خطبة الجمعة 26/8/1994 مسجد الفضل – لندن

خطبة الجمعة 26/8/1994 مسجد الفضل – لندن

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة آل عمران:105)

بعد حمد الله تعالى والثناء عليه.. تلا إمام الجماعة الإسلامية الآية الكريمة ثم قال:

تفيد هذه الآية الكريمة التي تلوتها آنفا أنه يجب أن يكون من بينكم طائفة يخصصون وقتهم لدعوة الآخرين إلى الخير، وينصحونهم بعمل الصالحات، ويمنعونهم من ارتكاب الشرور؛ وتعِد هؤلاء بالنجاح في عملهم. ومن أسس إنشاء الجماعة الإسلامية الأحمدية وهدفها الأصيل هو أن ندعو الناس إلى الخير ونأمرهم بالمعروف وننهاهم عن الشر. وهذه هي الأسلحة التي ينبغي أن نتسلح بها لكسب معركة الدين. واستخدام هذه الأسلحة في حياتنا اليومية واجب منوط بنا.. فمن الضروري للغاية أن نقوم به ونوليه الأهمية العظمى التي يستحقها. يحسب بعض الناس أن استعراض الأسلحة هو المهم، أما أن يعتاد المرء عليها وينمي في نفسه المهارة والخبرة في استعمالها عندما يتطلب الوقت ذلك.. فهذه ليست من المهام التي يمكن أن ينجزها المرء بعرض الأسلحة. إن الذين ينمُّون في أنفسهم المهارة، وينتفعون بها ويجعلونها جزءا من حياتهم اليومية يستطيعون استخدامها عند الحاجة. لقد رأيت أناسا يحملون المسدس في أيديهم ويوجهونه نحو الهدف، وأناسا يحملونه ويلعبون به وقد يسددونه نحو هدف أو لا يسددون. فدعوة الناس إلى الخير لها جانبان هامان: أحدهما أن نتعلم ونتدرب على أسلحة الدعوة، والثاني أن ندعو العالم كله إلى الخير. والذين لا يكتسبون عادة استخدام هذه الأسلحة لن ينالوا الفرصة ولا المقدرة على الانتفاع منها. هذه الموعظة التي يعظنا بها القرآن الكريم على قدر عظيم من الأهمية.. أدركها سيدنا محمد المصطفى ووضحها لنا مثل الذين ركبوا سفينة فكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، فأراد هؤلاء أن يخرقوا السفينة ليحصلوا على الماء بدلا من أن يتحملوا مشقة الصعود إلى أعلى السفينة والحصول على الماء. فإن أهمل الآخرون وتراخوا في منعم من ارتكاب هذا الخطأ ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر لغرقت السفينة وهلك الجميع.

فيجب على أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تكون عادتهم التي يحافظون عليها دعوةَ الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. ولكن هناك احتياطات معينة لازمة لهذه المهمة، وهناك متطلبات معينة لهذا العمل.. إذا أُغفِلت لا يمكنهم تحقيق أهدافهم. وأهم مسألة أن كلمة “يأمرون وينهون” وإن كانت تحمل معنى الأمر.. إلا أن الرسول لم يأمر الناس إلى الخير بطريق إصدار الأمر.. ولكنه كان يفعل ذلك بالوعظ الخالص. وما كان يعاقب أحدا خالف دعوته، بل الواقع أنه كان يحزن على حال من يخالف دعوته بعد أن عرف الخير. فالأمر هنا يعني النصح والوعظ.. وأن يكون ذلك في تواضع وليس باستعلاء. وفي هذا السلوك النبوي يكمن عنصر النجاح.

إن الذين يعظون الناس بأسلوب مخالف لسلوك النبي .. يخلو من إخلاص وتواضع وحب عميق في قلوبهم.. لا تنجح عظاتهم ونصائحهم أبدا. والواقع أنها تؤدي إلى تأثير معاكس تماما. بعض الأشخاص يفعلون ذلك، ويتبعون هذا الأسلوب الذي يجعل الناس تكره تعاليم الدين وتنفر منها. ورأيناهم كثيرا ما يعظون الناس ويعيِّرونهم. يعظون المرء وكأنه خال من كل خير.. وكأن الواعظ تقي عظيم من الصالحين المقربين. ويعظون المرء وكأنهم ينظرون إليه من عليائهم، ويركلونه كأنه كلب ضال. ترون كيف يزجرون الكلب الضال ويطردونه إذا وضع فمه في إناء.. كثير من الأشخاص في جهلهم يفعلون ذلك عندما يرون أحد يقع في خطأ.. فيمقتونه ويعيرونه ويأمرونه ويحاولون وقفه عن فعل الخطأ.. ويحسبون أنهم بذلك قد أدوا حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا ليس أداءً لحق النصح.. بل هو عكس ذلك تماما لقد رأيت أناسا يعيرون الناس.. وتصلني رسائل طويلة تخبرني بأن خطأً ما يجري هنا وآخر يقع هناك.. لماذا لم توقفهم رسميا، ولماذا لا تعاقبهم؟ يقولون: لقد رأينا أشياء تحدث، ويستخدمون الخشنة الجافة معي.. وتحس عنصر الأمر في لهجتهم، وكأنهم يتعاملون معي بالأمر.. مثلا يقول أحدهم: السيدة البوسنية لا ترتدي الحجاب جيدا.. فلماذا تسمح لها بحضور البرنامج، لماذا لا تصرفها؟

إذا كان هذا أسلوب أمرهم لي.. فكيف سيكون مسلكهم مع قومهم ومع الآخرين؟ هؤلاء الناس يبذرون بذور الكراهية في المجتمع، وينحرفون عن مسلك النبي وبسلوكهم هذا لن يحققوا فلاحا أبدا. إن الوعد القرآني في قوله تعالى:

وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ..

الذين ينجحون في مهمتهم.. إنما هو لمن يعملون بحسب وصية الله تعالى لهم. فهناك أصول للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هناك قواعد لياقة – أو كما يقولون: إيتيكيت – لتقديم النصح يجب أن يتعلموها من النبي وتصوغوا سلوككم بحسب سلوكه. إن صبغ النصيحة بالمعايرة وأسلوب الأمر يفسد ويدمر النصيحة. أحيانا لا يدرك المرء أن هناك استكبارا وتعاليا من ناحيته، وأن نصيحته لم تكن إلا مجرد تعبير عن علوِّه وعظمته. وإذا كان هذا هو طريق النصح فإن مثل هذا النصح لن تكون له ثمرة طيبة أبدا. أما إذا أردت أن تعظ وتنصح بطريقة المصطفى .. بإخلاص، وبالحرارة المتقدة في القلب والروح.. إذا قدمت النصيحة هكذا فمن المحتم أن يكون لها أثر وتحدِث تغييرا.

ثم إن الآية القرآنية تقول يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ .. فمن يدعو إلى الخير لا بد وأن يُبدي هذا الخير في سلوكه، ويفيض الخير منه كإناء يطفح منه الشراب. في حين أنه إذا لم يكن ذلك الخير في الداعي إلى الخير.. فلن تكون لدعوته أي تأثير فيمن يدعوهم. قوله يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ له جانبان: فالذين يدعون الناس إلى الخير يحثهم ضميرهم أن يصححوا أنفسهم أولا. إذا اضطر الإنسان -بسبب مركزه- أن يدعو الناس إلى خير ما.. لن تبرح نقاط ضعفه تبرز أمامه؛ فلم لا تنظر إلى نفسك أولا وتبدأ بها وتصلحها؟

ولهذا تأثير آخر؛ فكيف يكون رد فعل من يسمعون نصحك؟ في بعض الأحيان يكون الداعي إلى الخير صالحا، ولكن بعض أهله أو أولاده أو أصدقائه غير ذلك.. فما هو الموقف الإسلامي نحوه في هذا الحال؟ كيف كان سلوك النبي ؟ إنه لم ينظرْ إلى أحد أبدا نظرة استعلاء وهو ينصحه. لقد حدث أن حاول أشخاص نصحَ النبي .. ليس مرة بل مرات، وهم يأمرونه بشيء يفضلهم فيه كثيرا. لقد أمره أحد اليهود ذات مرة أن يسدد له ديْنا كان عليه، وقال له: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطل. يعيِّر النبي وقومه من بني عبد المطلب بأنهم لا يسددون ديونهم ولا يردون حقوق الناس بل يماطلون فيها. ولما سمع أصحاب النبي هذا القول اشتد بهم الغضب، وهمّوا بتأديب هذا المتطاول على مقام الرسول ولكنه كفّهم عن ذلك، وطالبهم بالحلم، وقال: أجدر بكم أن تأمروني بحسن أداء الدين، وتنصحوه بحسن المطالبة. ثم سدد للرجل دينه على الفور. وزاد عليه نظير انزعاجه.

هناك مواقف في حياة النبي تلقى فيها وعظا ممن هم دونه بكثير، ولم يكونوا أنفسهم أهلا لوعظه. حدث أن رأى امرأة تندب ميتا فوعظها بالصبر وألاَّ تجزع فالتفتت إليه غاضبة وهي تقول: وماذا تعرف أنت عن الصبر؟ إن الصبر يعرفه من تعرضوا للمصائب؟ ولكن المصطفى لم ينهر مثل هذه المرأة، ولم يعيرها بمركزه.. ولم يقل لها: انظري إلى من تتحدثين. بل كان المصطفى في كل هذه الحالات متربعا على قمم الخير والأخلاقيات السامية. لم يرد على أحد أبدا ردا جافا، بل كان دائما يرد بصبر ورقة وعطف.

هذه زاوية أود أن أوجه أنظار الجماعة نحوها، وبخاصة جماعة ألمانيا.. فإذا قام أحد المسئولين في الجماعة تحت التزام واجبه.. وقدم لأحد نصيحة ودعاه إلى الخير، وربما كان الناصح نفسه لا يتصف بهذا الخير، وربما كان أحد أقاربه أو أصدقائه يعوزه هذه الناحية الطيبة.. فلا يكونن الرد عليه هجوما: لماذا لا تنظر إلى نفسك أو إلى صديقك أو قريبك؟ لماذا تدعونا إلى الخير ولا تنظر إلى أسرتك أو أولادك؟ هذا الجواب ليس موافقا للسلوك الإسلامي الصحيح. هذا موقف شرير ومسلك دنس.. يُدخل السموم إلى المجتمعات ويضيع النصائح الطيبة. الواقع أن هذه مسألة دقيقة من مسائل الوعظ. إذا كان المرء ملزما لأنه في موقع يجعل من واجبه أن يعظ، فيظن من يراه أن قد نسي نفسه ويعظ الآخرين. ولكن بقدر معرفتي بالنفسية البشرية أقول هذا تفكير خاطئ. فكثيرا من هؤلاء الواعظين الذين من واجبهم الوعظ تذوب قلوبهم أسى، ويدعون الله بحرارة، ويبذلون كل جهد ويبتهلون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وأخطاءنا، وخلصنا من العيوب التي نسعى لتخليص غيرنا منها.. وطهرنا منها يا رب. وهناك الآباء الذين يعظون أولادهم وينصحونهم.. هم أيضا فيهم نقاط ضعف، ويودون أن يخلصوا أبناءهم منها مع أنها موجودة فيهم أنفسهم، فإذا كان الأبناء عند كل موعظة من والديهم يلتفتون إليهم ويردون عليهم بأنهم هم أنفسهم لا يخلون من العيب.. فإن المجتمع العالمي بأسره سوف يضيع، ولن يكون لأحد فرصة للتربية داخل بيته.

وإذن.. فللتربية بعض المتطلبات المتعلقة بالتقوى، وفي هذه التقوى تأثير مساعد في التربية. عنصر التقوى مطلوب فيمن يتلقى النصيحة ويوجب عليه أن يتغاضى عن وجود عيب في الناصح له. عليه أن يحفظ النصيحة ومضمونها، فإذا كانت نصيحة طيبة صحيحة صرف النظر عن تعبير ناصحه.

في بعض الأحيان يمكنه أن يشير إلى هذا العيب ويطلب منه أن يسعى للتغلب عليه. لقد وضح لنا النبي في موضوع النصح المسائل الأساسية التي تقوِي تأثير النصيحة من جانبنا؛ وأخبرنا أن كلمة الحكمة ملك للمؤمن.. وهي جمَلُه المفقود.. فإذا أعيد إليه جمله المفقود فلا يهم من أعاده له.. لأن الشيء الذي أعيدَ مِلك له.. وعلى متلقي النصيحة ألا يعامل النصيحة بهذه الطريقة، بل عليه أن ينظر إلى النصيحة ويرى هل هي صحيحة أم لا.. فإذا كانت غير صحيحة تجاهلها؛ أما إذا كانت صحيحة يعير ناصحه.. وذلك لصالح المجتمع، لأنه إذا شاع بين الناس تعبير الناصحين كلما نصحوا لضاعت من المجتمع فضيلة النصح والوعظ. ولتذكر كل من يتلقى النصيحة أن تعيير الناصح شرٌ سوف يترتب عليه شر أعظم. ويجب اتباع أسلوب التواضع.. التواضع أفضل ما يتبع. وإذا كان الناصح نفسه لا يرقى إلى مستوى الخير الذي ينصح به.. فهذا لا يمنع أن يُشكر على نصيحته، بل يجب تقبلها بامتنان. يجب أن نمتنع عن رد النصيحة وتعيير الناصح بأنه أولى بالنصيحة.. ما دام نصحه صحيحا قوله خيرا.

يكتب إلي آلاف من الأحمديين بأنهم يلتزمون بتقديم النصح، ويتمنون أن يروا هذه الأمور الصالحة في أولادهم. ويعترفون: وفينا نقاط ضعف، وندعو الله ونبتهل، ونستحي من ضعفنا، ولا نستطيع أحيانا أن نتخلص من ضعفنا.. فساعدنا بالدعاء لنا فالناصح له وجه تراه به الدنيا ووجه آخر يرى به نفسه وكثير ما يبلل هذا الوجع عرقُ الخجل. فاتركوا أمره لله تعالى. وردوا عليه بكلمات حسنة وادعوا له. هكذا كان مسلك النبي ، وهذا هو المسلك الذي يفوز بالعالم، وهذا هو مسلك المصطفى الذي نرفع رايته. فافهموا وقدروا كل المسائل الدقيقة في فلسفة النصح، ثم انظروا كيف يمكن التغلب على كل نقاط الضعف وتحل محلها الخيرات. لقد علمنا القرآن الكريم أنه إذا وعظك واعظ وقدم لك كلمة خير فردها إليه بأحسن منها. إذا أهداك أحد هدية فأعطه خيرا منها وقال النبي إذا لم تستطيع أن ترد الهدية بمثلها فادعوا لمن أهداك حتى يحس قلبك بالرضا أنك أحسنت رد الجميل. من ينصحك يقدم لك كلمة طيبة، وردُّه بما يكسر قلبه مناف لتعاليم القرآن وآداب الإسلام. إذا نصحك ناصح فانظر أولا في قوله، فإن كان خيرا فواجبك أن ترد له كلمته الطيبة بكلمة أطيب.. لا أن تعيره وتؤلمه. وإذا قال امرؤ لك شيئا سيئا.. فإن سنة النبي تعلمنا إزاء ذلك، الصبر والاحتمال. في بعض الأحيان كان يرد النبي غيرة على الدين. أما في غير ذلك فقد كان حليما صبورا. وهذه هي التربة الصالحة لزرع الخير. إذا كان رد فعل نحو النصيحة هذه الصفات طيبا صارت التربة خصبة وأخرجت البذور محصولا طيبا. إذا كانت هذه الصفات متوفرة في الأرض فإنها لا تقبل بذور الشر، وتنبت فيها بذور الخير وتزدهر. والآن أشعر باهتمام من أجل تربة الجماعة الأحمدية، وأريد لهذه التربة أن تكون شديدة الخصوبة.. بحيث يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عادة عامة، ولا يخشى الناصح فيها أن يُرد بمعاملة جافة. بعض الناس يرد النصيحة بجفاء، ولا يرى إذا كان الناصح متصفا بما ينصح به أم لا.. ولا يتوقف عن معاملته الجافة حتى وإن كانت النصيحة طيبة. حدث أن سيدة أخبرت سيدة أخرى أن ابنها يقوم بعمل سيء ويجدر بك أن تكفِّيه عن هذه العادة القبيحة. هذه قصة حقيقة وليست مجرد مثال.. ويصلني كثير من مثل هذه الأحداث. فكانت النتيجة أن السيدة الثانية أغلظت لها القول: كيف تجرئين على انتقاد ابني والنظر إليه بهذه العين؟ ألا ترين العيوب في أولادك؟

هذا سلوك الجاهلين.. هذا هو الجهل الضار الشرير.. وفي مثل هذه التربة تنمو الأعشاب الضارة، ولا يتمكن نبات التقوى من النمو والازدهار. لكل تربة خصائصها وطبيعتها، وما تهيئ منها وأُعدَّ لنباتات الخير سوف تزدهر وتنمو بذور الخير فيها. فعليكم أن تُعّدوا التربة وتجهزوها وتزيلوا منها الأعشاب الضارة وتحرثوها.. ومثل هذه التربة تعطي أطيب محصول وأحسن ثمرات وتكون مصدر خير عميم. وهذا هو مَثل الجماعة الإسلامية الأحمدية، وهو المثل الذي بيّنه لنا القرآن الكريم.. وقال إن مثلكم كشجرة طيبة تعطي ثمارا طيبة. إنه لا يضرب لنا هذه الأمثلة لنتعجب منها، وإنما لتخلقوا في أنفسكم هذا الجو، فإذا وُعظتم بشيء فاحنوا رؤوسكم بتواضع، ولا تقولوا لمن ينصحكم من أنت أو كيف تتكلم معنا.

كما أن من المهم لكل ناصح أن يكون وقت النصيحة خاليا تماما من روح الاستهزاء، ولا يشوبه أي لمحة من الاستعلاء، ينبغي أن يقدم نصيحته بتواضع ومحبة واحترام ويسعى ليكون من هؤلاء السعداء الذين قال عنهم القرآن المجيد “وأولئك هم المفلحون”، ويدخل في زمرة من وعدهم الله تعالى بأن يحقق لهم فضله.

ويجب على الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تعمل بحسب الشروط التي وضعها القرآن المجيد، وفي هذه الأيام بصفة خاصة – نحن بحاجة إلى ذلك.. لأن جماعة ألمانيا بفضل الله تعالى تكبر وتزدهر وتدخلها أغلبية من أمم أخرى.. فإذا وعظتموهم ودعوتموهم إلى الخير.. فليكن ذلك بالمحبة، وتعلمونهم الدماثة والأناقة والقيم الإسلامية. وإذا لم تتعلموا سلوككم في أداء النصح من النبي الأكرم .. فلن تكون لديكم القدرة على تقديم نصائح طيبة. لقد وضعت أمامكم أمثلة من هذه الأسلحة، فإذا لم تتعلموا وتتدربوا في بيوتكم فلن تكون خبرتكم في مستوى العادة، لقد كان النبي يعظ فيمن حوله.. ولكنه بدأ وعظه ونصحه لزوجاته وأولاده وأقاربه، فأصبح النصح كأنه فطرة فيه، يعظ الناس من أجل الله وحده، وكان لوعظه هذا أثر عميق. عليكم أن تحتضنوا هذه القيم وسلوك النبي .. وتحدِثوا ذلك التغيير الصالح الطاهر في العالم، لأن هناك كثير من الرجال والنساء والأطفال الذين جاءوا من مختلف بقاع الدنيا.. معاييرهم ليست عالية، وسلوكهم يتسم بالخشونة، وطباعهم يعوزها اللطف والدماثة. هكذا كان محيطهم وبيئتهم وإذا استمرت حياتهم هكذا فإنهم يدمرون أنفسهم والجماعة.

القادمون إلى الأحمدية يتطلعون إليكم بالآمال العالية، فوطنوا أنفسكم لتعتادوا تقديم النصيحة في محيطكم وفي بيوتكم، وتدعو الناس إلى الخير وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.. وعندئذ تصبح بيئتكم محترمة، وعندما أقول محترمة أعني “مؤدبة”.. فإن الأحاديث النبوية التي تتناول حسن الخلق تأتي تحت عنوان كتاب الأدب، يعني حسن السلوك في الحياة اليومية، والجماعة الأحمدية في حاجة كبيرة إلى رفع معايير الأدب.

منذ أيام عيَّرني أحدهم في إنجلترا بأن هناك عيبا في جماعة ألمانيا، قال أنت تشيد بجماعة ألمانيا وشدة إخلاصهم وتقواهم، وأنهم يتقدمون باطراد في تضحياتهم.. وبحسب معلوماتي فإن فيهم أشياء كثيرة تحدث في بيوتهم وهي دون المستوى.. ولا يراعون الأدب والاحترام وليس محيطهم مثلا طيبا.

استمعت إلى تعبيره بصبر واحتمال، ودعوت الله تعالى: يا رب، امنحني القوة لأبيِّن لجماعة ألمانيا أن أي عيب فيهم يكون مصدر تعبير لغيرهم. ولو كان ما قيل لي صحيحا لوجب علي أن أخبر الجماعة مهما كان حالهم.. فإنهم في عيني على مستوى أرجو وأدعو الله تعالى أن يضعكم فيه دائما. أما عيبكم الخفي عن عيني ويراه غيري بعينه الناقدة.. فأدعو الله تعالى أن يزول ويختفي منكم كأن لم يكن أبدا، ويطهركم بحيث تمحو محاسنُكم كلَّ سيئاتكم. وهذا ما يعلنه القرآن الكريم في قاعدة

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ

وإذا صدقت آمالي، وإني على ثقة من أنكم تستحقون أن تكونوا محط الرجاء.. فلسوف تُذهب حسناتُكم سيئاتِكم، وينتعش جسدَ الخير بكم، إنه يصحو من الداخل فقط.. لأن النصيحة الخارجية لا تستطيع أن تمحو بالكيفية التي يعمل بها الضمير الباطن ويتغلب على المساوئ. فهناك إذن حاجة إلى اليقظة الداخلية.. كي تزداد نواحي الخير فيكم وتتغلبوا على عيوبكم.

وإذا سرتم في هذا الدرب فإن أول نصيحة لكم توجهونها إلى أنفسكم. ومن هنا سوف تتعلمون كيف تستخدمون هذا السلاح، وكيف تغوصون داخل نفوسكم، يجب أن تفتشوا في نفوسكم لتجدوا ما فيها من عيوب، ثم تحاولوا التغلب على هذا العيب أو ذاك، ولا تنفكوا تحذِّرون أنفسكم من أن هذا العيب سوف يرفع رأسه، وينبغي التغلب عليه، وتتغلبون عليه مستعينين بالصبر والصلاة. وإذا فعلتم ذلك وثابرتم عليه فرجائي في الله تعالى أنكم ستحدثون هذا التغير الطيب الصالح في أنفسكم. إن الواعظ الذي يعظ نفسه، ويتعلم سلوك الوعظ يكون أفضل واعظ للآخرين. هذا هو الموضوع الذي أُخبركم به بصفة خاصة. إذا نصحتَ نفسك فلن تقدم نصيحة سيئة لها. وما السبب في ذلك؟ السبب أنك تحب نفسك، وهناك انسجام بينك وبينها.. لأن الناصح هو نفسه المنصوح، وليس بينها انفصال، وإذا فهمت ذلك.. فعندما تعظ نفسك لن تَكره وعظك. وإذا تفكرت في هذا فسوف تتعلم المسلك الصحيح لوعظ الآخرين، سوف تعرف بعض عيوبك، وسوف تواظب على إيقاظ نفسك وتنصحها.. ليس بكلمات مسيئة مهينة.. وإنما بالاضطراب والاستحياء منها، وبالحياة بحيث لا تنفر نفسُك من وعظك لها وتتمرد عليه. ثم تدعو الله تعالى وتسأل غيرك ليدعو لك، وبالمضي المتواصل في هذا الطريق.. لأنك تريد التخلص من ضعفك وعيوبك حتى تزول منك تماما. إنك لا تستطيع أن تهرب من نفسك. هذه هي الطريقة الناجعة التي يمكنك أن تزيل بها عيوب الآخرين. عندما تعظ غيرك انتفع بتجاربك الشخصية مع نفسك. عندما تغوص في أعماقك تذكر هذه النقاط، وانصح للآخر بحيث يحسب أنك لست شخصا مختلفا منفصلا عنه.. وإنما أنت جزء منه.. وذلك بالتعاطف العظيم المخلص، وبالمحبة تعطي نصيحتك. وإذا لم يتقبلها منك فلا تتركه.. ولا تغضب.. تماما كما تفعل مع نفسك إذا لم تعمل بنصحك.. فأنت لا تغضب منها بل تستمر في عملك معها بجد ونشاط.

إن في قول الله تعالى فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ نصيحة لك أن امضِ في الوعظ ولكن على ضوء وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .. من الذين قال الله تعالى في حقهم أنهم يتواصون ويتناصحون بصبر واحتمال ومثابرة، فكما تكون مثابرا مع نفسك ثابر مع الآخرين ولا تتوقف عن وعظهم بالمحبة واللطف. ولتترقب الوقت الذي يكون فيه المرء مستعدا روحا وقلبا لاستقبال النصيحة. المرء لا يبقى على حال واحد في كل الظروف. أحيانا لا تؤثر النصيحة.. ولكن إذا أصاب المرء حالة حزن فإن النصيحة تعمل فيه. قد لا تصلح العظة في الأحوال العادية ولكن في ظروف الخوف تصلح وتفيد. الظروف تتبدل.. وكذلك الناصح يختار الظرف المناسب. إذا تفكرت في نفسك أدركت أن المرء لا يستطيع التخلص من بعض العيوب، ولكن عندما تصيبه صدمة أو حزن، أو مشكلة يواجهها، وفي ظروف الخوف.. يعاهد الله تعالى ويقول يا رب، لو أنجيتني من هذه الورطة فسوف أتخلص من كذا وكذا من عيوبي، وأقلع عن كيت وكيت. هناك أحداث كثيرة روَتها الأحاديث النبوية الشريفة نتعلم منها أن الوعظ يكون مؤثرا في ظروف معينة أكثر من غيرها.. وانتهاز هذه الفرص فنٌّ أيضا. يجب مراعاة حال المرء قلبا وعقلا ومزاجا.. لأنه يتبدل من وقت لآخر. وإذا أخطأت الاختيار فإن النصح لا يجدي. النصيحة الطيبة الصالحة تتميز بأنها  التي تقدَّم في الوقت المناسب.. وهي في ذلك كالبذور التي ينبغي أن تبذر في الفصل المناسب، إذا وضعت البذور في التربة في زمن ما فإنها تثمر وتعطي محصولا جيدا، ولكن نفس البذور ونفس التربة لا تعطي هذا المحصول لو أن الوقت كان غير مناسب. الخبراء يعرفون، وكأن التربة تعرف.. أن هناك فرقا وإن لم يتبينه الإنسان العادي. هذه أيضا فطرة النفس البشرية، وتختلف الظروف بحسب الشعوب والأفراد والأوقات.. وهذه حصيلة الدراسة العميقة. وفضلا عن ذلك فإن الله تعالى قد أعطى الإنسان هذه الملكة التي يعرف بها مزاج غيره -حتى وإن لم يدرك دقائق ذلك من الناحية السيكولوجية- ولكنه يتعرف على المزاج ويعرف كيف يتعامل معه. قد يرى علامات الحزن في الوجه ولا حاجة إلى أن يكون فيلسوفا ليعرف هذه العلامات.. ويستطيع أن يقرر هل من المناسب أن يروي له نكتة أم لا.. لأن أسباب الحزن تختلف.. وأسباب الهمِّ تتباين.. ويمكن للمرء أن يميز الأسلوب المناسب والكلمات اللائقة. كل هذه الأمور من عناصر النصيحة الجيدة. أحيانا يكون لوجود شخص معين أو لغيابه أهمية كبيرة. إذا قلت شيئا في حضور عدد كبير من الناس فقد يكون له تأثير مختلف عما لو أنك قلته مع الشخص على انفراد.

كتب لي أحدهم من ألمانيا عن لقاء دَعوا إليه عددا من الأتراك ومعهم بعض شيوخهم.. وعندما شرعوا في التباحث والحديث.. طلب الشيوخ الانصراف، وانصرف معهم الآخرون. لماذا؟ لأن هؤلاء الشيوخ لا يعرفون الإجابة عن الأسئلة المطروحة، وهذا مثال يبين أهمية الدراسة العميقة لموضوع العظة أو النصيحة. أنا لم أطلب منهم أن يدعوا الشيوخ الأتراك ويتناظرون معهم على مشهد من أتباعهم.. ولا يمكن أن أفكر في عمل ذلك لأني أعرف المشائخ وغرورهم وكبرياءهم، فهم لا يتمتعون بمنزلة عالية من التقوى، وإذا حدث أن عجزوا عن الجواب بمرأى من أتباعهم فلا بد أن ينصرفوا على الفور. وإذا سمعوا الجواب من القرآن الكريم وأفحمهم فلا يقبلوا النصح بسبب غرورهم.

وإذن، لا بد عند تقديم النصيحة من مراعاة هذه النقاط الحكيمة.. لأن النصيحة نفسها تنطوي على عنصر يثير رد فعل مضاد طبيعي في المرء. لذلك ينبغي تقديم الوعظ بحيث لا يدع مجالا لرد فعلٍ سلبي فيرفضه المرء بدلا من تقبله. هكذا كانت سنة النبي ، وعليكم أن تتبعوا هذه

السنَّة.. وعندئذ سيكون لعظتكم تأثير غير عادي.. حتى وإن كانت خالية من الجمال اللفظي وليس لها غلاف من كلمات أنيقة. إن المرء عندما يسمع نصيحة صادقة بحسب سنة النبي فإنها تحدث فيه تغييرا عجيبا طاهرا..

ويقول المرء لنفسه: لم تكن كلماتها متأنقة ولكنها صادقة. إن النصيحة الصادقة لها خاصية النفاذ والتغلغل إلى النفس.. وليس من الضروري أن تكون بحسب قواعد الفصاحة وصناعة الكلام. إن الكلمات البسيطة الصادقة تنفذ إلى القلب وستكون أبلغ وأسمى من كلمات الفصحاء.

هكذا كان مسلك النبي .. بعظة بسيطة مباشرة يكون لها تأثير.. تنبعث من القلب وتدخل إلى أعماق القلب. وعندما أقول تنبعث من القلب إلى القلب فهذه كانت خاصيتها .. لأنها لو لم تنبعث من القلب لا تكون لها ميزة القبول لدى القلوب. كانت نصائح المصطفى تنبعث من القلب، وكان من الضروري أن تصل إلى أعماق القلب.

ثم هناك نقطة جوهرية أخرى.. فكل نصيحة للمصطفى كانت تنبع من سلوكه ومن خلقه.. ومن ثم كانت تفيض من شخصيته وتؤثر على شخصيات الآخرين . لم يحدث قط أن قدم نُصحا -مهما كان بسيطا- إلا وكان جزءا جوهريا من خلقه، ولم ينه عن عيب إلا وكان بنفسه طاهرا منه. وإذن، كانت نصيحة النبي تتميز بأمرين: أولا- أنها تخرج من قلبه.. ولا بد أن يتشربها قلب سامعها، وثانيا- أنها كانت تنبع من شخصيته ولا بد أن يكون لها تأثير هام يسيطر على شخصية الآخرين.

ولسوف أتمم كلمتي هذه بحديث للنبي قال فيه أن للمسلم على المسلم خمس حقوق: رد سلامه، وعيادته إذا مرض، واتباع جنازته، وإجابة دعوته، وتشميته إذا عطس. وفي رواية أخرى: تحيته عند اللقاء، وتقديم النصيحة له إذا طلبها.

لعل معظمكم عندما يسمع هذه العظة النبوية يفكر في أنها أمور صغيرة..

ويتساءل ما هي أهمية اتباعها، وما هو التغيير الذي يطرأ على المجتمع من العمل بها؟ ولو أنكم تفكرتم في كل عنصر من عناصر هذه النصيحة لأدركتم أن هذه من العظات التي تحدث ثورة بنّاءة في المجتمع.

العنصر الأول في النصيحة هو رد السلام.. ومن الطبيعي إذا قال لك أحد “السلام عليكم” أن ترد عليه وتقول “وعليكم السلام”.. ومع ذلك يعظنا النبي أن رُدُّوا السلام. كان المصطفى يرد السلام بأسلوب يجعل منه دعاء مجسّما. لم يكن يقول “وعليكم السلام” بطرف لسانه.. بل يجب أن نتعلم ونعرف كيف كان يقولها. أحيانا يرد أحدهم السلام بدون تفكير، وربما لا ينطبق بالجملة تامة، بل يغمغم بها بسرعة وكأنه ينظر من عليائه إلى من هو أدنى منه. ولكن النبي كان يتلقى السلام بوصفه دعاء ويرده دعاء. فإذا تلقيت تحية السلام من أحد، وأظلك سلام الله تعالى.. فإنك تكون تلقائيا في حماية من شره.. لأن من يدعو لك بالسلام لا يمكن أن تكون به رغبة في إيذائك. بهذا المفهوم، إذا حييت أحدا أو رددت تحيته بخلوص القلب والعقل.. فإنك لا تفكر مطلقا في أي شر أو سوء نحو هذا الشخص، وإلا كانت كلماتك نفاقا كبيرا. لذا حث النبي المسلم على أن يرد تحية أخيه المسلم بالسلام.

ثم أوصى النبي بزيارة المريض. وفي أقوامنا هذه الزيارة ليست واجبة.. اللهم إلا إذا كان من الكبار أو الأغنياء أو الوجهاء. ولم يقل النبي زوروا أصدقاءكم أو كبراءكم.. بل قال إن حق المسلم على المسلم أن يزوره. فمن لا يزور الفقير الضعيف الذي لا سند له ولا صلات.. وإنما يقصر زيارته على الكبار، فذلك لا يعمل بوصية النبي . موضوع الحديث إذن هو مسئولية المسلمين جميعا ألا يتركوا مسلما من بينهم دون مساندة وزيارة. فإذا اهتممتم بهذا الأمر وجد الكثير من الناس سلام القلب والعقل.

واليوم ثمة ضعف في هذه الناحية، وتصلني الرسائل من الهند وباكستان وبنجلاديش وأفريقيا وغيرها، يقول المرسل إني ضعيف لا سند لي، وأعاني ولا أحد معي. ويقول البعض لا أحد معي يرعاني سوى الله تعالى. وأقول لهؤلاء .. ما دام الحال كما تقول فأنت جدير بالتهنئة لأن عندك كل شيء. إذا كنت بقولك هذا تريد أنه ما دام الله معك فلا بأس من تركهم إياك.. أما إذا أردت القول بأن تركهم لك جعلك وحيدا لا أحد معك.. فقد ألحقت بنفسك ضررا كبيرا.

وبعد ذلك أنصح الجماعة.. إذا عرفتَ أحدا مريضا أو ضعيفا فاذهب لزيارته.. ولسوف تنالون بفضل الله تعالى نتائج طيبة للغاية، إن الشخص الوحيد المحروم.. يرى الناس لا يهتمون به لأنه لا وزن له .. فإذا وجدكم تزورونه دبّت فيه روح الثقة والشجاعة فجأة.. ويحس كل فرد في الجماعة الإسلامية الأحمدية بالقوة والانتماء، ويكون في ذلك ضمان ألا يبقى أحد من الجماعة وحيدا. إن هذه النصيحة النبوية تمنح المسلمين فهما وتقديرا.. لأن بمثل هذا السلوك لا يحس أفقر إنسان بالوحدة.. وهناك منافع أخرى كثيرة.

ولا يعني هذا أن تزوره وتسأله عن حاله ثم تنصرف. تعلمت من خبرتي أن زيارة الفقير تكشف أمورا أخرى. إن في كلمات النبي قدرا عظيما من الحكمة. كم من مرة استدعيت لزيارة مريض لا يجد طبيبا..فأذهب إليه بفضل الله تعالى.. ثم اكتشف أن الرجل يعاني من مشكلة الغذاء. ليس المرض وحده هو المشكلة.. بل هناك طريقة حياته ومستوى  معيشته، والحشرات والذباب والبعوض، والأولاد تبكي من الجوع، زيارة مثل هذا المسكين لا يكفي فيها السؤال عن حاله ثم الانصراف. بل ينبغي زيارته من القلب، والمسلم الصادق يعمل من ناحيته على أن يفي له بحاجاته.. ويفعل ذلك من أعماق قلبه. هذا هو الهدف من التعليم النبوي بعيادة المريض.. لأن الفقير المريض إذا لم يجد من المجتمع مساندة ورعاية رقد ينتظر أجله.. وعلى المسلم أن يكفل له حاجته. كانت صحابة المسيح الموعود.. إذا زار أحدهم مريضا قضى له مطالبه، وأبلغ الجماعة بحاله، وأخطرهم بما هو في حاجة إليه. كل عضو في المجتمع حق عليه.

ثم أوصى المصطفى بتشييع الجنازة. تسير جنازة الفقير مع رجلين أو ثلاثة.. أما العظيم فتجتمع الناس زرافات وراء جنازته. رأيناهم ينادون في المسجد أحيانا يسألون المصلين كي يشتركوا في الصلاة وتشييع جنازة.. وقد شهدت ذلك بنفسي.. كان المصلين بعد صلاة الظهر ينصرفون لأن الميت ضعيف غير معروف. إذا صلوا عليه لم يشيعوا جنازته ولم يشهدوا دفنه. ولكن النبي كان عطوفا ورفيقا على المجتمع المسلم، وكان يلقى بنظره على حاجة كل إنسان.. ليس الأحياء والمرضى فحسب .. بل وبعد مفارقة الحياة.

أذكر تلك الأوقات التي كان فيها الشباب المخلص يهتم بحضور الجنازات ويحقق وصية النبي ويدرك قدرها. وهؤلاء هم القلة الذين يقومون بفروض الكفاية عن الأمة. عليكم أن تطبعوا ذلك في قلوبكم وعقولكم.. إذا مات الفقير فله حقوق عليكم، وهي حقوق واجبة على أمة محمد . حق لكل فرد -وإن كان أفقر الناس وأضعفهم- إذا مات أن تهتموا به. إذا نسيتم رعايته في حياته فامنحوه هذا الحق عند موته. الإنسان الذي يرعى الفقير المريض يرعاه إذا مات. ومن يتخلى عن الفقير حيًّا فإنه يتخلى عنه ميتا. لذلك عليك أن تشيّع جنازة المسلم حتى وإن كان لا تربطك به معرفة أو صلات.

كل هذه النصائح النبوية توجهك نحو هذا القطاع من المجتمع.. القطاع الأفقر والأضعف. لذلك يوجب النبي على المسلم أن يقبل دعوة الفقير والمسكين. إذا لبى دعوة الغني للطعام الشهي والشراب الهني فما الفضل والخير في ذلك؟ يجب أن تلبي دعوة أخيك الفقير، وإن لم تتوقع أن تجد عنده ملذات الطعام والشراب. لقد ذكرت لكم في الجمعة الماضية حديث النبي الذي يحثنا على قبول الدعوة.. ولو لتناول مرق عظم شاة. هذا الموضوع يهدف إلى مساندة من لا سند لهم. وفي قبول دعوتهم تطييب لنفوسهم وجبر لقلوبهم. لهذا أمرنا النبي ألا نرفض دعوة أفقر الناس. وإذا اضطرتك الظروف فلا بأس من الاعتذار.. وإن كان الأمر في هذا الحال يبدو وكأنه تضييع لحق مسلم.

ثم نصح النبي بتشميت العاطس. إذا عطس أخوك المسلم ثم حمد الله تعالى فقل له “يرحمك الله”. يتعجب بعض الناس من أن الإسلام يذكر هذه الأمور البسيطة. ولكن الواقع أن الحياة تكمن في هذه المسائل البسيطة. وإذا تفكرت في موضوع العطس لعرفت السبب في اهتمام النبي به ليس هناك دعاء مأثور علمنا إياه النبي ليدعو به المرء عندما يتثاءب، ولكنه وصانا بحمد الله تعالى ثم التشميت بعد العطاس. لقد تقدمت العلوم والاكتشاف وتبيّن أنه إذا دخل جسيم صغير في الممرات الأنفية وتسرب إلى المخ أحدث ضررا بليغا.. ولذلك تقوم أجهزة الجسم بعملية العطس، حيث يخرج الهواء بسرعة وقوة كبيرة لطرد هذا الجسم. وقد اندهشت عندما قرأت في مجلة علمية أن سرعة اندفاع الهواء عند العطس تبلغ مئات الأميال في الساعة.. ذلك للتخلص من هذا الدخيل الذي يعرض الإنسان لخطر جسيم. ويلاحظ أيضا أن المرء لا يستطيع أن يوقف العطس.. ولو حاول كتمه بمنديل أو غيره.. لأن القوة الدافعة له كبيرة جدا. ولهذا السر العميق علمنا النبي مما تعلمه عن ربه .. أن المرء يتعرض لهذا الخطر ويجتازه بفضل الله تعالى. وهذا يقتضي أن يحمد الله تعالى على هذا الفضل، فيقول العاطس: الحمد لله أي أحمد الله الذي حماني ونجاني. وإذا سمعه أخوه المسلم يحمد الله دعا له قائلا:”يرحمك الله” .. أي عسى الله تعالى أن يشملك دائما برحمته، وكما رحمك هذه المرة يرحمك في المستقبل أيضا!

قد يبدو هذا أمرا بسيطا، ولكن إذا تأملت فيه وجدت فيه كنزا من الحكمة. يتعرض المرء في حياته إلى الخطر آلاف المرات، وقد لا يشعر به، وينجيه الله تعالى منه. فإذا أدرك أنه قد تعرض لخطر ونجاه الله منه.. فلا أقل في هذه المناسبة من أن يقدم الشكر لله جل وعلا، وينتبه إلى التغني بحمد الله والثناء عليه، وأن يشارك الحاضرون في هذا بالدعاء أن تستمر رحمة الله تعالى تتنزل عليه.

لقد اخترت لكم هذا الحديث الشريف كمثال لدعوة الناس إلى الخير. ومن الدعوة إلى الخير أنك إذا سمعت بأمر من الخير فبلغه للناس. ونصيحة النبي مفعمة بالحب، فبلغ نصائحه لأصدقائك ومعارفك، ولأسرتك وأولادك ولكل من حولك. نسأل الله تعالى أن يقدرنا على فعل ذلك. وأؤكد لكم أنكم إذا اعتدتم ما بينته لكم.. وشرع كل واحد منكم في رحلة النصح والوعظ لنفسه أولا.. ثم تنمو وتزدهر إلى ما حولك، وتفعل ذلك بالحب والموعظة الحسنة .. فلسوف ييسر الله لكم لك هذه المسئولية.. مسئولية تعليم الناس وتربيتهم.. تلك المسئولية التي تنمو وتزداد باضطراد كل يوم في سرعة كبيرة.. تثير الاهتمام والقلق.. أن كيف نفي بمتطلبات هذه المسئوليات. لقد كانت سنة النبي أن يقدم نصيحته في كلمات بسيطة مباشرة.. فأحدثت انقلابا عظيما. ولا تزال نصائحه وعظاته تؤثر في قلوبكم وفي قلبي.. ويجب عليكم أن تتبعوا هذا السبيل وتسلكوا فيه، وتشربوا من نبع الطهر والصفاء هذا.. وترووا به ما حولكم.

كان الله تعالى معكم، ويرفع قدر آمالكم وتطلعاتكم، ويجعل لكلماتكم أثرا طيبا نافذا إلى القلب.. كما كانت كلمات سيدنا ومعلمنا المصطفى ، وأن تخرج نصائحكم من أعماق قلوبكم ومن صادق شخصياتكم وأخلاقكم.. فتتغلب على قلوب العالم وعل أخلاق الدنيا، اللهم حقق لنا ذلك. آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك