كيف السبيل إلى الروحانية الحقيقية؟

اعلموا أن في هذا العالم –وهو عالم الأسباب- توجد علة لكل معلول، ومحرك لكل حركة، وطريق لتحصيل كل علم.. يسمى الصراط المستقيم. ولا يوجد في الدنيا شيء يناله الإنسان بدون العمل بالقوانين التي وضعها الله القدير منذ الأزل. إن النواميس الطبيعية تشهد بأن تحقيق أي غرض مرتبط بصراط مستقيم، وعليه يتوقف الوصول إلى ذلك الغرض. فمثلا لو كنا في غرفة مظلمة واجتجنا إلى ضوء الشمس.. فإن الصراط المستقيم لذلك هو أن نفتح النافذة المواجهة للشمس.. فإذا ضوء الشمس يغمر الغرفة ويضيئها لنا. كذلك لا بد من وجود نافذة لنيل بركات الله الحقيقية اليقينية، ولا بد من طريق معين نحصل به على الروحانية الخالصة. أجل، إن ذلك الطريق هو أن نبحث للأمور الروحانية عن صراط مستقيم.. تماما كما لا نزال نبحث عن طرق سليمة للنجاح في أمور حياتنا كلها.

ولكن هل ذلك الطريق يعني أن نتحرى الوصال بالله تعالى.. معتمدين فقط على قوة عقولنا، أو على ما تخترعه من عند أنفسنا؟ هل يمكن لقوة منطقنا وفلسفتنا وحدها أن تفتح علينا أبواب الله التي يتوقف انتفتاحها على يده القوية؟ ألا فاعلموا يقينا أن هذا غير صحيح بتاتا. إننا لن نستطيع مطلقا أن نحظى بوصال ذلك الحي القيوم يوسائلنا المجردة، وإنما الصراط المستقيم الوحيد في ذلك.. هو أن نكرس حياتنا وجميع قوانا في سبيله أولا.. ثم لا نبرح ندعو حتى نجد الله بمساعدة منه عز وجل.

دعاء رائع

إن أحب دعاء يعلمنا الطريق الأنسب للسؤال، ويرينا صورة الابتهال الروحاني الفطري عند السؤال.. هو ذلك الدعاء علمنا الله إياه في مستهل كتابه المجيد.. أي دعاء سورة الفاتحة وهو:

(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين).. كل المحامد الممكنة هي لله خالق كل العوالم وحافظها.  (الرحمن الرحيم).. الذي هيأ لنا أسباب رحمته حتى قبل أعمالنا، ثم –بعد أعمالنا- يجزينا عليها برحمته.

(مالك يوم الدين).. هو وحده مالك يوم الجزاء، ولا يفوض هذا الأمر إلى يد أحد سواه.

(إياك نعبد وإياك نستعين).. يا من تجمع في ذاتك كل هذه المحامد.. نعبدك ونسألك وحدك التوفيق في كل عمل. إن الاعتراف بالعبودية بصيغة الجمع هنا نظرا إلى قواه الباطنية إنما يعني أن جميع قوانا منهمكة في عبادتك، وخاضعة على بابك. فالإنسان –نظرا إلى قواه الباطنية- يصبح بمثابة جماعة وأمة. وهكذا فإن سجود جميع القوى لله بهذا المعنى هو تلك الحالة التي تسمى “الإسلام”.

(اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم).

دلنا على صراطك المستقيم وتبتنا عليه، ثم دلنا على صراط القوم الذين أنعمت عليهم وأكرمتهم، فأصبحوا موردا لفضلك وكرمك.

(غير المغضوب عليهم ولا الضالين).. واحمنا من سلوك طريق قوم غضبت عليهم ولم يستطيعوا الوصول إليك، وإنما ضلوا سبيلك.

(آمني).. أي يا رب حقق لنا هذا.

تبين لنا هذه الآيات أن نعم الله تعالى –التي تسمى “فيوضا” أيضا –لا تتنزل إلا على أولئك الذين قد ضحوا بحياتهم في سبيل الله، ونذروا كل وجودهم لأجله، وتفانوا في مرضاته، ثم ما برحوا يدعون.. كي يسعدوا بكل ما يمكن أن يعطى الإنسان من النعم الروحانية.. من قرب الله ووصاله ومكالمته ومخاطبته. ثم إلى جانب هذا الدعاء يعبدون الله بجميع قواهم، ويجتنبون الذنوب، ولا يبرحون العتبة الربانية، ويحمون أنفسهم من السيئة بأقصى جهدهم، ويبتعدون عن سبل المغضوب عليهم. وبما أنهم يبحثون عن الله تعالى بهمة عالية وصدق لذلك يجدونه، ويسقون من كؤوس المعرفة الإلهية الحقيقية.

ضرورة الاستقامة الكاملة

إن الاستقامة المذكورة في هذه الآية تشير إلى أن الفيض الحقيقي الكامل الذي يوصل الإنسان إلى العالم الروحاني إنما يتوقف حصوله على الاستقامة الكاملة. والمراد بالاستقامة الكاملة حالة من الصدق والوفاء لا يضرها أي ابتلاء بتاتا، أي هي صلة متينة لا يمكن أن يقطعها السيف، ولا تحرقها النار، ولا تضعها أية آفة أخرى ، ولا يصرمها موت الهوان والذلة، ولا يفزع قلبه القتل ولا المظالم المروعة. إن هذا الباب ضيق جدا، وإن هذا الطريق وعر للغاية.. ما أشد وعورته!! آها وألف آه!!

وإلى ذلك المعنى يشير الله جل شأنه بقوله: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة 24).

توضح هذه الآية بجلاء أن الذين يحبون الأقارب والأموال على حساب مرضاة الله هم الآثمون في نظر الله تعالى، والهالكون لا محالة.. ذلك لأنهم آثروا على الله غيره.

فهذه هي المرتبة الثالثة التي يصير فيها ربانيا من يبتاع في سبيل الله آلاف البلايا، ويميل إلى الله بصدق وإخلاص بحيث لا يبقى له أحد سواه، وكأن الجميع دونه قد ماتوا. فالحق أننا لن نرى الإله الحي ما لم تمت نحن. إن يوم تجلي الله هو ذلك اليوم الذي يطرأ فيه الموت على حياتنا المادية. إننا عميان ما لم نصبح عميانا عن رؤية غير الله، وإننا أموات ما لم نصبح كالموتى في يد الله. فإذا ما استوى وجهنا تجاهه تماما ظفرنا حينئذ بالاستقامة الحقيقية التي تغلب الشهوات النفسانية كلها. أما قبل ذلك فلا. وهذه هي الاستقامة التي تجلب الموت على حياة يعيشها الإنسان لنفسه.

إن استقامتنا هي كما يقول سبحانه: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) (البقرة 113).. أي ضعوا رقابكم بين يدي. وهكذا سنتكمن من الوصول إلى درجة الاستقامة إذا ظلت كل جارحة من أجسامنا، وكل قوة من نفوسنا تعمل في سبيله تعالى، وأضحت حياتنا وموتنا له وحده، كما يقول سبحانه: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (الأنعام 163).

(فلسفة تعاليم الإسلام، الترجمة العربية ص 74-78، طبعة 1997، مطبعة رقيم ببريطانيا)

Share via
تابعونا على الفايس بوك