التقليد ومظاهر التغريب؟

التقليد ومظاهر التغريب؟

التحرير

 

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاة واتَّبعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّا

لا شك أن العوامل الاجتماعية والدينية والثقافية ساهمت بقسط وافر في تكوين شخصية المرء. كما أن للبيئة أثرها الكبير في خلق طبائع متباينة وأنماط سلوكية مختلفة تُصنف ما بين المذموم والمحمود؟! ولكل مجتمع أعراف وقِيم يقيس بها نفسه من خلالها ويعتبرها من الثوابت التي على أفراد المجتمع السير حسب مقتضاها للحفاظ على هويته ومعالم الشخصية العامة في ظل ما يستند عليه من منظومات دينية وثقافية واجتماعية. ولا يعنينا في هذا المقام أيها القارئ الكريم الحديث عن كل تلك المنظومات بيد أن ما نود التركيز عليه هو ذلك الجانب المتعلق بظاهرة التقليد ومظاهر التغريب التي تزايد زخمها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، خاصة في أوساط جيل الشباب، تلك الفئة الكبيرة من المجتمع التي تعدُّ حجر أساس لمشروع بناء فكري وثقافي وحضاري أشدُّ ما تكون الأمة الإسلامية في حاجة إليه كونه سيمثل خَلَفًا لِسَلَف.

إن هذه الظاهرة ليست بالشيء الهين كما قد يظن البعض، وقد تكون من أخطر القضايا التي تهدد ملامح شخصية الأمة من حيث هويتها وثقافتها، التي باتت بفعل موجات تيارات العولمة العاتية تجرف أرضيتنا الخصبة حتى لا تكون مؤهلة لشيء سوى للتقليد والمسايرة والانجرار وراء ما تمليه الثقافة المادية السائدة من وراء ما تسعى إليه من رؤى شيطانية ومصالح ذاتية.

فالنظرة المتعمقة للحالة الاجتماعية والتربوية والإعلامية المعاصرة للأمة تكشف بجلاء تلك الأزمة المتسببة في بُنية المفاهيم والقيم السائدة، والتي تُطلّ برأسها في مختلف الميادين وهي في حقيقتها لسان حال أمة تركت جيلا يقع بين كمّاشتي تقليد جامد وتغريب مائع سببه الرئيس غياب منهج تربوي متكامل ومتوازن يلبي حاجيات هذا الجيل الناشئ روحيا وعلميا وثقافيا. ومما لا شك فيه أن هذا التقصير الذي يتحمل وزره كل من البيت والشارع والنخبة المثقفة والمدراس والجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، باعتبارها عوامل تأثير فعّالة صارت عاجزة عن القيام بالواجب المـُناط بها لإعداد جيل له مقومات مناعة وحصانة تقيهِ من الظواهر السلبية المنحرفة التي تجرف شخصيته وتفككها لتعيد تركيبها بما تمليه نوازع الغير وميوله، حتى صار الطفل والشاب المسلم تبعًا للغير في مأكله وملبسه وفي أدق تفاصيل حياته، كقطيع من الغنم ينقاد حيث يُرادُ له أن يتجه دونما إرادة أو قناعة أو إدراك.

فلا يفهمنّ أحدٌ مما نقوله أنه حثٌ على الانغلاق وإنما ندعو إلى مناعة تَقِي أجيالنا وناشئتنا مما يُراد لها من مسخ وتشويه لتكون في مأمن وهي في معترك عصرنا هذا الذي أطلّت فيه هذه الصيحات تنفث سمومها عبر مختلف الوسائل ساعيةً للنفاذ إلى عقولهم والتأثير في طبائعهم سلخا للذات وقلعا للجذور.

لقد توسع غثاء السيل التائه، فانهمر يجرف قيم التربية الأصيلة المتأصلة في ديننا وتُراثنا بمعاول شتى، فتارة باسم الانفتاح وتارة بمسميات أخرى حيث تصبُّ في مناهجها ومراميها إلى استئصال الجذور وزرع طفيليات تُلْحِقُ بِشُجَيْرَاتِنَا اليافعة الخضراء وفلذات أكبادنا أفدح خسارة. فمما يؤسف له حقًا ميول كثير من الناس إلى مذاهب رديئة في التربية والتوجيه، فنجدهم يبررون ذلك بالحداثة ومواكبة العصر، ولا يجدون غضاضة حتى لو رأوا أبناءهم تائهين عن جادة الصواب ومتبعين سلوكيات التغريب بما يتنافى والمذاهب القيّمة والطرائق الحميدة، فيتركونهم لتتغلب عليهم تلك العادات المشينة من التماس السعي وراء الغرائز، والألحان الماجنة الهابطة، والموبقات عند المأكل والملبس والحديث، وليس هنالك أمر أخطر في هذا المقام من أن يُترك الفعل والعادة الذميمين من غير استدراك أو توجيه، لأن في تركهما تستحكم تلك الظواهر وتتمكن من ناشئتنا مبلغا قويا. ويتساءل الكثيرون عن سبب ذلك.. فهل مردّه تمرّدُ مجتمعاتنا على خلفيات الأعراف والتقاليد الجامدة وقشور الدين؟، ومما لا شك فيه أن التقليد الأعمى للغرب يغزو مفاهيم الأسرة والتربية وينخر في لباب العقول حتى بات المجتمع الإسلامي يُسلّم أمره للواقع ليعتبره جزءًا من نواميس التربية النموذجية المعاصرة تجاهلاً منه للدين الذي ربما اعتبره عائقا للتقدم والحداثة، ويتساءل آخرون عن سر جَري هؤلاء وراء التقليد والتفتح الزائف ليستسلموا له انقياد النّعاج إلى مِقْصَلَة الذبح، في مشهد يُماثل نحر الهوية والقيم والثوابت؟ نعم أيها الإخوة إنها تساؤلات تلامس الحقيقة إذ ما الضرر من أن ينطلق هؤلاء من أرضية مرجعيتهم الصلبة في بناء أمة على أرضية فكر الغير التي سعت في القيم والأخلاق هدمًا وتحطيمًا؟ إنه بالفعل منطق غريب وعقليات أغرب بات يُعشش فيها صدأُ التقليد وفكر التغريب بما لا مزيد عليه دون وعي أن الدين والعلم ركنين أساسيين مترابطين معًا ترتكز عليهما لبنات إنشاء تربية وتعليم جيل متوازن فكريًا وعقائديًا واجتماعيًا.. لقد نسي المقلدون والمغرّبون حقيقة أن ديننا الحنيف حثنا نحن المسلمين على تربية الأبناء منذ الصغر، لأنه ليس لهم عزيمة آنذاك تَصرفهم لما يُوجّهُون إليه من القيم الجميلة والأفعال الحميدة والطرائق المـُثلى، وبهذا يُعوّدون على تعاليم الإسلام بحسب تدرج أعمارهم ونموهم، تعهُّدًا على تربيتهم طورًا بعد طور، هذا فضلا عن أثر تراثنا الإسلامي الخالد الذي يزخر بأمثلة حسنة تغذي مخيلتهم بمعاني الفضيلة والخير، الشيء الذي يُنمّي من مواهب الأبناء واستعداداتهم، مما يرسّخ لديهم وجود لذة في عمل الخير، والتألم من عمل الشرّ واعتزازا بالهوية الإسلامية. نعم لقد راعى الإسلام التربية واهتم بها قبل أن يعرف العالم شيئا مما استحدثه من علوم التربية وفروع ما أسماه بالبيداغوجيا وغيرها الكثير مما تزخر به الدراسات والأبحاث وعلوم الاجتماع المعاصر!.

أيها القارئ الكريم إن التقليد ومظاهره المتمثلة في التغريب، هو تمويه لمرتكزات شخصية الأمة وتفكيك لعناصرها، فاحذروا من هذه الظواهر العمياء التي تمحو مرجعيتكم التربوية والروحية، فلا يفهمنّ أحدٌ مما نقوله أنه حثٌ على الانغلاق وإنما ندعو إلى مناعة تَقِي أجيالنا وناشئتنا مما يُراد لها من مسخ وتشويه لتكون في مأمن وهي في معترك عصرنا هذا الذي أطلّت فيه هذه الصيحات تنفث سمومها عبر مختلف الوسائل ساعيةً للنفاذ إلى عقولهم والتأثير في طبائعهم سلخا للذات وقلعا للجذور. إن النّاشِئَةَ المسلمة والجيل المتّزن هو الذي لا ينقاد انقيادا أعمى لمجرّد التقليد وإنما يزن الظواهر بما نشأ عليه من قناعات تربوية وإيمانية وبما جُبلت به فطرته الصالحة من حب الفضيلة وذم الرذيلة، وأيضا بما أدركه من علوم ومعارف، ذلك البناء الذي يقف سدا منيعا ضد أي مغريات صيحات التغريب. ولعمري إنها لتربية إسلامية شاملة تهتم بالأجيال الصاعدة بصفة كلية، وتعتني بكافة نواحيه الفكرية والعقائدية، وترمي إلى توازنه الحقيقي، وتهدف إلى نموه الشامل، وتصونه من صولات التغريب المائع والتقليد الجامد. فَلِمَ لا يكون تفكيرنا، سلوكنا وتربيتنا متحررين دون انحراف، راقين بلا تكلّف، ملتزمين بالعقيدة والمسلك القويم؟؟

ألا ترون أن تخليص جيلنا ومجتمعنا من ظواهر عادات أمم الدجّال أمرٌ يسهم في إعداد مستقبل جيل صاعد سيكون مجتمع الغد الذي نأمل من صميم قلوبنا أن يكون مجتمعا إسلاميا بديعا في صف الأمم وفي غاية الكمال!

Share via
تابعونا على الفايس بوك