الشجاعة الحلقة الثالثة

الشجاعة الحلقة الثالثة

تميم أبو دقة

كاتب وشاعر

 

                                                                   

“تفرد سيدنا الإمام المهدي بتبيان أثر الأخلاق على الحالة الروحانية. فلقد بين أن الأخلاق الفاضلة ماهي إلا الأسس التي تقوم عليها هذه الحالة. وهي ليست مجرد مظهر للمؤمن يميزه عن غيره بل هي ضرورات لنشوء الحالة الروحانية واستمرارها. فلا يمكن أن تنشأ الحالة الروحانية دون اكتمال بنيان الأخلاق وتمامه وعندها تجعل الحالة الروحانية هذه الأخلاق حالات طبعية يفرزها هذا النشوء الجديد والذي هو النشأة الاخرى أو الخلق الآخر الذي تبرز فيه صفات الله بجلاء وهيبة. وهكذا فإن نظرة سيدنا الإمام المهدي إلى الأخلاق تعدّت الفهم السائد وتخطته إلى آفاق لم تكن معروفة سابقًا. ومن هنا فإن على المسلمين الأحمديين أن يحرصوا على التحلي بهذه الأخلاق بأقصى درجاتها وفي أبهى صورها كي يصلوا إلى مبتغاهم الروحاني ويصبحوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولا بد من تذكر حقيقة أن هذه الأخلاق الفاضلة لا ينبغي أن يعتريها نقص أو أن تخضع للمساومة مهما كان الغرض وأيا كانت النتيجة. كل ذلك طبقًا لما أمر به الله تعالى في القرآن المجيد واتباعًا لسنة المصطفى ذي الخلق العظيم وسنتحدث وسنتذاكر في هذه الأخلاق والقيم في حلقات راجين من الله العون والتأييد وهو الموفق.”

كانت الشجاعة من أبرز صفات المصطفى . فلقد برز لقوم طال عليهم الأمد فَقَسَت قلوبهم فكانت كالحجارة التي كانوا ينحتونها ويصنعون منها آلهة ويعبدونها. فامتاز منذ صباه بشجاعة جعلته يرفض اتباع العادات والتقاليد الباطلة. فلم يشارك في طقوس عبادة تلك الأحجار وهو ابن عبد المطلب سيد مكة التي يعظمها العرب لوجود الكعبة ولوجود الأوثان والأصنام فيها. فكان موقفه وهو في أول سني صباه ينم عن شجاعة لا مثيل لها.

ومضت به السنون وهو يزدري هذه الآلهة الباطلة ولا يجامل أحدًا ولا يحابي قومه وأقرب أقربائه. وكان على صمته وميله للاعتزال يعبر عن موقف مميز شجاع غاية في الشجاعة. فرب صامت أبلغ من خطيب. ورب معتزل أكثر حضورًا من حاضر قريب.

وبقي في حاله تلك حتى جاءه أمر الله. ووجد ضالته ووجد الإله الحق الذي ناداه. فمضى بدماثته وحسن خلقه وحضوره الساحر ينتقد تلك الآلهة الصماء بكل شجاعة. تلك الآلهة التي هي رمز عزة قريش وأهم مصدر دخل لهم. فعاب تلك الآلهة وسفّه أحلام عابديها وعاب عقولهم وأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار. فشعر زعماء قريش بقوة حديثه المهذب الممتلئ شجاعة. وشعروا أن هذا الكلام الرقيق الشجاع يزلزل الأرض تحت أقدامهم وأقدام آلهتهم. فبادروا إلى الحكمة في مقابل الحكمة. وأدركوا أن لا قِبَل لهم بهذا الحديث ولا طاقة لهم في مقاومة هذه الشجاعة وتلك الحكمة البالغة. فألقوا تحت قدمي المصطفى كل المغريات الدنيوية على أن يترك هذا الحديث. فذهبوا إلى عمه أبي طالب وأخبروه أنهم على استعداد لأن يجعلوه ملكًا على مكة إن كان في ذلك راغبًا. وهم على استعداد لإلقاء الأموال والكنوز بين يديه إن كان يطلب ذلك. كل ذلك على أن يترك تلك الدعوة الهادئة الشجاعة. فكانت شجاعته وحدها كفيلة بتدمير دفاعات قريش كلها وفتحت له أبواب العز والمجد والجاه. ولكنه لم يكن في ذلك راغبًا أبدا. وعبّر عن شجاعته بكلمات حاسمة سبقها موقف صلب شجاع فقال:

“والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه”. وهكذا فقد كان المصطفى أشجع الشجعان عندما لم يكن له من القوة من نصيب. وكان مستعدًا للموت في سبيل الإسلام منذ اليوم الأول للدعوة. وكان منهجه في الشجاعة هو ذات المنهج الذي استمر معه حتى آخر يوم من أيام حياته الطاهرة. لقد كان المصطفى شجاعًا في الحق لا يبالي بأعدائه ولا بأحبائه. فكان يتبع الصدق والأمانة ويحكم بالحق سواءً رضي الأحبة والصحب أو سخطوا. فلم يكن يبالي بأن الحق سيؤلب عليه الأعداء أو يفرّق عنه الأحبة والأصدقاء.

وعندما فرض الله تعالى القتال على المؤمنين بأنهم ظُلموا وتعهد بنصرهم إن كانوا مؤمنين، برزت شجاعة المصطفى في الحرب طالما كان هذا خيار المشركين. ولقد كان هو وصحبه الأبرار من الكارهين للقتال شفقة على أعدائهم لا خوفا وجبنا حاشا لله. فما أن فرض الله تعالى القتال حتى انبرى بكل شجاعة وإقدام متوكلا على الله تعالى راضيا بحكمه. فعسى أن يكون فيما كرهه المؤمنون خيرا لهم. فكان القائد المقدام الذي أيده الله تعالى بنصره. ولطالما كان عدد المسلمين وعدتهم وعتادهم أقل كثيرا من أعدائهم ولكن الله تعالى جعل النصر حليفهم بسبب ما أبلوه من بلاء حسن. فهم مدركون أنهم سينالون إحدى الحسنَيَين، النصر أو الشهدة، فلا خيبة ولا خسران. فكانت شجاعة المصطفى أسوة للمؤمنين جعلتهم يخوضون أهوال القتال بكل شجاعة وعزيمة وتوكل على الله.

ومن هنا كانت شجاعة المصطفى عظيمة بعظم إيمانه بالله تعالى. فلقد أدرك أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن القوة لله جميعا، فهل يخشى بعد ذلك قوة من هم دونه. ولقد علم أن لا علم إلا علم العليم فهل يخشى من لا يعلم شيئا في الأرض ولا في السماء ولا يعلمون ما يُفعل بهم. فهل أصبح الأمر مغامرة أو مقامرة بالنسبة له أم أصبح علم اليقين، ثم أصبح عين اليقين، ثم حق اليقين.

وعندما كان المسلمون في قوة وظنوا أنهم لن يغلبوا من قوة، كما حصل في غزوة حنين، برزت شجاعة المصطفى بعدما تفرق الجيش الكبير. فانبرى هو وطائفة قليلة معه وصاح: “أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب” وأخذ يقاتل ويصيح بأصحابه يذكرهم بالله تعالى. فانتصرت الفئة القليلة من المؤمنين بقيادة المصطفى على أعدائهم. فلم تكن العدة والعتاد منطلق شجاعته ومستندها بل كان التوكل على الله تعالى هو جوهر تلك الشجاعة الأصيلة التي استمدها من إيمانه العميق بالله تعالى. وعندما كان الله تعالى قد أخبره بأنه مأمور بالتبليغ وأنه سيعصمه من الناس، وقد كان يحرس قبل ذلك، صرف الصحابة الذين كانوا يحرسونه وأعلن بكل شجاعة ويقين تعهد الله تعالى له بالعصمة. فكان قلبه ثابتا متيقنا من تلك العصمة لا يساور قلبه الشجاع أدنى ضعف. فذات مرة كان نائما تحت شجرة ومعلقا سفه على الشجرة وكان بعيدا عن صحبه، فانتهز أحد المشركين الفرصة ظانا أنه سيتمكن منه. فاستل السيف وأيقظ المصطفى وقال له متباهيا “من يعصمك مني؟” فظن أن المصطفى سيجفل من هذا الموقف أو سيظهر الخوف على وجهه الكريم. ولكنه أجابه بكل طمأنينة وشجاعة “الله”. فارتعد المشرك من تلك الشجاعة وهو حامل السيف. فسقط السيف من يده وأمسك به المصطفى ووجهه نحوه وهو مبتسم وقال “من يعصمك مني؟” ثم أطلقه وعفا عنه.

ولقد شرب صحبه الكرام رضوان الله عليهم من معين شجاعته. فشهدت الدنيا لشجاعتهم. كانوا شجعانًا عند الضعف وعند القوة، وفي كل الظروف والأحوال. وحملوا كلمة الإسلام إلى بقاع الأرض مضحين بكل غال ونفيس وبأنفسهم ودمائهم الزكية. فانتصرت دماؤهم على جبروت القوة الظالمة في عصور الظلام. وأبصر العالم النور بعد ليل طويل.

والشجاعة بشكل عام هي خلق مبعثه الثقة، فيظن المقبل على الأمر أنه واثق من عواقب ما يقبل عليه. ويمكن أن تنشأ الشجاعة من إدراك الإنسان لقدراته أو مبالغته في تقدير تلك القدرات. ولا يمكن أن يوصف الإنسان بالشجاعة إلا إذا كان مستقبل ومردود العمل الذي يقوم به مجهولاً عمومًا. ولكن الناس يتفاوتون في العلم والقدرات، فقد يكون الأمر مجهولاً للبعض ومعلومًا للآخرين. ويستطيع العاقل أن يقدر العواقب ويحسب الحسابات أكثر من الجاهل الذي قد تختلط عليه الأمور. ولكن من المؤكد أن الله هو القادر ولا قوة إلا به وحده. وهو العالم ولا علم لغيره إلا ما علمه إياه. فمن آمن بالله العليم القدير فلا يخاف عواقب الأمور لأن العاقبة بيد الله. ولا يخاف مجاهل المستقبل لأن الله هو العليم المهيمن الذي بيده مفاتح الغيب ولا يعلمها إلا هو.

ومن هنا كانت شجاعة المصطفى عظيمة بعظم إيمانه بالله تعالى. فلقد أدرك أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن القوة لله جميعا، فهل يخشى بعد ذلك قوة من هم دونه. ولقد علم أن لا علم إلا علم العليم فهل يخشى من لا يعلم شيئا في الأرض ولا في السماء ولا يعلمون ما يُفعل بهم. فهل أصبح الأمر مغامرة أو مقامرة بالنسبة له أم أصبح علم اليقين، ثم أصبح عين اليقين، ثم حق اليقين. فلقد علم أن الله سينصره فما لبث إلا أن شهد النصر وعاشه وذاق ثمرة شجاعته التي منبعها إيمانه العظيم. وخسر هنالك من ناكفوه وعاندوه.

ومن قبلِ المصطفى كان أبوه إبراهيم مثالاً عظيمًا لتلك الشجاعة. فصاح في قومه مستنكرًا ومستغربًا موقفهم بكلمات عظيمة سجلها الذكر الحكيم حيث قال:

وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الأنعام:81)،

فأي الفريقين أحق بالأمن إن كانوا يعلمون. هل الآمن من ربط مصيره بمن لا يملك من مصيره شيئًا ولا يستطيع نصره ولا نصر نفسه؟، أم الآمن من استمسك بعروة الإيمان الوثقى وتوكل على الله حق التوكل.

وهكذا فإن الشجاعة الحقة التي برزت في أعظم قادة الإنسانية الذين نقلوا البشرية إلى مراتب عظيمة، ألا وهم الأنبياء، مبعثها التوكل على الله بعد أن قدروا الله حق قدره. وبعد أن أدركوا أنهم سيصلون إلى مبتغاهم طالما أن العليم القدير قد وعدهم بذلك. فبينما كان أعداؤهم يبحرون في مستقبل مجهول كانوا هم على هدى من ربهم وكانوا واثقين من وصولهم إلى شاطئ الأمان بأعين عناية الله وعلمه ووحيه.

والشجاعة خلق حميد كان عنصرًا بارزًا على الدوام في تحقيق خطوات للأفراد والأمم والشعوب. وإن كانت الشجاعة في غير الإيمان قد تنبعث من تقدير جيد أو علم جيد إلا أنها تبقى غير مضمونة النتائج. وقد تنتج عن صلف وكبرياء وسوء علم وتقدير للعواقب. ولكن مما لا شك فيه أنها هي القوة المحركة لاقتحام المجهول والأهوال، ومن نال منها نصيبًا فإنه سيمضي إلى الأمام وينال بعض الثمرات. أما الجبناء فلا تنام أعينهم بل يبقون في خوف واضطراب. ولا ينالون خيرًا ولا نصرًا، بل يبقون دومًا ينتظرون الشجعان كي يقودوهم بعد أن يفتحوا أمامهم أبواب المجهول. فرحم الله أبا سليمان خالد بن الوليد سيف الله المسلول الذي صاح على فراش الموت “فلا نامت أعين الجبناء”، فلقد كان شجاعًا في الجاهلية بسبب الصلف والاستكبار والإباء وغدا أكثر شجاعة في الإسلام عندما انبعثت شجاعته من الثقة بالله والتوكل عليه. فها هي عينه قد نامت قريرة وعيون الجبناء ما زالت ترتعد لذكره.

وأبرز أنواع الشجاعة هي ما برز في المواقف والمصائب والأهوال وليس فقط في ساحات الطعن والنزال. فكان المسلمون يعلمون أنهم سينالون إحدى الحسنيين عند نزالهم وقتالهم للأعداء. فهم في ذلك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أما شجاعة المواقف التي تجلت في المصطفى فقد برزت ظلالها في صديقه الذي كان أول سلسلة الخلافة الراشدة. فوقف وقفة شجاعة يوم وفاة حبه الحبيب ومن ذا الذي يحب المصطفى والمصطفى يحبه أكثر منه. فوقف معلنا وفاة حبيبه بكلمات شجاعة تقول للناس: “من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت”. فلم يخش أن يتفرق الناس أو أن يرتعدوا لهذا الخبر المذهل. فكان إيمانه أن الله الذي أوجد هذا النور لا بد وأن يتمه ولو كره الكافرون، ولو وقفت الدنيا جميعها في وجهه. ثم ما لبث أن قاتل من تمرَّدَ على دولة الإسلام وأعلن أن عهده هو عهد المصطفى . فمن نكث عهده نكث عهد المصطفى. فلن يتنازل عن عقال بعير كان يؤدى للدولة في زمن المصطفى .

ومع تغير الظروف وحدوث الردة والخوف بعد الأمن الذي عاشه المؤمنون في عهد المصطفى لم يشأ الصديق أن يبطل أمرًا أمر به المصطفى قبل وفاته. فكان المصطفى قد عقد راية لبعثة بقيادة أسامة بن زيد لكي تقاتل الروم في أطراف الشام. فأشار الصحابة على الصدّيق ألا يرسل الجيش بسبب تغير الظروف. فالمدينة مهددة الآن من أعدائها وبرأيهم أن الجيش يجب أن يبقى للدفاع عن المدينة. ولكن الصديق الشجاع رفض أن يبدأ عهده بإبطال ما أمر به الرسول وكان واثقًا من أن الله تعالى سيتكفل بالأمر. فلم يساوره الخوف أبدًا بسبب إيمانه العظيم الذي جعله يقف هذا الموقف الشجاع. وصاح “والله لا أحل راية عقدها رسول الله ” فكان نِعمَ الخليفة الذي بدّل الله تعالى به الخوف أمنًا. وهكذا فقد أثمرت شجاعة الصديق تثبيتًا للدين وتمكينًا، وتبدّل الخوف أمنًا. فاتصل مجد النبوة بالخلافة واستمرت السلسلة التي نَعِمَ المسلمون بثمراتها المباركة.

وللشجاعة دور كبير في نشوء الإيمان. فلا يُقبل على الإيمان إلا الشجعان عندما يكون الإيمان يتطلب التحديات والمجابهات. كذلك فإن العاقل الذي يرى الدلائل العقلية أمامه ويستشعر في داخله ميلاً تجاه الحق إذ جاءه لا يمكن أن يقبل على الإيمان إلا باقتحامه لعقبة بل عقبات. لا بل إن الجبناء يضطربون عندما يرون الحق يتجلى ويحاولون طمسه، ويتمنون أن يكون باطلاً كي لا يتكلفوا عناء مخالفة العادات والتقاليد وما وجدوا عليه آباءهم. وهم بذلك يفرون من الحق ومن التذكرة كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. بينما لو امتلكوا الشجاعة لأذعنوا لنداء العقل والفطرة الذي يدعوهم إلى الإيمان. وهكذا يعطل الجبن العقل والقلب ويبدأ كيان الإنسان بالانهيار. فمقابل الحجج العقلية يبدأ الجبان الذي يتمنى أن يرى الحق باطلا بمحاولة التزوير والتشويش. فيقوم بالتشويش على نفسه وغيره ويلجأ بذلك إلى الكذب والخيانة. فكيف يمكن أن يبرر جبنه وخوفه من اقتحام عقبة الإيمان إلا بمنظومة مزيفة من الأكاذيب والأراجيف. فتضيع هنالك الأمانة ويذبح هنالك الصدق. ومن هنا فإنه لا يمكن أن يَسْلَمَ من الفساد والفسوق من لم يؤمن إذ جاءه الحق وأعرض عنه إعراض الجبناء. وهكذا فإنه إن كانت فيه بقية من خير فإنها ستفسد إذا لم يقتحم العقبة بشجاعة.  فلا مفر له أبدًا، إما أن يؤمن ويأمن وإما أن ينسى ويعرض فينصرف قلبه ويتراجع فكره ويقيد عقله. وتتراجع ثقة الإنسان بنفسه وعقله وشعوره فيورث هذا التراجع ضعفًا واضطرابًا على كل الصعد. فلا يمكن أن يحتج إنسان ويقول أنا سأبقى على ما أنا عليه فلن أصدق هذا القول ولن أكذبه فكيف يمكن أن يعاقبني الله على ذلك. فهو يعلم أنه يقع فيما نهى عنه الله بموقفه هذا حيث أنه سيلجأ إلى الكذب والخيانة ويتورط في كل ما هو دونهما كي يحافظ على موقفه الذي وقفه. فهذا الموقف ليس موقف حياد بل هو موقف يهوي به من أسفل إلى أسفل.

أما الشجاعة إن توافرت فإنها تطلق العنان للعقل كي يبحر في المجهول لاكتشاف ما فيه خير الإنسان. فإن عُرِض على الإنسان أمر تدبر فيه وتفكر ولم يخش أبدًا من أن يقع في أمر محظور. وإن كانت الثقة هي مبعث الشجاعة إلا أن الشجاعة تزيد الثقة بالنفس أيضًا. وإن تحولت الثقة من الثقة بالنفس إلى الثقة بالله عن طريق الإيمان، أبحر المؤمن الشجاع في أي فكر يعرض عليه واثقًا من نفسه وقدراته ومتوكلاً على الله وواثقًا به في أنه سيعينه في بحثه وتدبره. وبذلك فإنه سيُقبل على أي أمر يراه عقله حقًّا ويرتاح له قلبه متوكلاً على الله.

كذلك فإن الشجاعة تقوِّم الشعور. فعندما يصمت نداء الخوف الذي يزلزل جنبات القلب الجبان يبدأ الشعور بتلمس دقائق الأمور. فيميل الشعور باتجاه الله تعالى الذي جعله الحاسة التي يتلمس بها الإنسان الحق والباطل. وإن كان الشعور سرًّا من أسرار الألوهية التي أودعها الله تعالى في الإنسان والتي تعرف بالنفس اللوّامة أو الفطرة أو البصيرة التي هي عند كل إنسان، إلا أنها حقيقة واقعة يعرفها كل الناس. وما المجرم والكافر إلا من حاول إسكات هذا النداء في داخله ولم يستمع له وأطاع نفسه البدائية الأمارة بالسوء. فالشجاعة هي قوام النفس اللوامة التي تحتاجها كي تنتصر على النفس الأمارة التي تجتاح معظم الناس وتحكم سلوكهم. ومن هنا فإن الشجاع هو من قهر نفسه الأمارة واستمع إلى نداء نفسه اللوامة التي تطلب منه أن يتجاوز عقبات من الشهوات والمغريات. أما ما يظهر من شجاعة في ارتكاب المعاصي عند كثير من الناس فما هو إلا مظهر خادع للشجاعة مبعثه الحمق وسوء التقدير. وما هو إلا نفرة تشبه نفرة الحيوانات المفترسة التي تتبع غرائزها.

ودور الشجاعة في تثبيت الإيمان والحفاظ عليه هو دور كبير. حيث أنه قد يؤمن البعض عندما يجدون أن الحق قد تجلى ولمسوه بعقولهم وقلوبهم، ولكنهم قد يكونوا جبناء فيخشون أن يعلم الناس بأمرهم فيؤذوهم أو يعرضوا عنهم. فيمارسون إيمانهم عند المؤمنين ويحاولون إخفاءه إذا خرجوا من عندهم. وهكذا فإن الجبن يقود إلى أول مراتب النفاق. ولقد حذر القرآن الكريم من الجبن في أول آياته في أول آيات سورة البقرة وكأن في ذلك تحذيرًا للمؤمنين من أول المطبات التي قد يقعون فيها، فعليهم أن يحذروا ذلك كيلا يقعوا في النفاق بسبب الجبن، حيث وصف الحال التي يبدأ بها نفاق طائفة من المنافقين. فالجبن يدفع الجبناء إلى أن يقولوا للذين آمنوا إذا لقوهم آمنّا، أما إذا انصرفوا إلى مجتمعاتهم وصحبهم وشياطينهم قالوا إنَّا معكم؛ وإذ بادر هؤلاء الشياطين بالتندر والاستهزاء شاركوهم في ذلك ولو بالصمت أو بابتسامة منافقة يحسبونها هينة وهي عند الله عظيمة. وهكذا يستمر الحال معهم حتى يمردوا على النفاق وتقسو قلوبهم. فيصبحون كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. كل ذلك كان مبعثه الجبن. فماذا عليهم لو أعلنوا إيمانهم وقالوا نحن التحقنا بفئة المؤمنين. هم قد خشوا أن يتفرق عنهم صحبهم وشياطينهم فاستبدلوا برضى الله رضى الناس، ذلك لأن إيمانهم في هذه المرحلة هو إيمان قليل. ولكنهم لم يحرصوا عليه ولم يحموه بالشجاعة التي ستنقلهم إلى مزيد من الإيمان والتثبيت.

وهكذا فإنه بازدياد الإيمان يزداد توكل المؤمن على الله، فينعكس ذلك على الشجاعة فتصبح سمة المؤمنين البارزة التي تبهر الناظرين. فهم في أحوال دنياهم يتوكلون على الله ولا يخافون بخسًا ولا رهقًا. فتجدهم يندفعون لإحقاق الحق غير آبهين بأحد إلا الله. فلا يخشون أن يفقدوا علاقاتهم وروابطهم مع مجتمعاتهم، ولا يخشون أن يفقدوا أعمالهم وتجارتهم. فهم يدركون تمامًا أن ما كتب الله لهم لم يكن ليخطئهم. وما لم يكتبه لهم لم يكن ليصيبهم. فلا يأسون على ما فاتهم، ولا يفتخرون ولا يفرحون بما آتاهم، بل يفرحون بنعمة الله ويرتقبون دومًا نصره وأجره العظيم.

وكثيرًا ما يكون غياب الشجاعة أو الجبنُ سببًا في الظلم وهضم حقوق الناس وإلحاق الأذى بهم. فالظالم لا بد له من أعوان يعينونه على ظلمه وهم دومًا أجبن الجبناء وإن حسبهم الناس شجعانًا. فيخشى الجبان التابع من الظالم المتبوع فيشاركه في جرمه مُطَمْئِنًا نفسه ومعزيًّا لها بأنه لا طاقة له به. أو أن هذا القوي هو ولي نعمته الذي لو تخلى عنه فإن النعمة ستزول عنه. فهذا الجبان ليس له نصيب من الإيمان لأن الظلم الذي يخدمه ويكون هو أداته يتطلب الكذب والخيانة، وكذلك يرتكز جبنه على ضعف إيمانه أو انعدامه حيث أنه يحسب أن أمره كله بيد ذلك الظالم. فهكذا يركع لظلمه ويركع ما هم دونه ويزداد جبنهم ويتلاشى توكلهم ويذوي إيمانهم. فأين هم من أمر المصطفى “انصُرْ أخاك ظالمـًا أو مظلومًا” بأن تمنعه من ظلمه بكل شجاعة إن كان ظالمـًا، أو على الأقل عليك ألا تعينه عليه.

واستمرت مسيرة الجماعة من بعده تحمل لواء الحق بكل شجاعة، مبعثها الإيمان بالله تعالى والثقة به. وكان خلفاؤه الراشدون مثالا يحتذى. كيف لا وهم ورثة المجد النبوي وبقية السلسلة المحمدية.فاستمرت الجماعة بالدفاع عن الإسلام وخدمته بعدما سدت أمامها كل السبل الدنيوية ولم يبق لهم سوى وجه الله.

وكما كان سيدنا الإمام المهدي مثالاً حيًّا من الأمة الإسلامية يبرز المراتب والخيرات التي يحققها من اتبع السنة المحمدية، وكما كان دليلا على أن الخير لم ينقطع من هذه الأمة ولن ينقطع وأن السبيل ممهدة للسالكين؛ فقد برزت فيه الشجاعة ولعبت دورا كبيرًا في انتصاره وظهور أمره. فكان شجاعًا على خطى إمامه وسيده وسيدنا المصطفى . فبدأ حياته مدافعًا عن الإسلام في كل موضع وأمام جبروت وقوة الصليب المستمدة من سلطان الحكومة البريطانية. فكسر العقيدة الصليبية بأمر من الله بينما كان يظن من عاصروه بأن في ذلك مخاطرة غير محسوبة العواقب. وكتب الكتب ونشر المقالات والرسائل والنشرات وأرسل إلى الملكة البريطانية يدعوها إلى الإسلام بينما لم يجرؤ على ذلك أحد من المسلمين. ونقض افتراءات الهندوس على الإسلام وتصدى لكل الأديان والطوائف متوكلا على الله. فكادوا له وأجمعوا كيدهم هم وأعوانهم وشركاءهم ليسجنوه أو يقتلوه ليسكتوا دعوته؛ فباءت كل محاولاتهم بالخيبة والخسران.

لقد كان هو المهدي المعهود والمسيح الموعود للأمة الإسلامية، ولكن لم يلجأ إلى محاباة إخوانه المسلمين، الذين كانوا ابتعدوا عن تعاليم الإسلام الحقة بعدًا كبيرًا، لكي ينصروه في معركة الدفاع عن الإسلام. فعاب عقائدهم التي فسدت بالآراء والنقل والأهواء، وعمل على تنقية الحوض المحمدي من الشوائب التي تراكمت مع مر السنين. فكان شجاعًا في الحق وإن ظنوا به الظنون، ولم يأبه بما قالوا ويقولون. ولم يخش ألا يبقى له ناصر على وجه الدنيا لأن الله قد نصره. فاصطف عامة المسلمين مع غيرهم من أعداء الإسلام في مواجهتهم له. فلم يفت ذلك في عضده. وود المسلمون لو يدهن لهم فيدهنون له، فأبى أن يكون من المدهنين. وإن كان قد خسر إخوانه المسلمين في معركته وجعلهم إلى جانب أعدائه ولم يسع إلى استرضائهم فلم يكن من الآبهين. وبدأ مسيرته الشجاعة بنفر قليل من الصحابة الشجعان واستمرت المسيرة وأخرجت شطأها فاستغلظ فاستوى على سوقه، فاغتاظ الأعداء وكل المعارضين. وبدأت الأيام تكشف أن رأيه كان هو الرأي السديد في الأمور التي عارضوها في أول الأمر. فجعلوا يقولون بقوله ولكن ليس على سبيل تبين الحق، بل لأن الحق قد صدمهم وأصبح جليًا للعيان.

واستمرت مسيرة الجماعة من بعده تحمل لواء الحق بكل شجاعة، مبعثها الإيمان بالله تعالى والثقة به. وكان خلفاؤه الراشدون مثالا يحتذى. كيف لا وهم ورثة المجد النبوي وبقية السلسلة المحمدية.

فاستمرت الجماعة بالدفاع عن الإسلام وخدمته بعدما سدت أمامها كل السبل الدنيوية ولم يبق لهم سوى وجه الله. ففتح الله أبواب رحمته وفضله بأن يسر للجماعة من حيث لم تحتسب ولم يحتسب أعداؤها. ولم يكن انسداد السبل وتكالب الأعداء وتربصهم بالجماعة إلا سببا في إصرارها على الاستمرار بما وكلها الله به بكل شجاعة وثبات. فالله تعالى هو وليها فنعم المولى ونعم النصير.

وهكذا ستستمر المسيرة حتى يتكشف للناس أن الإمام المهدي هو عبد الله وخادم نبيه المصطفى وحامل لواء الإسلام الحقيقي. وسيتبين أن كل ما قاله وأمر به بكل شجاعة هو الحق ويهدي إلى صراط مستقيم. وهكذا يظهر كمثال جديد للمؤمن الشجاع المتوكل على الله من دوحة الإسلام التي مازالت مثمرة إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك