الارتقاء من مقام التقوى إلى مقام الإِحسان
  • فأي فرق بين التقوى والإحسان؟
  • وأي سبيل يسلكه المؤمنون للارتقاء من مقام المتقين إلى مقام المحسنين؟
  • ما العلامات التي بها يُعرف المتقون والمحسنون؟

___

الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه أمير المؤمنين

 سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي  

في الجلسة السنوية للجماعة في بريطانيا بتاريخ 28/07/2023م

في حديقة المهدي بآلتون في بريطانيا

تنويه: العنوان الرئيسي والعناوين الجانبية من إضافة أسرة “التقوى”

 

 

التقوى أصل كل خير

إن أهم هدف من الجلسة كما ذكره سيدنا المسيح الموعود وركز عليه كثيرا هو أن يتحلى من يحضرها بالزهد والتقوى وقربِ الله تعالى، وأن يتّبع السبل التي أرشد الله إليها، وعندها فقط يستحيل أن يقصر المرء في أداء حقوق الله تعالى أو حقوق العباد أو أن يكون سببا في انتشار الفساد في المجتمع. لم يكتف المسيح الموعود بأن يوصي من بايعوه بالسير في طرق التقوى وحسب، بل قد دلهم بكل حرقة وألم على ما يساعدهم على سلوك تلك السبل بحسب أحكام الله وبتعاليم القرآن الكريم واهتداء بأقوال الرسول وسنته.

وقد صرَّح أنه لا يدخل في جماعته إلا الذين يسلكون دروب التقوى بحسب أحكام الله تعالى. لقد قال المسيح الموعود عليه السلام في مناسبات كثيرة وفي شتى خطبه وكتاباته بأنْ لا إيمان بدون التقوى، بل لقد أوحى الله تعالى إليه بشأنها قائلا: «إذا بقي هذا الأصل بقي كل شيء. فإذا لم يكن هناك التقوى فلا شيء هنالك، وإذا كان هناك التقوى فهناك كل شيء.

كونوا محسنين، ولا تكتفوا بكونكم متقين

لقد فسر المسيح الموعود الآية السالفة من سورة النحل في مواضع كثيرة وبيَّن مَن هو المتقي ومن هو المحسن. وقبل أن أقرأ عليكم مقتبسات من أقواله عليه السلام حول تفسير هذه الآية أود أن أبين لكم معنى أن يكون المرء متقيا ومحسنا.

التقوى أن يخشى المرءُ الله تعالى ويبتغي مرضاته كل حين سائلا إياه أن يكون جُنّةً له ويحفظه. هذا هو معنى التقوى الحقيقية، ويجب أن نجعله نصب أعيننا دوما. أما الإحسان فهو درجة تالية ومقام متقدم، وهو ألا يكتفي المرء بأن يحتمي بحمى الله تعالى، بل يسعى بعد أن يدخل في ملاذ الله تعالى أن يُدخِل فيه سائر الناس أيضا. فالمحسن أفضل درجة من المتقي، ولذلك قال تعالى إن المؤمن يكون متّقيا كما يكون محسنا أيضا.

فهذا هو المقام الذي يتوقع منا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام بلوغه، أي ألا يكتفي كل منا بالدخول في حمى الله تعالى فقط، بل علينا السعي لإنقاذ الآخرين بالإتيان بهم إلى حِماه. فالمتقي الحقيقي يهتمّ بأداء حقوق العباد أيضا لكونه محسنا أيضا. فهذه هي المكانة الجميلة التي يريد المسيح الموعود أن يساعدنا على بلوغها. لقد قال ذات مرة: «المتقي هو الخائف. الشيء الأول هو ترك الشر والشيء الآخر هو إفاضة الخير، والمتقي يتضمن معنى ترك الشر، والمحسن يتضمن مفهوم إفاضة الخير. ومن واجب المتقي أن يتجنب السيئات، ثم تأتي بعد ذلك درجة إفاضة الخير التي قد عُبّر عنها بلفظ «المحسنون»، أي أن هذا الإنسان يعمل الخيرات أيضا، إذ لا يكون الإنسان كامل الصلاح إلا أن يتجنب السيئات أولا، ثم يفكر ما هو الخير الذي قام به».

لقد اتضح الأمر بذلك أكثرَ حيث تبين أن من واجب الإنسان ألا يكتفي بإصلاح نفسه وعقد صلته بالله فقط، بل عليه ألا يبرح متطلعا إلى أن يدخُل في المحسنين، ولتحقيق ذلك لا مناص له من الاهتمام بأداء حقوق العباد.

الحسنة الحقيقية في نظر العارف بالله تعالى

في معرض بيان المسيح الموعود للفارق الدقيق بين التقوى والإحسان قال في موضع آخر: لا شك أن الله تعالى يكون مع الذين يتحلون بالتقوى، بل ويتقدمون من مقام التقوى ويكونون من المحسنين. وهذه هي علامة البر الحقيقي والإيمان الكامل.

ثم قال : التقوى تعني أن يجتنب المرء حتى صغائر الذنوب، لكن تذكروا أنه ليس من البر أن يعُدّ المرء نفسه صالحا بحجة أنه لا يهضم مال أحد ولا يسرق شيئا ولا يقطع الطريق على أحد ولا يسيء النظر ولا يزني. مثل هذه الحسنة مدعاة للضحك عند العارف بالله تعالى، لأنه لو ارتكب هذه السيئات فسرق أو قطع الطريق لعوقبَ ولا شك. فمثل هذه الحسنة ليست بشيء في نظر العارف بالله تعالى، وإنما البر الحقيقي أن يخدم المرءُ الناس أيضا، ويتحلى بكامل الصدق والوفاء في سبيل الله تعالى، ويكون مستعدا للجود بحياته أيضا في سبيله تعالى، ولذلك قال الله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (1)،

أي أن الله مع الذين يجتنبون السيئات كما يحرزون الحسنات أيضا.

واعلموا جيدا أن مجرد اجتناب السيئة ليس بأمر محمود ما لم يعمل المرء الحسنات أيضا. قد يكون هناك الكثيرون الذين لم يزنوا قط ولم يسفكوا دما ولم يسرقوا مالا ولم يقطعوا طريقا، ولكنهم لم يبدوا أي نموذج للصدق والوفاء في سبيل الله، أو لم يسدوا أي خدمة للإنسانية، ومِن ثم لم يكسبوا أي حسنة. فجاهل الذي يعدّ مثل هذا الإنسان من الصلحاء بالنظر إلى امتناعه عن هذه الأمور، باعتبارها سيئات، وباجتنابها فقط لا يدخل المرء في زمرة أولياء الله. فمِن سنة الله بشأن سيئي السلوك والسارقين والخونة والمرتشين أنهم يعاقَبون هنا في هذه الدنيا، ولا يموتون ما لم يعاقَبوا. فاعلموا أن هذه الأمور وحدها لا تندرج في قائمة الحسنات.

يجب أن نضع أمامنا هذا المبدأ وهذه الأسوة دوما، فليس ثمة شخص أعظم من النبي تُستجاب أدعيته ويحقق الله الوعود المقطوعة معه، ولكن النبي الذي كان أعلم الناس بذات الله وصفاته وأدراهم كان خائفا من  الله لدرجة أنه بالرغم من وعد الله كان يدعو ويتضرع بحرقة أن يحمي المسلمين اليوم. فمن نحن حتى لا نتضرع ونبتهل أمامه عز وجل.

إن التقوى درجة دنيا، ومثلُها كمثل جلْيِ الإناء جيدا لكي يوضع فيه من أطايب الطعام. فلو نُحِّيَ الإناء جانبا بعد الجلي جيدا دون أن يُملأ بالطعام، أفهذا وحده يشبع البطن؟! كلا، فافهموا التقوى على هذا النحو. ما هي التقوى؟ إنما التقوى هي تنظيف إناء النفس الأمارة. وواضح أن جَلْيَ الإناء الفارغ لا يشبع البطن، بل لا بد من إعداد الطعام والمائدة الروحانية لملء هذا الإناء المجلي.

وقد زاد المسيح الموعود هذا الأمر إيضاحا وقال: «تنقسم النفس إلى ثلاثة أقسام، أوّلها النفس الأمارة (في البداية تغسلون بالتقوى إناء نفوسكم الأمارة)، ثم  تأتي النفس اللوامة ثم النفس المطمئنة. وقد بين بعد ذلك وقال: في حالة النفس الأمارة يكون الإنسان عبدًا للشيطان والنفس، وأسيرًا لأهواء نفسه، حيث يكون مستعدا للاستجابة لكل ما تأمره به النفس كالخادم المسخَّر لتنفيذ أوامر سيده بكل تواضع، فبصفته خادمًا للنفس ينفذ كل ما تطلبه منه النفس الأمارة. إنه ينفذ كالخادم كل سيئة وكل أمر خاطئ تأمره به نفسه، وهذه حالة النفس الأمارة، وهي حالة سيئة جدا.»

لقد قال

«إن بداية التقوى أن يسعى الإنسان لتطهير نفسه الأمارة تطهيرا كاملا. فبعد تنظيف آنيتكم لا بد لكم من أن تملأوها بالطعام للأكل. فعليكم تنظيف آنية قلوبكم من أجل تقوية إيمانكم أيضا. إذا لم تنظفوها فإن الطعام الذي تضعونه فيها سيكون مثل الطعام الذي يوضع في الإناء القذر، ومهما كان طيبا هذا الطعام فإنه سيفسد مثل الإناء الفاسد».

فمن واجب كل واحد منا أن يفحص نفسه ليرى مدى تنظيفه لإناء قلبه. وبعد تنظيفه يجب أن يقوم بالجهاد ضد الشيطان بصدق القلب وحسن النية، ويسعى كل السعي للتحلي بتقوى الله تعالى، وإذا فعل ذلك بدأت فيه حالة النفس اللوامة.

قال حضرته :

«بعدها هناك النفس اللوامة، ففي هذه الحال أيضا تصدر منه الذنوب إلا أنه يلوم النفس أيضا، ويسعى جاهدا ومدبرا للتخلص من ذنوبه، فالذين هم في حال النفس اللوامة يكونون في صراع أي يحاربون الشيطان والنفس، فأحيانا تغلبهم النفس فتصدر منهم العثرة، وأحيانا يغلبونها ويكبحونها، فهؤلاء يتقدمون عن النفس الأمارة»

لقد قال حضرته:

«إن هؤلاء في صراع حيث يقهرون النفس أحيانا وأحيانا أخرى تغلبهم النفسُ ولم يحرزوا انتصارا تاما عليها.»

الغاية المنشودة للإنسان

الانتصارُ الكامل إذن يتطلب من المرء استغفارا دائما، واستعانةً بالله، وأن يضع في حسبانه دوما أن عليه الانضمام إلى زمرة المحسنين بعد الارتقاء إلى أرفع درجات التقوى. فحين يواصل الإنسان الجهود على هذا النحو مستعينا بالله فإن الله يرزقه بفضل منه النفس المطمئنة أيضا، التي قال عنها سيدنا المسيحُ الموعود :

«الحالة الثالثة هي النفس المطمئنة، وفي هذه الحالة تنتهي كل الصراعات، ويحرز الإنسان انتصارا كاملا، ولذا سماها النفس المطمئنة أي الحائزة على الاطمئنان».

ثم وضح حضرته:

«اعلموا يقينا أن أساس كل طهارة وبرٍّ هو الإيمان بالله تعالى، فقدر ما يكون إيمان المرء بالله ضعيفا يحدث في أعماله الصالحة ضعفٌ وهوان أيضا، لكن حين يكون إيمان المرء قويا، ويوقن بالله بجميع صفاته الكاملة، يحدث في أعماله تغيُّر عجيب، (فالذي يوقن بوجود الله   وجودا كاملا، من المستحيل أن يصدر منه الذنب سواء كان صغيرا أو كبيرا) لأن هذا الإيمان يقطع قواه النفسانية وأعضاء الذنب».

يقول حضرته حين يكون الإيمان بالله صادقا، يوهب له اطمئنان كامل، وهذا المقام يجب أن يكون الغاية المنشودة للإنسان وإن جماعتنا بحاجة إليها، ولتحقيق الاطمئنان الكامل ثمة حاجة إلى الإيمان الكامل، (إذن ثمة حاجة إلى التدبر أيضا) فأول ما يجب على أبناء جماعتنا أن يحرزوا إيمانا صادقا بالله.

فكلنا بحاجة إلى التدبر في ذلك كثيرا، يقول حضرته أكثر ناصحًا أبناء الجماعة:

«إن الله يحمي وينصر الذين يتقون. التقوى هي اجتناب السيئة. والمحسنون هم الذين لا يكتفون باجتناب السيئة فقط بل يكسبون الحسنة أيضا. ثم يقول الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى (2)، أي الذين يكسبون الحسنات على أتم وجه. قال حضرته: لقد تلقيت وحيا: «إن الله مع الذين اتقَوا والذين هم محسنون» مرات كثيرة حتى تعذر علي إحصاؤها، وربما نزل ألفَي مرة. والمقصود من ذلك ليعلم أفراد الجماعة أنه يجب ألا يفرحوا بمجرد الانضمام إلى هذه الجماعة وألا يغتروا بأن الإيمان وحده يكفيهم، كلا بل ستحالفهم معيةُ الله ونصرتُه حين يحرزون التقوى الصادقة إلى جانب الحسنات.

إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (3)،

إن الله تعالى يسجل أعمال الإنسان اليومية، وعلى الإنسان أيضا أن يسجل أحواله اليومية ويتأمل فيها إلى أي مدى تقدّم في الحسنات. يجب ألا يتساوى يومُ الإنسان وغدُه، إذا كان يوم أحدكم وغدُه سيَّين من حيث تقدمه في الصلاح والبر فقد خسر.

فهذا يدعونا إلى التدبر والتفكر كثيرا، علينا أن نهتم بفحص أحوالنا كثيرا، وثمة حاجة إلى أن نتقدم على درب الحسنات والتقوى بعد مبايعة المسيح الموعود وعند تحقيق هذا التقدم حصرا نكون قد أدينا حق البيعة.

التواضع من التقوى

قال حضرته ناصحا أبناء جماعته في مناسبة:

«ألاحظ حدوث نزاعات في الجماعة أيضا، ومن الناس من لا يتورع عن خصام أخيه بل وهتك عرضه على أتفه الأسباب، فهذا تصرُّف غير لائق تماما، ينبغي ألا يحدث ذلك، ولو اعترف أحدهما بخطئه فما الحرج في ذلك؟! بعض الناس لا يُقيلون عثرة الخصم مهما كانت تافهة ما لم يُذلُّوه. فاجتناب هذه الأمور واجب. من أسماء الله الستَّار، فلماذا لا يرحم هذا الإنسان أخاه ولا يميل إلى العفو والستر، على الإنسان أن يستر أخاه ولا يهاجم عرضه وشرفه.

لقد ذكر حضرته قصة مثالا فقال: إني قرأتُ في كتاب صغير أن ملكا كان يكتب القرآن الكريم، فحين رآه أحد المشايخ خطّأه في كتابة آية (لقد كان عند الناس هذه الجرأة في ذلك العصر أو قد أُظهرت هذه الجرأةُ في القصة) فرسَم الملك دائرة حول تلك الآية على أنه سيشطبها، فلما انصرف الشيخ محا الدائرة. فلما سأله أحد عن هذا التصرف، قال: كان الشيخ في الحقيقة على خطأ لكنني رسمت الدائرة أمامه لمواساته. (وربما كان شيخا قويا على شاكلة المشايخ في باكستان حيث يستصدرون من الحكومة ما يريدون، فالحكومة هناك لا تؤيدهم مواساة لهم بل الحكام ينفِّذون كلام المشايخ خوفا منهم. على كل حال ذلك الملك رسم الدائرة مؤاساةً للشيخ ثم محاها لأن الشيخ كان في الحقيقة على خطأ).

يقول : فمن قبيل العنجهية والمرض أن يتتبع المرء عورة غيره وعيوبه فيفشيها. هذه الأمور تُفسد النفس، لذا يجب اجتنابها. باختصار، كل هذه الأمور يندرج اجتنابها تحت عنوان «التقوى»، فالذي يتحلى بالتقوى في الأمور الداخلية والخارجية يعد من الملائكة، لأنه لا يبقى فيه أي ثورة وجماح. تحلَّوا بالتقوى لأن بالتقوى فقط تنزل بركات الله، المتقي يُعصَم من آفات الدنيا، ويستره الله . وما لم يُتخَذ هذا الطريق لا ترجى أية فائدة. فأمثال هؤلاء لا يمكنهم الاستفادة من بيعتي مطلقا، إذا بقي في داخلهم ظلمٌ فأنى لهم أن يستفيدوا، فإذا كانوا ما زالوا مصابين بالثوائر النفسانية والعنهجية والتكبر والعجب والرياء وسرعة الغضب كالآخرين فبمَ يتميزون عن غيرهم.

من يأتِ من الله ينل نصيبا من عظمته

يتابع سيدنا المسيح الموعود كلامه ويقول: إذا كان في القرية سعيدٌ واحدٌ فقط، فالناس يتأثرون به كتأثرهم من المعجزة، فالصالح الذي يكسب الحسنة خوفا من الله، يتمتع بهيبة ربانية ويَقرّ في القلوب أن هذا إنسان رباني. فمن الحق تماما أن الذي يأتي من الله فإنه تعالى يرزقه نصيبا من عظمته، وهذا هو طريق السعادة. تذكروا أن إزعاج الإخوة وإيذاءهم على أبسط الأمور لا يجوز. إن النبي هو متمم جميع الأخلاق، وفي هذا الزمن أقام الله النموذج الأخير لأخلاقه، فإذا بقيت الوحشية نفسها قائمة الآن أيضا فذلك من المؤسف جدا ومدعاة للشقاوة. فلا تلصقوا العيوب بالآخرين، لأن الإنسان أحيانا يتورط في العيب الذي يكون قد ألصقه بغيره، إن لم يكن فيه ذلك العيبُ أما إذا كان فعلا مصابا بذلك العيب فأمره إلى الله.

اعلموا أنكم إذا كنتم تلصقون العيب بالذي ليس فيه ذلك العيب فيمكن أن تصابوا أنتم بذلك العيب، حيث يخلق الله أوضاعا يتورط فيها الإنسان في العيب نفسه، أما إذا كان مَن تعيبونه في الحقيقة مصابا به ففوِّضوا أمره إلى الله.

من عادة الكثيرين أنهم يلصقون بإخوتهم تهما باطلة وشنيعة دون أي تردد، فاجتنبوا هذه الأمور، وانفعوا بني البشر، وواسوا إخوتكم، وأحسِنوا إلى الجيران، وعاشروا إخوتكم بخير، واجتنبوا الشرك قبل كل شيء، فاجتنابه هو اللبنة الأساسية لبناء التقوى.

خشية الله.. معناها، وكيفية تولدها في القلب

اجتناب الشرك إذن هو المبدأ الذهبي الذي يضمن أمن المجتمع إضافة إلى أداء حق البيعة. ولذلك قد اجتمعنا اليوم هنا. وهذا هو المبدأ الذي لو تمسكنا به لكفانا الله تعالى أعداءنا كما قال المسيح الموعود اجتنبوا الشرك لأنه حجر الأساس للتقوى، ولاجتناب الشرك يجب أن تكون خشية الله في قلب المرء. هذه النقطة مهمة أن نولّد خشية الله في قلوبنا لكي ينشأ فينا أساس التقوى. وكيف يمكن أن نعرف أن خشية الله تعالى قد نشأت في قلوبنا؟! قال المسيح الموعود بهذا الخصوص:

«إن خشية الله تعالى إنما هي أن ينظر المرء إلى مدى توافق فعله مع قوله، فلو وجد فعلَه غير متفق مع قوله فليعلم أنه سيتعرض لغضب الله، (هذا مقام استغفار) إذ لا قيمة لصاحب القلب النجس مهما كان قولُه طيبا، بل سوف يستجلب غضب الله. ولتعلمْ جماعتي أنهم جاءوني لأُنمّيهم كالبذرة، فيكونوا شجرةً مثمرة، لذا فليتأملْ كلُّ واحد منكم في نفسه ليعلم كيف هي حالة باطنه وقلبه؛ فإذا كان أبناء جماعتي يقولون خلاف ما يُخفون في قلوبهم -لا سمح الله- فلن تكون عاقبتهم محمودة، لأن الله تعالى حين يرى جماعةً تدّعي ادعاءات واسعة وقلوبها فارغةٌ، فلا يعبأ بها، لأنه غنيّ. كان النبـي قد تلقى نبوءة النصر ببدر، وكان النصر مأمولاً ومؤكدا، ومع ذلك دعا الله تعالى متضرّعًا باكيا، فقال له أبو بكر الصديق : إذا كان وعدُ الفتح مؤكدا فما الحاجة لهذا البكاء والابتهال؟ فقال النبي : إن الله غني، وقد يكون الفتحُ مشروطا بشروط خفية. (4) يجب أن نضع أمامنا هذا المبدأ وهذه الأسوة دوما، فليس ثمة شخص أعظم من النبي تُستجاب أدعيته ويحقق الله الوعود المقطوعة معه، ولكن النبي الذي كان أعلم الناس بذات الله وصفاته وأدراهم كان خائفا من  الله لدرجة أنه بالرغم من وعد الله كان يدعو ويتضرع بحرقة أن يحمي المسلمين اليوم. فمن نحن حتى لا نتضرع ونبتهل أمامه عز وجل. لا شك أن الله تعالى قد وعد اليوم أيضا بإقامة عظمة الله المفقودة ولكن لن تتحقق هذه الوعود ما لم تكن أقوالنا وأفعالنا وحالة إيماننا حسب مرضاة الله. لذا نصحنا المسيح الموعود مرارا أن نقوي إيماننا ونوفق بين قولنا وفعلنا لكي نرى تحقق وعود الله تعالى عاجلا.

علامات يُعرف بها المتقون

قال عن علامات المتقي: “علينا أن نفحص دائما مدى تقدّمنا في الطهارة والتقوى، والمعيار لاختبار ذلك هو القرآن الكريم. لقد بيَّن الله تعالى أن من علامات المتقين أن الله تعالى ينجيهم من مكاره الدنيا ويتكفل أمورهم، فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ (5)، أي أن الذي يتقي الله يجعل الله له مخرجًا عند كل مصيبة، ويهيئ له أسباب الرزق من حيث لا يحتسب.” أي أن من علامات المتقي أن الله تعالى لا يجعله يضطرّ إلى حاجات لا طائل منها. مثلا يزعم التاجر أن تجارته لن تزدهر بدون كذب وزور، فلا يتورع عن الكذب ويتظاهر أنه مضطر إلى ذلك. ولكن هذا باطل تماما، فإن الله نفسه يتولى المتقي ويحميه من مواقف تضطره إلى قول ما ليس بحق. اعلموا أن من ترك الله تركَه الله، ومن تركه الرحمن والاه الشيطان حتمًا. (فلا بد من الحذر الشديد، ويجب أن يتذكر كل واحد دوما أن الله تعالى إذا ترك أحدا والاه الشيطان) قال : لا تظنوا أن الله تعالى ضعيف، كلا، بل هو قوي متين، فلو توكلتم عليه في أموركم لأعانكم يقينا،

وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (6).

كان أول المخاطَبين في هذه الآيات أهل صلاح ودين، وكانت جلُّ همومهم عن الدين، وقد فوّضوا أمر دنياهم إلى الله تعالى، ولذلك طمأنهم الله بأني معكم. باختصار، إن من بركات التقوى أن الله تعالى ينجي الإنسان المتقي من الصعاب التي تعيقه عن خدمة الدين. (فحين نتعهد أننا سنقدم الدين على الدنيا فلا بد أن يكون في بالنا أن الله تعالى سيتولى أمور دنيانا إن آثرنا الدين على الدنيا، لذا من الضروري هنا أيضا التقوى والتوكل الكامل على الله تعالى). ثم قال :

إنّ الله تعالى يحبّ المتّقي، فينبغي أن تظلّوا جميعا خائفين بتذكّر عظمة الله. اعلموا أنّ الجميع خلقُ الله، فلا تَظلموا أحدا، ولا تغضبوا، ولا تزدروا أحدا. إذا كان في الجماعة شخص سيئ واحد فإنه يسيء إلى الجميع. فإذا كانت طبائعكم مائلة إلى الحدة والغضب، فتفحّصوا قلوبكم لمعرفة مصدر هذه الحدة، لأنّ هذا المقام جدُّ خطير. (7) (أي إذا كنتم سريعي الغضب فعليكم أن تحاسبوا أنفسكم هل هذه الحدة والغضب بسبب تكبركم وأنانيتكم لأن الإنسان لا يغضب على أمور بسيطة تافهة إلا بسبب التكبر والأنانية، ولا يحب الله تعالى ذلك.)

من التقوى استعمال الموارد والمقدرات كما هو حقها

ذكر المسيح الموعود في معرض توصية أبناء الجماعة بسلوك سبيل التقوى، شيئا من علامات المتقي، فقال أن منها أنه يستخدم القوى والقدرات التي وهبها الله تعالى إياه في محلها ويُنمّيها باستخدامها الجائز وينال أفضال الله تعالى. قال :

إن كل القوى التي آتانا الله إياها ليس لنضيّعها، بل إن تعديلها واستعمالها الجائز هو تنميتها وتطويرها، ولذلك لم يأمر الإسلام بالقضاء على قوة الرجولية أو إخراج العين، بل حثّنا على استعمالها الجائز وعلى تزكية النفس، كما قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (8)، وهنا أيضا رسم الله أولاً حياة المتقين ثم ذكر النتيجة وقال:

وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

أي أن الذين يسلكون سبل التقوى، ويؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بالكتب السابقة وكتاب الله هذا بدون تردد رغم ما يساور نفوسهم من أفكار، ويصلون أخيرا إلى درجة اليقين، فأولئك هم على الهدى، ويسلكون سبيل التقدم إلى الأمام باستمرار حتى يبلغوا درجة الفلاح، فأولئك هم المفلحون الذين سيصلون إلى غايتهم (من هم؟ هم أولئك الذين يؤدون حقوق الله وحقوق العباد. هم الذين يصلون إلى غايتهم) والذين قد صاروا في مأمن من أهوال الطريق. ومن أجل ذلك قد أمرنا الله بالتقوى منذ البداية، وأعطانا كتابا فيه الوصايا بالتقوى. وبعد ذلك قال : لذا فعلى جماعتنا أن تجعل أكبر همها أن يتحلى أبناؤها بالتقوى. (10)

لذا علينا أن نفحص أنفسنا إلى أي مدى نسعى لإحراز هذا المستوى؟ ثم بين حضرته علامة أخرى لأهل التقوى وهو أنهم يقضون حياتهم بالفقر والمسكنة ويجب أن يكون أبناء جماعتنا كذلك.

كيف للتواضع أن يطفئ نار الغضب في غير محله؟!

يقول حضرته:

«ومن الشروط التي يجب أن يلزم بها أهل التقوى أن يقضوا حياتهم بفقر ومسكنة، (لا يعني الفقر هنا الفقر المادي بل هو التواضع، فينبغي ألا يعتبر الإنسان هذه الدنيا كل همه بل يجب أن يفكر في الآخرة. إن الحياة الحقيقية هي حياة الفقر والزهد، والتي هي التحلي بالتواضع هو بعبارة أخرى اتخاذ حياة الفقر والزهد. وإن العامل بالحسنات والصالحات يعيش حياة التواضع والزهد. فعليكم بها وبالتحلي بالمسكنة). قال حضرته: هذا فرع من التقوى نحارب به الغضب في غير محله. ذلك أن اجتناب الغضب في غير محله هو المرحلة الأخيرة والأصعب لكبار العارفين والصِّدّيقين. (فاجتناب الغضب شيء لا بدّ منه)، قال حضرته: فالعُجب والغرور يتولدان من الغضب، وبالمثل، فإنّ الغضب في بعض الأحيان يكون نتيجة للزهو والغرور، إذ ينشأ الغضب فقط عندما يظن المرء أنه أفضل من غيره. إنني لا أرضى بأن يعدّ بعض أفراد هذه الجماعة أنفسهم أفضل مِن سواهم، أو أن يفاخر أو يزدري بعضُهم بعضًا. الله أعلم بمن هو أعظم ومن هو أصغر. إن هذه النـزعة نوع من التحقير الذي يتضمن الازدراء، وأخشى أن ينمو هذا الازدراء نماء البذرة ويُهلِك صاحبَه. بعض الناس يلتقون كبار القوم بفائق الاحترام، ولكن الكبير مَن يستمع إلى المسكين بمسكنة وتواضع، ويواسيه ويقيم لحديثه وزنا، ولا ينطق بما يستفزّه ويؤلمه. يقول الله تعالى:

وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

فلا ينادِ بعضكم بعضا بما يستفزه، فإن هذا دأب الفسّاق والفجّار. إن الذي يستفزّ غيره لن يموت حتى يتعرض لمثله. فلا تحتقروا إخوانكم، فما دمتم جميعا تنهلون من نبع واحد، فما يدريكم أيّكم أكثرُ حظًّا من هذا الشراب. لا يكون أحد مكرما ولا معظما بحسب القواعد الدنيوية، إنما الكبير عند الله هو التقيُّ:

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ .»  (12)

لذلك يجب أن نتذكر دائمًا هذه النقطة الأساسية التي مفادها أنه لا يمكن لاسم عائلة أحد أن يجعله شخصًا كبيرًا ولا يمكن لثروة أي شخص أن تجعله كبيرًا ولا يمكن للعلم والمعرفة أن تجعل أحدًا كبيرًا. بل الكبير عند الله من يتحلى بالتقوى والذي في قلبه خوف الله وخشيته، ومن يؤدي حق الآخرين، ومن هو خالٍ من الكبرياء والغرور.

لا تكونوا معرة على الإسلام

يقول حضرته منبّهًا إلى أنكم إذا أردتم أن تخدموا الإسلام فينبغي أن تتحلوا أنتم أولا بالتقوى والطهارة:

«كما أنه لا بد من رباط الخيل على الحدود صدًّا للعدو من دخولها، (أي لا بدّ من تعيين الجيش على الحدود) كذلك كونوا مستعدين دائمًا مخافةَ أن يدخل العدوُّ الحدودَ فيضرّ بالإسلام. لقد سبق أن بينت أنكم إن أردتم حماية الإسلام وخدمته فتحلَّوا أولاً بالتقوى والطهارة لكي تدخلوا في حصن الله الحصين، فتكونوا أهلًا لنيل شرف هذه الخدمة. (أي ينبغي أن تدخلوا بأنفسكم أولا في حمى الله تعالى وتجعلوا أنفسكم داخل هذا الحصن الحصين). قال حضرته: ترون كم ضعُفت قوة المسلمين الخارجية، إذ تنظر إليهم الأمم بكراهية وازدراء. أما إذا خارت وضعفت قوتكم القلبية والروحانية أيضا، فلا مصير لكم إلا الهلاك. (يجب على أفراد الجماعة أن يتعلموا درسًا من خلال النظر إلى حال المسلمين) فطهِّروا أنفسكم حتى تمتلئ بالقوة القدُسية، فتصبح قوية وحامية كالخيول المرابطة على الحدود. (إن الخيول لا تحمي الحدود إنما يفعل ذلك الفرسان الذين يمتطون صهواتها، كما كان الجيش يمنع الحدود في الأزمان السابقة فإن اليوم أيضا هناك طرق أخرى كثيرة لحراسة الحدود، هكذا لا بد للإنسان أن يكون محافظًا وحارسًا) إن فضل الله يحالف المتقين والصادقين فقط دوما، فلا تكونوا سيئي الأخلاق والتصرفات فتصيبوا الإسلام بوصمة عار (أي لا تكونَّن حالتكم سيئة بحيث تصبح وصمة عار على الإسلام). إن المسلمين الفاسقين الذين لا يعملون بتعاليم الإسلام يصمون الإسلام بوصمة عار. يشرب بعضهم الخمر، فيتقيأ هنا وهناك وتكون عمامته ملتفة في رقبته، ويقع في المجاري والحُفَر الوسخة، وتضربه الشرطة بالنعال، ويضحك عليه الهندوس والنصارى. والحق أن تصرفه هذا المنافي للشرع لا يجعله هو وحده عرضة للسخرية، بل يسيء إلى الإسلام نفسه. يصيبني حزن شديد بقراءة مثل هذه الأخبار وتقارير السجون، وعندما أعلم أن هذا العدد الهائل من المسلمين يعاقَبون على تصرفاتهم السيئة، يصاب قلبي بصدمة شديدة بأن هؤلاء الذين كانوا قد هُدوا إلى الصراط المستقيم يتضررون بأعمالهم السيئة، وليس هذا فقط، بل يعرِّضون الإسلام أيضا للسخرية والازدراء.

قال حضرته: إنما أقصد من قولي هذا أن المسلمين رغم ادعائهم بالإسلام يتورطون في هذه المنهيات والرذائل التي لا تسيء إليهم فحسب، بل تثير الشبهات حول الإسلام نفسه. فاجعلوا أعمالكم وتصرفاتكم صالحة حتى لا يجد الكفار فرصة الطعن فيكم، لأنه في الواقع طعنٌ في الإسلام.»

فإذا بايعنا المسيح الموعود فهناك حاجة إلى محاسبة أنفسنا، هنا في هذه البلدان التي يُستهزأ فيها بالدين باسم الحرية، لا قیمة فیها للقيم الأخلاقية، وتنتهك الأخلاق السامية التي أمر الله تعالى بالتحلي بها، ویُستهزأ بها، ففي مثل هذه الأوضاع هناك مخافة أن تؤثر شرور المجتمع هذه في أجيالنا، ولكن تظهر للعيان أحيانًا بعض الأمور التي يكون تورط بعض الأحمديين فيها أمرًا محرجًا. لذلك، علينا بذل السعي بكل حرص من أجل تكييف أولادنا ومجتمعنا مع التربية الإسلامية والعمل بحسبها. فلا يسعنا تحقيق هدفنا بمجرد المجيء إلى هنا ورفع الشعارات فحسب، بل لا بد لنا من تغيير حالاتنا العملية.

أروا كرامة بحسن أخلاقكم

يتحدث سيدنا المسيح الموعود   بحرقة شديدة عن أنه ينبغي على أبناء جماعتنا ألا يشوهوا اسمه بعد أن يصبحوا أتباعه، فيقول:

«إن الذي يري جاره أنه قد غير أخلاقه وصار إنسانا مختلفا تماما، فكأنه يري كرامة، (هكذا يتم التبليغ الصامت بحيث يحدث في أحد تغيير طيب ويراه الناس) وسوف يكون لتغييره أثر طيب في جاره. يعترض الناس على جماعتنا قائلين إننا لا نرى أي تطور حققه أبناؤها، ويرموننا بالتهم. إنهم يفيضون بالافتراء والغيظ والغضب، فيظنون وكأن الأحمديين أيضا مثلهم يفترون على الناس ويتميزون غضبا وغيظا فلا يؤدّون حقوق الآخرين، فيقولون ماذا حقق الأحمديون إلى الآن؟! قال حضرته وهو ينصح الأحمديين) ألا يبعث ذلك جماعتي على الحسرة؟! فإنهم قد انضموا إليها باعتبارها جماعة صالحة، شأن الابن الرشيد الذي ينسب إلى والده كل ما هو خير، لأن المبايع بحكم الابن، ومن أجل ذلك قد سمى أزواج رسول الله المطهرات أمهات المؤمنين، وكأنه أبٌ لعامة المؤمنين. إن الأب المادي يتسبب في مجيء ابنه إلى هذه الدنيا وفي حياته الظاهرة، أما الأب الروحاني فيرفعه إلى السماء ويرشده إلى مقامه الأصلي. فهل ترضون أن يشوه الابن سمعة أبيه، ويذهب إلى المومسات، ويلعب القمار، ويشرب الخمر أو يتورط في غيرها من الأفعال القبيحة التي تسيء إلى أبيه؟! إني لأعلم أن لا أحد يرضى بذلك، ولكن إذا أتى الابن السيئ بهذه المنكرات فلا بد أن يتحدث عنها الخلائق، ويذكره الناس مع ذكر أبيه وسيقولون إن ابن فلان يرتكب هذه المنكرات، فالحق أن ذلك الابن الشرير هو الذي يلطّخ سمعة أبيه. كذلك تماما إذا ما انضم أحد إلى هذه الجماعة ثم لا يبالي بعظمتها وكرامتها، ويخالف تعاليمها، فإنه مؤاخذ عند الله، لأنه لا يلقي نفسه فقط إلى التهلكة، بل يقدم للآخرين مثالاً سيئا ويحرمهم السعادة والهداية»

أي أن أعمال هؤلاء الناس تعرقل سبيل تبليغ الدعوة، إذ يقول الناس إنه مثلنا تماما ولا فرق بيننا وبينكم. فلماذا نكسب معارضة العالم من دون أن نستفيد شيئا ولا نغيّر في نفسنا شيئا. فمثل هؤلاء الناس يصبحون عائقا في سبيل تبليغ الجماعة دعوتها بصورة جماعية. فقال :

لذا فاستعينوا بالله ما استطعتم، واسعوا للتخلص من تقصيراتكم بكل ما أوتيتم من قوة وهمة، وحيثما عجزتم فارفعوا أيديكم بصدق ويقين، لأن الأيدي المرفوعة بخشوع وخضوع وبدافع الصدق واليقين، لا ترجع خائبة. (أي أن الله تعالى يجيب الأدعية المبنية على الصدق) أقول بناء على تجربتي الشخصية إن آلاف أدعيتي قد استجيبت ولا تزال تستجاب. (فادعوا، وادعوا كثيرا لإصلاح أنفسكم ولإصلاح أولادكم بكثرة ويجب أن نركّز عليها كثيرا).

البخل الحقيقي ألا تواسوا بني جنسكم

يقول :

«إنه لمن المؤكد أن الذي لا يجد في نفسه حماسًا لمواساة بني جنسه فهو بخيل. فلو رأيت طريق صلاح وخير، فمن واجبي أن أنادي الناس إليه بصوت عال، بغض النظر عما إذا كان أحد يلبي ندائي أم لا. (يجب ألا نبالي سواء أعمل به أحد أم لم يعمل. إذن، النداء بصوت عال وتبليغ الدعوة إنما يفيد فقط عندما يحدث فينا أيضا تغيّر ثوري. وهذا هو واجبنا أن نسعى جاهدين لإعادة الناس إلى الصراط المستقيم بعملنا وأدعيتنا)

ويتحدث بلسان الشفقة علينا مبينا سبيل تحسين دنيانا وعقبانا فيقول: ها إني أقول علنا إنه لا يليق بي أن أقول لكم ما أقول طمعًا في الثواب. كلا، بل إني أجد في نفسي الحماس والألم إلى أقصى الحدود. لا أدري السبب وراء هذا الحماس والألم، إلا أنه مما لا شك فيه أنه حماس بحيث يستحيل أن أمتنع عنه، لذا فمن واجبكم العمل بما أقول لكم باعتباره وصايا رجل قد لا تلقونه بعد اليوم، واعملوا بها بحيث تكونوا نموذجا مثاليا للآخرين، واشرحوا من خلال عملكم وقولكم لمن هم بعيدون عنا عمليا أنه إذا لم يكن هناك حاجة للعمل، فما الهدف من حضورهم هنا. (أي ما الحاجة إلى مجيئكم إلى هنا إن لم تعملوا بهذه الوصايا) إني لا أريد تغييرا خفيا، بل أريد تغييرا بيِّنًا، لكي يندم المعارضون، ولكي يقع الضوء على قلوب الناس من طرفنا وحدنا، وييأسوا من معارضينا ويدركوا أنهم في ضلال. لقد تاب على يد النبي أشرار كبار. لماذا؟ لقد أخجلتهم الثورةُ العظيمة الحاصلة في نفوس الصحابة، وأسوتُهم الحَريّةُ بالتأسي بها».

أي قد دخل هؤلاء الناس الإسلامَ تائبين بسبب التغييرات الحاصلة في الصحابة y. فإذا كنا نريد أن نوطد علاقتنا مع الله تعالى ونريد أن نرشد الناس إلى طريق الهداية فلا بد لنا أن نخلق في نفوسنا تغييرات حسنة ونصلح أعمالنا وننتبه إلى هذا الأمر داعين الله تعالى. أما إذا لم تكن أعمالنا مطابقة  لأقوالنا ولا نخلق في أنفسنا تغييرات خلقها الصحابة فلا يمكننا أن نقوم بإصلاح العالم على ما يرام ولا يمكن أن نبلغ الدعوة أيضا بصورة صحيحة. ما هو وعد الله تعالى بالأحمديين؟ يقول المسيح الموعود بهذا الشأن:

قال الله تعالى في القرآن الكريم:

وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (13)

  هذا الوعد قد قُطع مع ابن مريم الذي وُلد في «الناصرة»، ولكنني أبشّركم بأن الله تعالى قد خاطب ابن مريم هذا أيضا الذي جاء باسم يسوع المسيح وبشّره بالكلمات نفسها. (أي بشّرني أنا أيضا) والآن عليكم أن تفكروا بأن الذين يريدون أن يشتركوا في هذا الوعد العظيم والبشارة العظيمة بالانتماء إليَّ هل يمكن أن يكونوا ممن ما زالوا في درجة النفس الأمارة ويسلكون سبل الفسق والفجور؟ كلا، ثم كلا. بل الذين يقدرون وعد الله حق قدره ولا يعدون كلماته قصة فارغة. ألا فاسمعوا وعوا، فها إني أخاطب ثانية أولئك الذي ينتمون إليَّ وأقول: إن هذا الانتماء ليس عاديا بل هو انتماء عظيم، لا يبقى تأثيره منحصرا في ذاتي، بل يصل إلى ذات البارئ تعالى الذي ربطني بذلك الإنسان الكامل المصطفى الذي جاء بروح الصدق والحق إلى الدنيا. لو كان تأثير هذه الأمور منحصرا في ذاتي لما أخذني همّ ولا غمّ ولم أكترث لها شيئا، ولكن هذا التأثير لا يقتصر علي وحدي، بل يصل إلى نبينا بل إلى ذات الله العلي العظيم. (أي إن كنتم لا تعملون بما أقول ولا تُنشئون في نفوسكم تغيُّرا فإنكم لا تشوهون سمعتي فقط بل تشوهون سمعة النبي أيضا)

وما دام الأمر كذلك، فاسمعوا وعوا أنكم إن كنتم تريدون أن تنتفعوا من هذه البشارة وتتمنون أن تكونوا مصداقاً لها، وتتعطشون حقا لنيل هذا الفوز العظيم وأن تكونوا غالبين على المكفرين إلى يوم القيامة، فإنما أقول لكم إنكم لن تنالوا هذا الفوز إلا إذا تجاوزتم مرحلة النفس اللوامة ووصلتم إلى منارة النفس المطمئنة. لا أريد أن أزيد على قولي إنكم قد ارتبطتم بشخص هو مأمور من الله تعالى، فأنصتوا إلى أقواله بآذان القلوب، واستعدوا للعمل بها بكل ما أوتيتم من قوة، لكيلا تكونوا من الذين يقرّون أولا ثم يسقطون في نجاسة الإنكار، ويشترون عذابا أبديا فقط.»(14) إذن، العمل بهذه الأمور يجعلنا قادرين على أداء حق البيعة، فإذا لم نسعَ جاهدين للوصول إلى هذا المستوى فلا فائدة إن عرضنا أنفسنا للمعارضة الشرسة دون أن نؤدي حقوق الله. ندعو الله تعالى أن نزداد تقوى ونكون من زمرة المحسنين، وأن يكون كل قولنا وفعلنا بحسب أوامر الله تعالى ولنيل رضاه. وأن يوفقنا الله لأداء حقوق العباد ونشعر بآلام الآخرين وننفع بعضنا بعضا عاملين كالمحسنين.

ففي أيام الجلسة هذه ركِّزوا على الدعاء كثيرا أن يجعلها الله تعالى مباركة من كل النواحي والجوانب، وأن نحقق الهدف الحقيقي من عقد الجلسة. وكذلك أكثروا من الصلاة على النبي أيضا والاستغفار في هذه الأيام كما قلتُ في خطبتي للجمعة أيضا. وأكثروا من الدعاء في الصلوات. وفقنا الله جميعا لتحقيق الهدف من حضور الجلسة والاستفادة منه، وقضاء هذه الأيام في ذكر الله تعالى. والآن ندعو الله تعالى معا، تقبل الله أدعيتنا كلها.

الهوامش

  1. (النحل: 129)
  2. (يونس :27)
  3. (النل: 128)
  4. (الملفوظات ج1)
  5. (الطلاق :3-4)
  6. (الطلاق:4)
  7. (الملفوظات ج1)
  8. (المؤمنون:2)
  9. (البقرة:6)
  10. (الملفوظات ج1)
  11. (الحجرات:12)
  12. (الحجرات:14)
  13. (آل عمران:56)
  14. (الملفوظات المجلد 1)
Share via
تابعونا على الفايس بوك