ماهية البركة في شهر بركات الدعاء

ماهية البركة في شهر بركات الدعاء

سامح مصطفى

كاتب وشاعر
  • ما مزية رمضان وفضله على ما سواه؟!
  • ما السر في تميز الدعاء في رمضان عن غيره من الشهور؟!
  • ما معنى أن يدعو المرء وهو صائم؟!
  • أي فرق تُرى بين الصيام والصوم؟

 _______

 معنى أن تدعو وأنت صائم!

الإنسان بفطرته مجبول على التفكير في علل الأشياء والأحداث، حتى إن السؤال الأشهر بعد السؤال عن الماهيات، هو السؤال عن العلل والأسباب، فنرى هذا السؤال يصاحب الإنسان في مراحل نضجه المتعاقبة، بدءا من الطفل في سني المهد حين يسأل: «لماذا تطلع الشمس نهارا وينير القمرُ ليلا؟!» ووصولًا إلى الراشد المتفلسف حين يتساءل: «لماذا أنا موجود؟!»، وبين هذين السؤالين، تولد كل يوم أسئلة جديدة هي في ازدياد مستمر ما بقيت الخليقة على قيد الوجود. من هذه الأسئلة أو التساؤلات لدينا، نحن معاشر المسلمين، السؤال عن سر تميُّز العبادات والمجاهدات في شهر رمضان المعظم عنها في سائر شهور العام! لا شك أن الله المعبود الذي من المفترض أن هذه العبادات والمجاهدات تؤدي بهدف الوصول إليه (سبحانه وتعالى)، لا شك أنه واحد أحد! وهو رب كل مكان ورب كل زمان، فَلِمَ اختصاص بعض الأمكنة ِبمَزِيَّةٍ على سائر الأمكنة الأخرى؟ ولمَ اختصاص بعض الآونة ِبمَزِيَّةٍ على ما سواها؟! سيكون هذا المقال في هذا التوقيت فرصة للبحث عن جواب على التساؤل الثاني، وهو العلة في فضل بعض الأزمنة، ونخص منها شهر رمضان المعظم. ويبقى بحث العلة في فضل بعض الأمكنة، نرجئه إلى مقال لاحق.

إن أيام الدهر في ذاتها متماثلةٌ، وتميز بعضها على سائرها بما يظهر فيها من خير وأحداث عظيمة، ولله در الشاعر إذ قال:

وما فاقت الأيامُ أخرى بنفسها

ولكنَّ أيامَ الملاحِ ملاحُ (1)

وفيما يخص شهر رمضان حصرًا، فإن فضائله ومزاياه على سائر شهور العام أكثر من أن يُعرَض تفصيلها في هذه السطور، والأمة عن بكرة أبيها تحفظ تلك الفضائل عن ظهر قلب، لذا فقد حان وقت البحث في علل هذه الفضائل والمكرُمات.

فما معنى أن يدعو المرء وهو صائم؟! لنعط، بداية، توصيفًا ظاهريًا لحالي الصوم، أو الصيام، وكنا قد عرضنا للفرق بينهما في مقال سابق(2)، سنرى أن التوصيف الظاهري الجامع لهما يتمثل في أنهما إمساك عن وسائل بقاء مادية، من غذاء يكون به بقاء النفس، وجماع يكون به بقاء النسل. حتى إن أتباع التوجه التقليدي بلوروا التعريف الشرعي للصيام وفق المعنى المذكور، على أنه «الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات بنية التعبد لله، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس»(3). حسنًا، لننظر الآن في الأثر الروحاني لهذا الإمساك، مفترضين أن المرء إذ يمتنع عن الطعام والشراب، إنما يفعل ذلك مضطرًا، لمرض ألم به أو فاقة. هذا هو بالضبط عين المراد من الصوم أو الصيام، أن يصل الصائم إلى استشعار حال الاضطرار في دخيلة نفسه، بحيث ينطق لسان حاله: يا رب، فقدت كافة سبل بقائي المادية، ولم يعد أمامي سواك! فماذا يمكن أن نتوقع، والحال كهذه، ممن قال عن نفسه (سبحانه):

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (4) ؟!

التكامل الأمثل بين الدعاء والعمل بالأسباب

الحق أن القرآن الكريم نفسه قد تناول فلسفة الدعاء هذه وروحه، وبصورة مفصلة، ولكن قلة التجربة الروحية لدى المتأخرين أوقعتهم في وهم أن الدعاء لا قيمة له بإزاء العمل(5). وهنا ينبغي التركيز على أمر هام، كان سببًا في حدوث سوء الفهم، ذلك أن كثيرًا من الناس يولون أهمية للعمل فيعتمدون عليه اعتمادًا تامًا، فتحبط مساعيهم، ومن الناس أيضًا من يتواكلون على الدعاء دون بذل أي جهد عملي منتظرين استجابة أدعيتهم، ولكن هيهات!(6)، فإذا كنا قد علمنا سلفًا أن حال الاضطرار شرط لاستجابة الدعاء، فمن الاضطرار أن تنفد كافة وسائل المرء لبلوغ هدفه، ومن تلك الوسائل الأسباب المادية، وما لم يسلك الإنسان سبيل الأسباب المادية حتى يثبت له عدم جدواها فأنى يكون مضطرًّا إذن؟!

وفيما يخص شهر رمضان حصرًا، فإن فضائله ومزاياه على سائر شهور العام أكثر من أن يُعرَض تفصيلها في هذه السطور، والأمة عن بكرة أبيها تحفظ تلك الفضائل عن ظهر قلب، لذا فقد حان وقت البحث في علل هذه الفضائل والمكرُمات.

قطعًا لا يعني هذا أن الدعاء يأتي في المرتبة الثانية بعد إنفاد الأسباب، وإنما معناه أن على المرء استشعار خفة كفة الأسباب، حتى وإن كانت مجدية، مقابل الدعاء.

فكرة أن الله جزاء الصائم

عند قراءة أو سماع حديث رسول الله الذي يقول فيه فيما رواه عن ربه عز وجل:

«كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»(7)،

والحديث برواية أخرى، وهي «أُجْزَى بِهِ»، بمعنى أن الله تعالى يكون هو نفسه جزاءً للصائم.. وبمجرد أن يرسخ في الذهن هذا المعنى فسرعان ما يحدث أمر أشبه بالتداعي الفكري، ويتراءى مشهد من مشاهد السيرة النبوية المطهرة رأي الخاطر، وإذا بالنبي ومعه أصحابه وجمع من حديثي العهد بالإسلام ممن أسلموا بعد الفتح، وبين يدي النبي من الفيء ما رأى توزيعه على أولئك الأحداث تأليفا لقلوبهم، ثم لا يعطي الأنصار من هذا الفيء شيئا!

بعقد موازنة بين الموقفين، موقف الأنصار بالأمس، وموقف الصائمين كل يوم، ألا نرى تشابها عظيما؟! لقد كان من عزوف الأنصار عن العرض الدنيوي المادي واكتفائهم برسول الله، بل وفرحتهم الغامرة إذ يرجعون به إلى مدينتهم العامرة، ما رواه أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فقَالَ: «لمَّا أعْطى رسولُ اللهِ ما أعْطى من تلك العَطايا في قُرَيشٍ وقَبائِلِ العَرَبِ، ولم يكُنْ في الأنْصارِ منها شَيءٌ، وَجَدَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ في أنْفُسِهم؛ حتى كَثُرَت فيهم القالةُ؛ حتى قال قائِلُهم: لَقِيَ رسولُ اللهِ  قَومَه، فدَخَلَ عليه سعدُ بنُ عُبادةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا الحَيَّ قد وَجَدوا عليكَ في أنْفُسِهم؛ لِمَا صَنَعتَ في هذا الفَيءِ الَّذي أَصَبتَ؛ قَسَمتَ في قَومِك، وأعْطَيتَ عَطايا عِظامًا في قَبائِلِ العَرَبِ، ولم يَكُ في هذا الحَيِّ من الأنْصارِ شَيءٌ، قال: فأين أنتَ من ذلك يا سَعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلَّا امرُؤٌ من قَومي، وما أنا؟! قال: فاجْمَعْ لي قَومَك في هذه الحَظيرةِ، قال: فخَرَجَ سَعدٌ، فجَمَعَ الأنْصارَ في تلك الحَظيرةِ، قال: فجاءَ رِجالٌ من المُهاجِرينَ، فتَرَكَهم فدَخَلوا، وجاءَ آخَرون، فرَدَّهم، فلمَّا اجتَمَعوا أتاهُ سَعدٌ، فقال: قد اجتَمَعَ لكَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ، قال: فأَتاهُم رسولُ اللهِ ، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بالَّذي هو له أهْلٌ، ثُمَّ قال: يا مَعشَرَ الأنْصارِ، ما قالَةٌ بَلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وَجَدتُموها في أنْفُسِكم؟! أَلَمْ آتِكم ضُلَّالًا فهَداكمُ اللهُ؟ وعالةً فأغْناكمُ اللهُ؟ وأعداءً فألَّفَ اللهُ بيْنَ قُلوبِكم؟ قالوا: بَلِ اللهُ ورسولُه أمَنُّ وأفضَلُ، قال: ألَا تُجيبونَني، يا مَعشَرَ الأنْصارِ؟ قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللهِ؟ وللهِ ولرسولِه المَنُّ والفَضْلُ، قال: أمَا واللهِ لو شِئتُم لَقُلتُم، فلَصَدَقتُم وصُدِّقتُم، أَتَيتَنا مُكذَّبًا فصَدَّقْناك، ومَخذولًا فنَصَرْناك، وطَريدًا فآوَيْناك، وعائِلًا فآسَيْناك، أوَجَدتُم في أنْفُسِكم يا مَعشَرَ الأنْصارِ، في لُعاعةٍ من الدُّنيا، تَألَّفتُ بها قَومًا لِيُسلِموا، ووَكَلتُكم إلى إسْلامِكم، أفَلا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنْصارِ، أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ في رِحالِكم؟ فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لولا الهِجْرةُ لَكُنتُ امرَأً من الأنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وسَلَكَتِ الأنْصارُ شِعْبًا، لَسَلَكتُ شِعْبَ الأنْصارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنْصارَ، وأبْناءَ الأنْصارِ، وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ! قال: فبَكى القَومُ، حتى أخْضَلوا لِحاهُم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ قَسْمًا وحَظًّا»(8).

فما معنى أن يدعو المرء وهو صائم؟! لنعط، بداية، توصيفًا ظاهريًا لحالي الصوم، أو الصيام، وكنا قد عرضنا للفرق بينهما في مقال سابق(2)، سنرى أن التوصيف الظاهري الجامع لهما يتمثل في أنهما إمساك عن وسائل بقاء مادية، من غذاء يكون به بقاء النفس، وجماع يكون به بقاء النسل. حتى إن أتباع التوجه التقليدي بلوروا التعريف الشرعي للصيام وفق المعنى المذكور، على أنه «الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات بنية التعبد لله، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس»(3). حسنًا، لننظر الآن في الأثر الروحاني لهذا الإمساك، مفترضين أن المرء إذ يمتنع عن الطعام والشراب، إنما يفعل ذلك مضطرًا، لمرض ألم به أو فاقة. هذا هو بالضبط عين المراد من الصوم أو الصيام، أن يصل الصائم إلى استشعار حال الاضطرار في دخيلة نفسه، بحيث ينطق لسان حاله: يا رب، فقدت كافة سبل بقائي المادية، ولم يعد أمامي سواك!

على مستوى الجماعة والأمة أيضًا!

مع كل ما تقدَّم، قد لا يجد أحدٌ غضاضةً في أن يمارس الصوم في غير رمضان، ومن ثم ينخرط في حال الاضطرار التي هي شرط أساس لاستجابة دعائه، فأي أفضلية لرمضان إذن؟!

إن فضل رمضان يتمثل في كونه شهر البركة، والبركة في لسان العرب تعني الاجتماع، ومما نقله ابن فارس في معجمه العظيم «مقاييس اللغة» عن نخبة من الرواة في معنى البركة قولهم:

«حَلَبْتُ النَّاقَةَ بِرْكَتَهَا، وَحَلَبْتُ الْإِبِلَ بِرْكَتَهَا: إِذَا حَلَبْتُ لَبَنَهَا الَّذِي اجْتَمَعَ فِي ضَرْعِهَا فِي مَبْرَكِهَا ….. وَلَا يُسَمَّى بِرْكَةً إِلَّا مَا اجْتَمَعَ فِي ضَرْعِهَا بِاللَّيْلِ وَحُلِبَ بِالْغُدْوَةِ. يُقَالُ: احْلُبْ لَنَا مِنْ بِرَكِ إِبِلِكَ»(9).

فإذا كان دعاء الفرد في غير رمضان يُستجاب إذا ما تحقق شرط الاضطرار، فإن استجابة دعاء الأمة في رمضان يكون مستجابًا من الله تعالى بفضل دخولها في حال الاضطرار الطوعي من خلال مجاهدة «الصيام»، والتي هي مجاهدة جماعية، حيث إن دلالة البنية اللفظية لـ «الصيام» تفيد معنى الممارسة الجماعية للأمة كافة، وحين يُصدر المولى الحكيم سبحانه تشريعًا إلى الأمة كافة يذكر «الصيام» ولا يذكر «الصوم»، وهذا يلاحظ في السياق القرآني، إذا ما عرضنا عرضًا مقارنًا بين الآيات التي اُستُعمِل فيها لفظ «الصيام» والآيات التي اُستُعمِل فيها لفظ «الصوم». فخلاصة الكلام في هذه النقطة أن من معاني الصوم صَمُّ منافذ الشهوات، أي سدها، وإلى جانب ذلك، فهو ممارسة سرية يقوم بها العبد، ولا يطلع عليها سوى الله، الأمر الذي يفسر كون الله تعالى «أَجْزِي به»، وفي رواية «أُجْزَى به»، أي يكون هو نفسه سبحانه  جائزة الصائم المخلص المحتسب. أما «الصيام» فهو التفعيل الجماعي للصوم، بحيث تؤديه الأمة كلها، فتنزل البركات عليها بشكل جماعي ملحوظ، ولا يخفى ما للممارسات التعبدية الجماعية في مكان واحد وزمان واحد من أثر إيجابي بالغ، فصلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد، والحج فريضة جماعية في مكان واحد، وهذا أثره يدركه الجميع، فكذلك الصيام، فريضة جماعية في زمان واحد، فلكم أن تتصوروا ما له من بركات(10).

الهوامش:

1. محمد الخضر حسين موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)، ج10، ص 141، دار النوادر، سوريا، ط1، 1431هـ

2. راجع: صام المقربون الأولون صوما، “التقوى”، عدد يونيو 2017، الرابط:

3. عبد الرحمن بن ناصر البراك، العدة في فوائد أحاديث العمدة، ص299

4. (النمل: 63)

5. خطبة الجمعة حضرة مرزا مسرور أحمد، 2

6. راجع علاج الزكام الروحاني، “التقوى”، عدد مارس 2021، الرابط:

7. (صحيح البخاري، كتاب الصوم)

8. مسند أحمد،كتاب باقي مسند المكثرين

9. أحمد بن زكريا بن فارس، مقاييس اللغة، مادة “ب ر ك”

10. راجع علاج الزكام الروحاني، “التقوى”، عدد مارس 2021، الرابط:

Share via
تابعونا على الفايس بوك