر المسلمين أن يلقوا بأنفسهم فيها طاعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! وهل يمكننا تخيل مشايخ المسلمين يفعلون ذلك لكونهم أول من يحرص على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

وجاء في حديث:

(إِنَّ مَعَهُ الطَّعَام وَالْأَنْهَار) (فتح الباري بشرح صحيح البخاري, كتاب الفتن)

وفي حديث:

(مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدهمَا رَأْي الْعَيْن مَاء أَبْيَض وَالْآخَر رَأْي الْعَيْن نَار تَأَجَّج) (فتح الباري بشرح صحيح البخاري, كتاب الفتن)

كما جاء في حديث:

(مَعَهُ وَادِيَانِ أَحَدهمَا جَنَّة وَالْآخَر نَار) (عون المعبود شرح سنن أبي داود, كتاب الملاحم)

وفي حديث:

(يأتي معه بمثل الجنّة والنار) متّفق عليه

وفي حديث:

(ويكون لـه جنّة ونار، فيقول: هـذه جنـّة لـِمن سجد لي، ومن أبى أدخلته النار)[4].

وروى الحاكم وابن عساكر عن ابن عمر أنه:

(يسير مع الدجّال جبلان، أحدهما فيه أشجار وثمار وماء، وأحدهما فيه دخان ونار فيقول هذه الجنّة وهذه النار). (الإشاعة لأشراط الساعة) ص : 124

وفي رواية نعيم عن أبي مسعود:

(معه جبل من مرق وعراق اللحم حارّ لا يبرد، ونهر جـارٍ، وجبل من جنـان وخُضـرة وجبـل من نـار ودخـان، يقـول هـذه جنـتي وهـذه  ناري، وهذا طعامي وهذا شرابي). (الإشاعة لأشراط الساعة)، ص: 126

لقد أثارت هذه الأحاديث الشريفة -المتعلّقة بتملّك الدجّال للجنّة والنار وجبال الطعام من الخبز واللحم والمرق والماء والأنهار- دهشةَ واستغراب العلماء المتفكّرين الذين يرفضون أن يكون ثمة تناقض بين المنطق الديني والمنطق العقلي العلمي. ولمـّا كان الإصرار على الأخذ بالحرفية يؤدّي حتمًا إلى ظهور مثل هذا التناقض والتعارض المرفوضين، فقد ذكرتْ الكتبُ اختلاف العلماء في هذا الشأن، حيث نقرأ:

“اختلف العلمـاء في هذه الجنّة والنار، هل هي حقيقة أم تخيُّل”.

وقد مال ابن حبّان في صحيحه إلى أنّه تخيّل، واستدلّ بحديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين أنه قال:

(كنت أكثـر مَـن ســأل النبي صـلى الله عليـه وآلــه وسـلم عـن الدجّال، فقال لي: وما يُضيرك منه؟ قلت: لأنهم يقولون إنّ معه جبل خبـز. قال: هو أهـون من ذلك)؛ “ومعناه أنّه أهـون من أن يكون معه ذلك حقيقة، بل يُرى كذلك وليس بحقيقة”. (الإشاعة لأشراط الساعة)، ص: 126

وجاء في (المرقاة شرح المشكاة باب العلامات بين يدي الساعة) في معرض شرحه لقول رسول الله : هو أهون على الله من ذلك، قال: (قوله هو أهون على الله من ذلك أي أنّ الدجّال أحقر على الله تعالى من أنّ يُحَّقق له ذلك وإنما هو تخييل وتمويه للابتلاء فيثبت المؤمن ويزلّ الكافر). (القول الصريح في ظهور المهَدْي والمسيح) لمؤلفه: نذير أحمد.

* إحياء الدجّال للموتى وإنزاله للمطر

جــاء في حديث لرسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ مـن فِتَن الدجّـال أنّه يقتـل ويحيي، حيث نقـرأ في صحيـح البخـاري – باب ذِكـر الدجّال الحديث التالي:

(يَأتِي الدَجَّال .. فَيَخرُجُ إليهِ رَجُلٌ .. فَيَقُولُ الدَجَّالُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ). (صحيح البخاري, كتاب الفتن)

يتبّين بكل وضوح -من خلال الروايات التي تذكر قدرة الدجّال علـى إحياء الموتى- أنّ الإصرار على الأخذ بالمعنى الحرفي لهذه الروايات يتناقض بشكل مؤكّد، ليس مع القرآن الكريم فحسب، بل مع الأسس الإيمانية والتوحيدية في حقّ الله سبحانه وتعالى. فالمعلوم أنّه لا يحيي ولا يُميت إلاّ الله وحده؛ إذ يؤكّد القرآن الكريم ذلك في أكثر من موضع، حيث نقرأ قوله عزَّ وجل:

هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يونس: 57)

فكيف يمكن لكم أن تُضيفوا إيمانًا جديدًا فتزعمون أنّه: (هو يحيي ويُميت وكذلك الدجال)؟!

ويتحـدّى القـرآن الكريـم المشـركين أن يُثبتـوا شـيئًا من ذلك فيقول:

ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (الروم: 41)

فهل تُجيبون على سؤال الله هذا بقولكم: نعم الدجّال يفعل ذلك أيضًا؟! وحتى لـو قلتـم ذلك، فإنّ الله تعالى يختـم الآية منزّهـًا نفسه عن هذا الشرك القبيح فيقول:

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

ثم إذا انتبهنا إلى كلمة (مِنْ) في قولـه تعالى: يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ نجدها هنا للتبعيض الذي ينفي إمكانية القدرة على إحياء الأموات بأيّ شكل كان، لأنّ هذا الأمر إنما هو من صـفات الله وحـده[5]؛ فكيف يمكن أنّ نُشـرك به المسـيح الأعـور الدجّال أو غيره كائنًا من كان؟!

ونقرأ في سورة البقرة ردّ سيدنا إبراهيم على النمرود بقوله:

رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ (البقرة: 259)

فهل تضيفون إلى هذه الصفة -التي خصّ الله بها نفسه على لسان إبراهيم عليه السلام- صفةً أخرى فتقولون: “ربّي والدجّال يحييان ويُميتان”، نعوذ بالله من ذلك؟!

ومن الأمـور الـتي خصّ الله تعالـى بهـا ذاتـه كذلك إنـزال الغيث من السماء فقال عن نفسه:

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ (لقمان: 35)

فكيف يمكن الإيمان بأنّ الدجّال يقدر على أن يأمر السماء فَتُنزل الغيث، فيكون بذلك مساويًا لله في قدرته تلك؟!

وبالرغم من أننا سنعمد إلى بيان حقيقة نبوءات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بحث الدجّال وقدراته؛ إلاّ أنني أَلْفِتُ هنا نظر القائلين بقدرة الدجّال على إنزال الغيث من السماء إلى أنّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر قدرة الدجّال على إنزال الغيث بل جاء فيها أنه يأمر السماء فتُمطر، فقال:

(وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ) (سنن ابن ماجه, كتاب الفتن)

كما جاء في معرض ذكر رسول الله صلى الله عليه للدجال:

(فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ) (صحيح مسلم, كتاب الفتن وأشراط الساعة)

وثمة فرق هائل بين أن تمطر السماء أو أن ينزل منها الغيث، كما سنبيّن لاحقًا، فلا تشركوا بالله أحدًا.

* الدجّال يعلم الغيب!

ورد في بعض الأحاديث المتعلّقة بالدجّـال أنّه يتنبأ بأحـداث غيبية تتعلق بالمسـتقبل، كما في الحديث التـالي الـذي جعـل الآخـذين بالحــرفية يعتقـدون أنه يمكـن للدجـال أن يتنبـّأ بالغيب، وأنّه مخلوق حيّ باق مذ وجد في الأرض! وإليـكم الحديث:

تروي كتب الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع يومًا صحابته ليحدّثهم حديثًا، فقال:

(أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ … لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ فَلَعِبَ بِهِمْ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبْ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ فَقَالُوا وَيْلَكِ مَا أَنْتِ فَقَالَتْ أَنَا الْجَسَّاسَةُ قَالُوا وَمَا الْجَسَّاسَةُ قَالَتْ أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ قَالَ لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً قَالَ فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ.قُلْنَا وَيْلَكَ مَا أَنْتَ قَالَ قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ قَالُوا نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ … فَقَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ قَالَ أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ قُلْنَا لَهُ نَعَمْ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ قَالَ هَلْ فِيهَا مَاءٌ قَالُوا هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ قَالَ أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ قَالُوا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ قَالَ هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ قُلْنَا لَهُ نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ قَالُوا قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ قَالَ أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ قَالَ لَهُمْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ قُلْنَا نَعَمْ قَالَ أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا … أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ) (صحيح مسلم, كتاب الفتن وأشراط الساعة)

نرى من هذا الحديث الصحيح أن الدجّال قد تنبأ بأنباء غيبية كثيرة وقـد تحقّق أكثرها حتى الآن، فكيف يصـحّ لدجّـال كافــر ملعـون يضلّ الناس ويدعـو إلى تأليه نفسه أن يعلـم الغيب بهذا الشكل وكيف استطاع ذلك؟!

إنّ المسلمين يؤمنون يقينًا أنّه لا يعلم الغيب أحدٌ إلاّ الله، وذلك بتأكيد وتعليم القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل:

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ  (النمل: 66)

وأمَـر اللهُ عـز وجـل رسولَه أن يحذّر أمته من أن يظنوا يومًا أن أحدًا سوى الله يمكن أن يعلم الغيب فقال له:

فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ (يونس: 21)

كما أمَره أن يؤكّد بأنه هو نفسه -وهو رسول الله- لا يعلم الغيب فقال له:

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ (الأنعام : 51)

فكيف يصـحّ بعـد هذا البيان القرآني أن يعتقد المؤمنون بإمكانية قدرة الأعور الدجال على التنبؤ بالغيب حقًّا، مُناقِضًا بذلك البيان القرآني المبين؟! ثم كيف يمكن لرجل كافر ملعون أن يظلّ حيًّا باقيًا منذ نوح والنبيين في الزمان السابق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ يظلّ حيًا باقيًا إلى زماننا هذا، حتى  يبعث اللهُ المسيحَ الموعود والمهَدْي المنتظر عليه السلام فيقتله ويقضي عليه وينقذ العالم والجنس البشري من شروره وفِتَنِه؟!

إنّ الأخذ بحرفية هذا الكلام يضع الفأس على رأس التوحيد -كما قلنا- ويحتّم الوصول إلى هذه النتيجة المتناقضة[6].

 

* حمار الدجّال الخارق!

وأمّا أوصاف حمار الدجّال التي وردت في الأحاديث المتعلّقة  بالدجّال، فلا يمكن لأصحاب العقول المنطقية السليمة أن يأخذوا بحرفيتها بأيّ شكل من الأشكال؛ إذ ما هذا الحمار الناري الذي مسافة ما بين حافره إلى حافره مسيرة يوم وليلة وطول كل أذن من أذنيه ثلاثون ذراعًا وعرض ما بين أذنيه أربعون ذراعًا، ورغم أنّ طول أُذن حمار الدجال ثلاثون ذراعًا فقط، فإنّ سبعين ألفًا من اليهود يستظلّون تحتها! كما أنّ حمار الدجال هذا يأكل الحجارة، ويُخرِج من مؤخّرته نارًا، ويطير في السماء فتُطوى له الأرض منهلاً منهلاً، ويسبق الشمس إلى مغيبها؛ معه من كلّ السلاح تخرج منه الحيّات ويخوض البحر إلى كعبيه ولا يغرق، ويسير في الأرض، وطوله ستون خطوة لونه أحمر  يتقدّمه جبل من دخان ولا يُدرى قُبُله من دُبُره؛ وينادي الناس إليه بِدويّ يملأ ما بين الخافقين .. وغير ذلك من الأوصاف العجيبة؟!

ثم أية حمارة (أتان) يمكن أن تلد مثل هذا الحمار الهائل؟ أمّ أنّ أمّه ستكون حمارة عادية ولدت حمارًا كونيًا هائلاً؟!

وإن لم يكن سيولد من حمارة عادية، فمن أين سيأتي إذن؟!

ويفيد هنا أن نأتي بمثال نُبيّن فيه رفضَ بعض المفكّرين المسلمين أن تُنسب هذه الخرافات إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان من شأنهم أنهم أنكروا الأحاديث ذاتها، وهذا خطأ لا نوافقهم عليه، بل كان ينبغي أن يفهموا حقيقة النبوءات العظيمة الكامنة فيها من خلال فهم بيان اللغة العربية المتعلّق بالرمز والاستعارة والمجاز وغيرها. ومن المفيد هنا الاطّلاع على رأيهم في هذا المقام. فمن هؤلاء العلاّمة محمد فريد وجدي رئيس تحرير مجلّة (نور الإسلام) لسان الأزهر سابقًا وصاحب الموسوعة العربية (دائرة معارف القرن العشرين) الذي ذَكر أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسـلم المتعلّقة بخروج الدجّـال ثم قال:

“رأينا في هذا الكلام أنّ الذي يُلقي نظرة على هذه الأحاديث يُدرك لأول وهلة أنّها من الكلام الملفّق الذي يضعه الوضّاعون وينسبونه للنبي صلى الله عليه وسلم لمقاصد شتّى[7]. إمّا لإفساد عقائد الناس، أو لتصغير شأن النبي في نظر أهل النقد، فإنّ هذا الكلام لو نُسِب إلى أحد الناس حطّ من شأنه، فما بالك لو نُسب لخاتم النبيين وإمام المرسلين.

إنّ في توهين هذا الكلام عدة وجوه لا تقبل المناقشة:

أولها: أنه أشبه بالأسـاطير الباطلة، فإنّ رجلاً يمشي على رجلين يطوف البلاد يدعو الناس لعبادته، ويكون معه جنّة ونار يُلقي فيهما من يشاء؛ كلّ هذا من الأمور التي لا يُسيغها العقل .. والنبي أجلّ من أن يأتي بشيء تنقضه بداهة النظر، وإلاّ فما هي جنّته وما هي ناره اللتين تتبعانه حيث سار؟ هل هما مرئيتان أم خياليتان؟ إن كانتا مرئيتين فهل جنّته قصور منيفة وحدائق غنّاء كما يفهمه الناس من مدلول هذه اللفظة؟ إن كانت كذلك فكيف تسير معه هذه القصور والحدائق إلى حيث توجّه؟ وهل ناره تَنّور عظيم متأجّج بالناس والحجارة على ما يفهمه الناس من معنى هذه الكلمة؟ وهل مثل هذا الأمر مما يصحّ أن يُسيغه عقل بشري ناط الله به تمييز الممكن من المستحيل، وجعله الفارق بين الحقّ والباطل؟

وإن قيل بأنّ جنّته وناره خياليتان، فهل كان يقتل متّبعه ليرسل بروحه إلى الجنة أو يَعِدُه بها وعدًا بعد مماته الذي ورد أنّه يلقي بمتّبعه في جنّته فيجدها نارًا، وناره جنة وارفة الظلال، وأنهما يسيران معه حيث سار، وهذا ممتنع عقلاً كما رأيت.

وثانيها: كيف يُعقل أنّ رجلاً أعور مكتوب على جبهته (كافر) يقرؤها[8] الكاتب والأمّي على السّواء، يقوم بين الناس فيدعوهم لعبادته، فتروج له دعوة أو تُسمع له كلمة؟ أيّ إنسـان بلغ به الانحطاط العقلي إلى درجة يعتقد فيها بألوهية رجل مشوّه الخلقة مكتوب في وجهه كافر بالأحرف العريضة؟ وأيّ جيل من أجيال الناس تروج فيهم مثل هذه الدعوة؟

إنّ العرب كانوا يشكّون في المرسلين ويستكبرون أن يتبعوا رجلاً يمشي على رجلين؛ ويودّون لو أرسل الله إليهم ملائكة من السماء، كما نصّ عليه القرآن. وأمّا غيرهم من الأمم، وحتى في أقدم أزمنة التاريخ، فقد كانوا يُظهرون الأنَفة من اتّباع أمثالهم في البشرية ويودّون لو أنّ الرسول كان من عالم آخر، كما نصّ عليه القرآن أيضًا. فمن هي تلك الأمم التي كُتب عليها أن تُفتن برجل أعور مكتوب على وجهه كافر فتعتقد فيه الألوهية؟

ثالثها: لماذا لم يذكر القرآن عن هذا المسيح الدجّال شيئًا مع خطورة أمره وعظم فِتَنِه كما تدلّ عليه تلك الأحاديث الموضوعة، فهل يُعقل أنّ القرآن قد ذكر ظهور دابّة الأرض، ولا يذكر ظهور الدجّال الذي معه جنّة ونار يفِتَن بهما الناس[9]؟!

رابعها: أنّ كون هذه الأحاديث موضوعة يُعرف بالحسّ من الحديث الطويل الذي نُسب إلى نواس بن سمعان ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يُنبئ بأنّ الدجّال يخرج من خلّة بين الشام والعراق ويعمل الأعاجيب، ثم يدركه عيسى إلخ..

إن تَنْظر إلى تركيب هذه القصّة نظر منتقد لا يخطر ببالك شكّ في أنها موضوعة وقد وضعها واضع لا يفرّق بين الممكن والمستحيل، وبين سنن الله في خلقه وما تولّده الخيالات من الأباطيل، ولكن الدليل الحسي على بطلان هذا الحديث هو أنّ واضعه -لقصر نظره- خيّل له أنّ أسلحة الناس لن تزيل القسيّ والسهام والنشاب والجعاب حتى تقوم الساعة؛ ولم يُدرك أنه لن يمرّ على وضع هذه الأحاديث نحو سبعة قرون حتى وجدوا البارود والبنادق ولم تمرّ ستة قرون أخرى حتى لم يكن للقوس والنشاب ذكر، وقامت مدافع الماكسيم وقنابل اليد والشرانبل والأدخنة السامة والغازات الملتهبة والديناميت الذي يتساقط من الطيارات إلخ .. لم يدرك ذلك كله فصوّر الأسلحة في آخر الزمان على الحال الذي عهده في زمان، وليس بعد هذا دليل محسوس على أن هذا الحديث مختلق؛ فإن الذي يوحى إليه أكبر من أن يقع في هذا الخطأ العظيم … ويرى القارئ مما مرّ من هذه الأحاديث كلها أنها خالية من روح النبوة ولا يؤيدها شيء من القرآن[10] ولا من طريق الإشارة، فلا يصحّ لعاقل أن يعوّل على أمثال هذه الموضوعات فإن للأخذ بها حطّة في العقل وذهاب بالدّين مذهب الخرافات والأضاليل، والمسلمون أُمروا أن يتحرّوا الحقيقة في كل شيء، وأن لا يأخذوا بكل ما يقال وإن هدَم العقل والدين” (دائرة معارف القرن العشرين) ـ مادّة الدجّال.

هذا ما قاله العلاّمة فريد وجدي في (دائرة معارف القرن العشرين)؛ حيث نجد أنّ الإصرار على الأخذ بالحرفية في هذه الأحاديث قد ضلّل حتى العلماء فجعلهم يقولون بالخرافة والخيال، أو يرفضون الأحاديث الصحيحة؛ وكلا الأمرين خطأ وضلال خطير ومبين.

ولو أردنا أن نبيّن جميع الغرائب والعجائب المرفوضـة بجميع المقاييس العقلية والعلمية والدينية وغيرها، والتي تتأتّى جميعها عن الإصرار بالأخذ بحرفية هذه الأحاديث الصحيحة، لَلَزِمَنا أكثر من كتاب لِيَفي هذا البحث حقّه؛ ولكننا نكتفي بهذه الأمثلة المبينة الواضحة للذين لا مانع لديهم من أن يفهموا! وندخل الآن في عمق البحث لنبيّن روعة البيان في هذه الأحاديث العظيمة لرسول الله التي جعلها الله له نبوءات خارقة تشهد على صدقه في عصرنا وزمننا الحديث هذا أيضًا، فتكون له عليه الصلاة والسلام إعجازًا نبويًا خارقًا يؤيّده ويؤكّده العلم والعقل[11] والدين، كما سنرى في الفصول القادمة من هذا الكتاب، بعون الله تعالى.

[1] كاتب من سورية.[2]- راجع كتاب “الإذاعة لأشراط الساعة” لمحمد صديق حسن الفنوجي البخاري، وكتاب “المهَدْي المنتظر” للأستاذ إبراهيم المشوخي ص 34.

[3]- سنعمد إلى حلّ هذه الإشكاليات في حينها ونبيِّن أنّ التناقض إنّما ينشأ عن الفهم الحرفي الخاطئ وأنّه ليس ثمّة تعارض أو تناقض في هذه الأحاديث.

[4]ـ ذكره الإمام أبو الحسن بن عبيد الله الكسائي في قصص الأنبياء، وأورده المقدسي في (عقد الدرر في أخبار المنتظر) ص:275.

[5]- قد يقول بعضهم أنّ النبي عيسى عليه السلام قد أحيى الموتى بإذن الله بمعنى أنّه قد أقام ميتًا من قبره. وهذا خطأ مبين، إذ أنّ إحياء عيسى للموتى لم يكن بأكثر من إحياء سيدنا محمد للموتى، حيث يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ  (الأنفال: 24). أي إذا أحياكم بنور الإيمان والتوحيد الذي نزل عليه، مصداقًا لقوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا (الأنعام: 123). فالموت هنا هو الكفر والضلال والإحياء هو بعث الإيمان في النفوس؛ وبهذا فإنّ جميع الرسل يحيون الموتى بإذن الله.

[6]- سيأتي شرح هذا الحديث في موضعه من الكتاب.

[7]- نحن لا نوافق على رأيه هذا بل نؤكّد صحّة هذه الأحاديث المتواترة وأنها قد جاءت في الصّحيح، ولكننا نرفض الفهم الحرفي لها ونؤكّد على أنّه لابدّ من فهمها من خلال أسس التأويل التي وضعها القرآن الكريم كما سنبيّن في الفصل القادم بعون الله تعالى.

[8]- ورد في الحديث الشريف (يقرؤه) وليس (يقرأها) والفرق بينهما مهمّ جدًا؛ والحديث عن الرسول قال إنّ الدجّال: (مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه “أي يتبيّنه” كل مؤمن،كاتب وغير كاتب) -البخاري ومسلم- ومعنى يقرؤه يتبيّنه وليس يقرأ أحرف الكلمة المذكورة.

[9]- قد برهنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب على ورود ذكر الدجّال في القرآن الكريم في أكثر من موضع باعتباره الناس وباعتباره آية من آيات الله، وإنّ قول العلاّمة فريد وجدي هنا أنّ أحاديث الدّجال موضوعة إنّما هو زعم باطل ويؤكّد ذلك ورود هذه الأحاديث في الصحيح وفي مصادر كثيرة مروية عن أوثق الرواة والمحدّثين.

[10]- العكس هو الصحيح بل هي إعجاز نبوي مذهل ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليم الخبير!

[11] نحن لا نرى تناقضًا يفصل بين العقل والدين، وإنما نورد هنا كلمة العقل للتأكيد ليس أكثر.

Share via
تابعونا على الفايس بوك