الطهارة الحقيقية.. طهارة القلب
وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(284)

شرح الكلمات: 

رِهان- جمع رَهْن. والرهن: ما وُضع وثيقةً للدّيْن. قيل: الرهن لغةً الحبسُ مطلقا، وكثيرا ما يطلق على الشيء المرهون (الأقرب).

أؤتُمن- ائتمنه: عدّه أمينا، أو اتخذه أمينا (الأقرب).

التفسير:

يقول الله تعالى: إذا كنتم في سفر ولم تجدوا من يكتب لكم فيجب أن تعطوا المقرض رهنا حتى لا يخشى على ماله من الضياع.

من ذلك يمكن للإنسان أن يقدّر كيف أن الإسلام يحث على أخذ الحيطة وبعدَ النظر في شأن الديْن. وكيف أنه يحافظ على أموال المسلمين وإيمانهم عند كل خطوة. إذا لم تُراعَ هذه القواعد فقد ينكر المدين ديْنه، ويضارَّ هو نفسه في إيمانه ضررا لا يمكن تداركه، كما يضارَّ الدائنَ ماليا. وقد وصف الإسلام علاجا لمثل هذه المخاوف فقال أولا – بوجوب تسجيل عملية التداين كتابةً على شكل اتفاق أو معاهدة بين الطرفين تُسجَّل عليها شهادة الشهود. وثانيا- بوجوب أن يضع المدين رهنا عند الدائن إذا لم يتم تحرير المعاهدة، كأن يكونا في سفر ولم يجدا كاتبا لتسجيل الدين. والرهن جائز في الحضر أيضا، لأن الرسول ترك درعا له عند رجل استدان منه (مسند أحمد، ج6،ص42)، ولكن ذُكر الرهن في السفر لأن هناك مشقة عدم يسر الكاتب والشهود.

ثم استمر في توجيه النصح فقال (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه). إذا اطمأن الرجل إلى أخيه وأعطاه المال قرضا بدون رهن.. فعلى المدين أن يكون أمينا شاكرا لهذا الصنيع من أخيه، ويرد له المال في موعده، عند المطالبة به بدون أي تحايل أو تهرب، وليتق الله ربه، هنا سمّى الله القرض أمانة لأن الناس يرون من الواجب أداء الأمانة عموما، ولكنهم يتكاسلون ويتغافلون عند سداد القرض. يقول الله تعالى: الدّيْن في نظري أمانة.. فهل تتكاسلون في أداء أمانةِ مَن سمح لكم باستخدام هذا المال وأحسن إليكم؟ ما هو الفرق بين الأمانة والقرض؟ الأمانة هي ما يضعه الإنسان عند غيره عندما لا يكون الأمين في حاجة إليه، والقرض يعطيه الدائن المدينَ عندما يكون المدين في حاجة إليه. فالقرض إحسان أما الأمانة فلا. فمن واجب المدين إذن أن يسدد الديْن في وقته مع بشاشة القلب.

وهذه الآية تلقننا درسا ضمنيا للحفاظ على كل نوع من الأمانات، وردها إلى أهلها في موعدها كما صرح بذلك في موضع آخر في القرآن الكريم (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) (المؤمنون: 9). ونصح الله هنا أن ترك الأمانة عند أحد فرعٌ هام من فروع المدنية، فتجب مراعاة تقوى الله أيضا عند أداء الأمانة وليس في سداد القرض فقط، ويجب ألا تماطلوا وتُسَوِّفوا عندما يطالب بها صاحبها.

ثم قدّم نصحا آخر فقال (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).. أي يجب أن تقولوا الحق دائما في معاملاتكم، ولا تحاولوا إخفاء الشهادة أبدا، وإلا يصبح قلبكم آثما. وإذا أثم القلب فأين يبقى نور الإيمان؟

ولم يكن هذا النصح إلى الشهداء فقط، وإنما وجَّهه الله إلى كل من يشارك في المعاملات، وقال: يجب ألا يكون فيكم من يكذب أو يدلي بشهادة باطلة، وليس ذلك فحسب، بل لا يخفي شهادة حقة أبدا، وإلا فرغم أنكم قد تجنون نفعا دنيويا، لكن القدرة على فعل الخيرات تنـزع منكم، وتصبح قلوبكم مسودّة.

وباختصار، فإن الإسلام قدّم في هذه الآيات تعاليم جامعة وغاية في الشمول لو عمل بها المسلمون لتجنبوا شتى المشاكل المدنية.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (285)

التفسير:

يظن البعض أن قوله تعالى (وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم النبي الله) قد نُسخ بقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). أي قيل من قبل أنكم تحاسبون على ما في قلوبكم من أفكار، سواء أبديتموها أي نفذتموها، أو أخفيتموها ولم تعملوا بها بجوارحكم؛ ولكنه بعد ذلك نسخ هذا الحكم وقال لن نحمّل أحدا هذا الثقل الذي يفوق طاقته إذ لا أحد يملك قدرة على ما يتولد في قلبه من أفكار (الناسخ والمنسوخ للنحاس).

وهذا القول خطأ.. لأن النسخ يتعلق بتغير الأحوال وليس بأفكار القلب. مثلا، كان أكل لحم الحمر الإنسية مسموحا به في الإسلام، ولكنه حرم فيما بعد.. أما حالة قلوب الصحابة فكانت هي هي لم تتبدل.. أي كما كانوا لا يملكون سلطانا على أفكارهم القلبية من قبل.. فإنهم أيضا ما زالوا لا يملكونها من بعد؛ فلا معنى للنسخ فيما يتعلق بأفكار القلب.. لأنه إنما تُنسَخ الأحكام التي تتعلق بتغير الأحوال فقط، ولكن أمر الأفكار لا يتغير.

الحقيقة أن هؤلاء لم يدركوا فحوى هذه الآية. لقد ظنوا أن الآية تتحدث عن كل ما يتولد في القلب من أفكار. مع أنها تتحدث عما يخفيه الإنسان في نفسه من أفكار فاسدة وأمور سيئة. إن الأفكار العابرة مغفورة بلا شك، ولا تتناولها الآية. إذا تولدت فكرة سيئة في قلبه، فنفضها فورا.. فهذا ليس إثما، بل حسنة يثاب عليها. فلا مؤاخذة على أفكار القلب ما لم ينفذها الإنسان، أو لم يعزم عزما قويا على العمل بها. فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن النبي قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها.. ما لم تعمل أو تكلم) (البخاري، العتق).

ولكن هناك أفكار تبقى مكتومة وتظل جذروها ثابتة في القلب كعقيدة خاطئة، أو نوايا سيئة لا يزال يوطن نفسه عليها، ولا ينفك يفكر فيها، ويخطط لتنفيذها.. كبُغضٍ أو غلٍّ أو سرقة أو قتل.. فهذه لا تُغفر له هكذا، وإن لم يستطع العمل بها. إذا غفر له عنها بدون توبة فلا يبقى للإيمان حقيقة، لذلك لا بد أن يؤاخَذ عليها، لأن هذه هي أصل كل الآثام. ولذلك يقول الله (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة: 226)، وقال أيضا (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (الإسراء:37). فالإنسان يحاسب -إلى جانب ما ارتكبه بالعين والأذن- على أفكار كانت تتولد في قلبه بصورة مستمرة. كذلك قال تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (النور: 20). هذه الآية لا تذكر لهؤلاء أي عمل ظاهري.. وإنما تذكر هذه العقوبة على ما في قلوبهم من نوايا سيئة، وقال أيضا (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (البقرة: 284).

فالطهارة عند الإسلام لا تعني أن يكون الإنسان طاهر الحديث حسن العمل.. بينما يُخفي السيئة في قلبه، وإنما الطهارة الحقيقية هي طهارة القلب.. فغيرُ طاهرِ القلب غيرُ طاهرٍ عند الله تعالى. إذا لم يرتكب أحد سيئة أبدا.. ولكن في قلبه ألْفة للإثم وحب للمعصية ويتلذذ بذكر الإثم فلا يُعتبر صالحا وطاهرا.. ما لم يشعر في قلبه كراهة للمعصية.

وهناك حديث آخر عن أبي هريرة قال قال رسول الله (قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا) (مسلم، الإيمان).

يتبين من هذه الآيات والأحاديث أن الأفكار الإنسانية على ثلاثة أنواع:

الأول: ما ينشأ في القلب من وسوسة أو فكرة وتزول تلقائيا، فلا ثواب عليها ولا عقاب.

الثاني: تتولد في القلب عقيدة سيئة، أو رغبة شريرة، فيطردها بالتفل على يساره وبالاستغفار والحوقلة.. تكتب له حسنة. لأنه قاومها وطردها.

الثالث: أما إذا لم يطردها واحتفظ بها في طيات قلبه، ظنًّا منه أنها مِلكه، ولم ينفك يفكر ويخطط لتنفيذها. فإنها وإن لم يتمكن من تنفيذها تُحتسب عليه سيئة.

ورد في الحديث أنه اشتد نزول هذه الآية على أصحاب رسول الله فأتَوْه ثم بركوا على ركبهم فقالوا: يا رسول الله كلِّفنا من الأعمال ما نطيق:  الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله : (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) (مسلم، الإيمان).

يتبين من ذلك أن الصحابة الكرام اعترفوا بخطئهم على الفور بتوجيه النبي فمدحهم الله وأثنى عليهم. فكيف يمكن أن تُنسخ هذه الآية.. لأنه إنما ينسخ الحكم وليس هنا أي حكم عملي.

الواقع أن الله تعالى قد بيّن هنا ضرورة طهارة الأفكار لتزكية النفس. صحيح أن من المستحيل لكل إنسان أن يبقي أفكاره طاهرة تماما، ولكن يمكن لكل واحد أن يطهر قلبه بطرد كل فكرة سيئة تتولد فيه. مثلا: إذا وسوست نفس أحد أن يرتشي.. فعليه ألا يفكر في حيل للحصول على الرشوة. بل يحاول بكل وسعه نفْضَ هذه الفكرة من قلبه، وإلا تعمقت في قلبه بالتدريج حتى يصعب عليه محوها. كذلك لو رأى أحد في طريقه مالا أو متاعا وفكَّر أن يلتقطه. فلا يؤاخَذ على مجرد هذه الفكرة. ولكن إذا بدأ يفكر كيف آخذها ومتى أحصل عليها، وبدأ يخطط لذلك.. فهو معرض للمؤاخذة. وباختصار، فإن تزكية النفس تتأسس على طهارة القلب، وقد ألقى رسول الله الضوء على أهمية هذا الأمر في حديث آخر يقول:  (إن في الجسد مضغة إذا صلُحت صلح سائر الجسد كله، وإذا فسدت فسد سائر الجسد كله.. ألا وهي القلب) (البخاري، الإيمان).

فالطهارة عند الإسلام لا تعني أن يكون الإنسان طاهر الحديث حسن العمل.. بينما يُخفي السيئة في قلبه، وإنما الطهارة الحقيقية هي طهارة القلب.. فغيرُ طاهرِ القلب غيرُ طاهرٍ عند الله تعالى. إذا لم يرتكب أحد سيئة أبدا.. ولكن في قلبه ألْفة للإثم وحب للمعصية ويتلذذ بذكر الإثم فلا يُعتبر صالحا وطاهرا.. ما لم يشعر في قلبه كراهة للمعصية. كذلك هناك كثير من الناس يغضبون، ولكن لا يسبّون باللسان.. أما قلوبهم فتردد أفحش الشتائم، ولا نستطيع القول عن مثل هؤلاء إنهم أطهار، وإنما يكتمون سوءهم.

فطهارة الإسلام هي طهارة القلب، أما الأعمال واللسان فهي أدوات لظهورها. لذلك قال الله هنا إن الإنسان يُحاسب على حال قلبه.. سواء أخفيتم حال قلوبكم أو أبديتموه. ما أروعها حكمة بينها الله هنا إذ قال إن الأعمال واللسان هي للتعبير عن حال القلب.. فالأصل هو حال القلب، وعليه يحاسب الإنسان.. فقال: سواء أبديتم حال قلوبكم أو أخفيتموه.. أي لم تعبروا عن سيئة قلبكم بالعمل واللسان، فإنكم سوف تحاسبون على هذه السيئة.

وقوله (يحاسبكم به الله)..(الباء) هنا يمكن أن تكون لها ثلاثة معان:

أولا- السببية.. والمعنى أن الله سوف يحاسبكم بهذا الطريق.. أي يؤسس أعمالكم على حال القلب، ولا ينظر إلى ظاهرها فقط، بل ينظر إلى النيات أيضا، كما ورد في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات) (البخاري، بدء الوحي).

ثانيا –الباء بمعنى (في)، والمراد: يحاسبكم في شأن ما تبدون وما تخفون.. كما قال في آية أخرى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة: 226).

ثالثا- الباء بمعنى (على) أي يحاسبكم عليه.

وفي قوله تعالى (فيغر لمن يشاء ويعذب من يشاء) بيّن أن الإنسان يجازى بحسب نيته. فالمستحق للعقاب يعاقب، والمستحق للمغفرة يستره الله في كنف غفرانه. ذُكر من قبل أربعة مهام عظيمة للرسول وهي: تلاوة الآيات، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، وتزكية النفوس، وحتى الآن في هذه السورة ألقى الضوء على المهام الثلاثة الأولى بالتفصيل، وبداية من هنا يُلقي الضوء على مهمة تزكية النفوس. وكل إنسان يفهم أن تزكية النفوس ليست في وُسع أحد. التزكية تستلزم أمرين:  الأول- ترك المعصية، والثاني- التقدم في الروحانية. أما عن ترك المعصية فقال:  نخبركم أن كل شيء مِلك لله تعالى، وكل ذرة من السماوات والأرض تحت حكمه، فخذوا فقط ما يسمح لكم بأخذه، وانتهوا عما ينهاكم عنه؛ لأن من يستخدم الشيء بدون إذن ما يسمح من صاحبه يستوجب العقاب. أما في صدد التقدم في الروحانية فقال: كل شيء ملك لنا، وكل خير وبركة تُنال من أيدينا. فإذا عملتم بأوامرنا فإننا نستركم برداء مغفرتنا؛ ونوصلكم بيد قدرتنا إلى عتبة قربنا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك