قراءة في كتاب "العرفان الإلهي"

قراءة في كتاب “العرفان الإلهي”

ضحى أحمد

ضحى أحمد

  • فماذا عسى العرفان الإلهي يكون؟
  • وما الفرق بين علم العرفان وعلوم الكلام؟
  • وما الوسائل المؤدية إلى حصول العرفان الإلهي؟

___

كثيرًا ما يشغل موضوع العرفان الإلهي قلوبَ السَّالكين، رغبة في فهمه والوصول إليه، بوصفه هدف الحياة الأسمى، وغاية كل قلب عاشق لله تعالى، وكيف لا وهو الهدف والغاية من خلقنا، يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (1)  وإن معرفة الخالق شرط ضروري للتصبغ بصبغته والانتقاش بنقشه عز وجل، وهذا هو جوهر العبادة.

ومن أهم ما أسيل فيه المِداد بهذا الصدد كتاب «العرفان الإلهي» لحضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد المصلح الموعود والخليفة الثاني للمسيح الموعود ، وذلك الكتاب هو في الأصل خطاب ألقاه المصلح الموعود في الجلسة السنوية المقامة بقاديان في السادس عشر من مارس عام 1919م، مفتتحا خطابه بالحديث عن اعتلال صحته وعن حبه للجماعة وعن دوافع إسداء الخير والنصح والمواساة، وأي خير أعظم من أن يأخذ هذا الرجل العارف بالله بأيدي أبناء جماعته ليسلكوا معه الطريق إلى معرفة ربهم!

يسلط الكاتب الضوءَ على العرفان الإلهي من وحي تجربته الشّخصية، نعم، فقد ذاق بنفسه حلاوة ذلك الرحيق الروحاني، ومن ذاق عرف! ويتجلى امتنانه لله تعالى في حرصه على توضيح حقيقة العرفان الإلهي بين ثنايا كتابه الفريد.

وبداية يبين الكاتب أن العرفان الإلهي قضية تهمّ الجميع ولا يسع أحدًا الاستغناءُ عنها، فلا نجاة مرجوة دون معرفتها، ويرى أن الكثيرين ينالون المعرفة الإلهية؛ فيبيتون لياليهم ساهرين باكين وملتاعين، وكأنهم يتقلبون على الجمر المتّقِد، ورغم المجاهدات يشتكون من أنهم لا يجدون تلك الحلاوة واللذة، ولا تفتح عليهم أبواب العرفان الإلهي. فما الوسائل والطرق الكفيلة برفع هذا الحائل وتحقيق بغيتهم يا ترى؟! هذا أحد أهم الأسئلة التي يحمل المصلح الموعود رضي الله عنه على عاتقه مسؤولية إيضاحها، ونتخذ من هذا المقال فرصة وسبيلا إلى بيانها.

 

معنى العرفان الإلهي

بداية هناك خلاف تاريخي عريق بين المسلمين حول ماهية هذا العلم، وحول تقييم حَمَلَتِهِ، وتقييم ما صدر منهم من أقوال وأفعال. وموضوع هذا العلم هو أشرف الموضوعات على الإطلاق، حيث يتناول الذات الإلهية، معنى ذلك أن العارف عندما يريد أن يبحث في العرفان، أنه يريد أن يصل إلى هذه الحقيقة الكبرى في الوجود.. ولكن على نحو الشهود، بخلاف المتكلم في علم الكلام أو الحكيم، الذي يصل إلى بغيته في إثبات وجود الخالق، عن طريق المعرفة الذهنية.. بمعنى أن الأول ينشد الوصول إلى عين اليقين، في حين أن الآخر يكتفي بالوصول إلى علم اليقين.

والعرفان عموما في العربية هو مصدر من مصادر الفعل «عرف» فهو بمعنى أبسط يعني المعرفة، ومعناه أن يتعرف الإنسان أحدا أو شيئا من خلال  ما يتحلى به من مزايا خاصة يمتاز بها عما سواه. وهو هنا بمعنى الحصول على علم ذات الله تعالى بوجه خاص، أي أن يعرف الإنسان ربّه بعد التفكر والتدبر.

طريق الفوز بالعرفان الإلهي

لا يمكن الحصول على العرفان الإلهي الذي هو من أثمن الأشياء وأعظمها قدرًا بمجرد التنهّد أو التأوّه تحسّرًا مرة أو مرتين. فالرسول نفسه لم يكن ليحظى بلقاء الله تعالى إلا بعد أن تفانى كليًّا في هذا السبيل. ومن العجيب أن الشباب يواصلون جهودهم على مدى أعوام لتعلم اللغة الإنجليزية ولكنهم يريدون الفوز بالعرفان الإلهي بين عشية  وضحاها!

وإلى جانب المجاهدة المستمرة، فإن العرفان الإلهي لا يُنال إلا بعد فضل من الله وتوفيقه، وهذا الفضل بحاجة إلى ما يستنزله، وليس أفضل وأنجع هنا من الدعاء تحقيقا لهذه الغاية الثمينة.ويعرض المصلح الموعود هاهنا ثلاث وسائل للمعرفة الإلهية، على أن تُتَّخذ تلك الوسائل الثلاث معا، فلا يُستهان بإحداها، وهي:

الأولى: أن يواظب الإنسان على الدعاء.

الثانية: أن يبذل قصارى جهوده

والثالثة: أن يسعى بالسير في الطريق الصحيح.

وتحت كل وسيلة الكثير من التفاصيل ينبغي الإلمام بها.

أما الدعاء فلا يُقبل بدون اتخاذ وسائل مناسبة له. ولتحقيق أمر من الأمور هناك وسائل وطرق لا بد من اتخاذ الوسائل الأخرى معه، إذ لا يستجاب الدعاء بدونها. فلا ينفع الدعاء إلا إذا كان مصحوبًا بالعمل والسعي، أي بعد استنفادة الأسباب المادية وبلوغ حال الاضطرار، يقول تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ (2)، فالعمل مع الدعاء واجب، إلا إن أمر الله تعالى الإنسان بالاقتصار على الدعاء والامتناع عن اتخاذ الأسباب المادية ممثلة في العمل، أي من اتخاذ الأسباب الظاهرية لتحقيقه. كما حصل مع المسيح الموعود بالدعاء للحفظ من الطاعون وعدم تعاطي اللقاح.

يسلط الكاتب الضوءَ على العرفان الإلهي من وحي تجربته الشّخصية، نعم، فقد ذاق بنفسه حلاوة ذلك الرحيق الروحاني، ومن ذاق عرف! ويتجلى امتنانه لله تعالى في حرصه على توضيح حقيقة العرفان الإلهي بين ثنايا كتابه الفريد.

الجهد السليم شرط للنجاح

الدواء شيء ضروري، ولكنه قد يستحيل سما إذا تناوله المرء بطريقة خاطئة، أو إذا تناول دواء لغير الداء المصاب به. فكذلك حين نتحدث عن العرفان الإلهي، لا بد من بذل الجهد في الطريق الصحيح بالإضافة إلى الدعاء من أجل إحراز ذلك العرفان أو إحراز أي نجاح في أي عمل من الأعمال.

معنى التخلق بأخلاق الله

لا بد لإحراز العرفان الإلهي من التخلّق بأخلاق الله، ولا يُنال هذا المبتغى ما لم يَخلق الإنسانُ في نفسه نوعًا من الانسجام بينه وبين ربه يعكس في نفسه صفات الله تعالى.

ويكون التصبغ بصبغة صفات الله من خلال العلم بالصفات الإلهية وسبر أغوار معانيها، كأن يعرف أن الرَّب هو الخالق الذي يتدرج بالإنسان من مرحلة إلى مرحلة أعلى وأرقى منها، ثم يجب أن يعرف معاني الرقي وتفاصيله والطرق التي يُحقق بها هذا الرقي، وما هي مظاهره، ويظلّ منشغلا في تدبر تفاصيله حتى تتولد في قلبه الكيفية الكاملة لهذه الصفة. فعلى من يريد أن يتصبغ بصفات الله تعالى أن يعرف أولا المراد من هذه الصفات، ثم يتمكن من الارتقاء إلى حيازة العلم الحقيقي بها.

العوائق دون الفوز بالعرفان الإلهي

ككل غاية سامية، ثمة العديد من العقبات التي يلقيها الشيطان للحيلولة دون بلوغها، كذلك العرفان الإلهي دونه عوائق يلقيها الشيطان، وعلينا معرفتها ليمكننا اجتيازها، وذلك من باب أن معرفة الدواء لا تتأتى إلا بتشخيص الداء.

أما العائق الأول دون الفوز بالعرفان الإلهي فإنما يتمثل في ارتكاب الإثم والسيئات.

ولارتكاب الإثم أسباب قد يجهلها البعض، ونرى ضرورة بيانها:

السبب الأول: الجهل بالسيئة، فمن جهل موضع الفخ لا يُستبعد أن يقع فيه.

السبب الثاني: الانجرار مع اندفاع النفس. فالبعض على الرغم من علمهم بموضع السيئة إلا أنهم ينكبون عليها انكباب المدمن على تعاطي المخدر، فينسون كل شيء ويقعون في هوة المعصية، ثم يبكون على حالهم ويتحسرون.

والسبب الثالث:  وراء ارتكاب الإثم هو أن الإنسان يعلم أن فعلا من الأفعال سيئةٌ، ويتذكر عند العمل به أنه سيئة، ومع ذلك يرتكبها. فلا بد له أن يزيلها ليفسح له المجال للتقدم في الحصول على العرفان الإلهي.

الهوامش

1. (الذاريات: 57).

2. (النمل: 63)

Share via
تابعونا على الفايس بوك