«ناقة الله».. آية لقوم سيدنا صالح عليه السلام
  • النظرة القاصرة ترفض تحقق الأمل
  • إزالة فكر الخرافة عن معجزة الناقة
  • عذاب الله لقوم ثمود
  • تاريخ ثمود
__
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (هود: 63)

شرح الكلمات:

مُريب: أرابه يُريبه إرابةً: شكّكه وجعل فيه ريبةً. أرابه منه أمرٌ: أساء به الظن ولم يستيقن. أرابك فلان: بلغَك عنه شيء أو توهّمته. أراب زيداً: أقلقه وأزعجه، قال المتنبي: ما أرابك من يُريب (الأقرب).

التفسـير:

يشكو قوم صالح منه قائلين: لقد كنّا نعقد عليك آمالاً جساماً لما حباك الله به من فطنة وذكاء وقدرات وكفاءات. فكنا نتوقع أن تكون مصدر قوة ونفع لقومك، ولكنك بدأت تعمل على هلاكهم. ولم يدرك هؤلاء أن آمالهم في صالح كانت قد تحققت فعلاً، حيث أصبح مصدر خير وبركة لقومه، ولكن لم يتحقق ما كان مرجوًّا في أنفسهم هم حيث حُرموا من المساهمة في الحملة الإصلاحية التي بدأها صالح لخير قومه.

ما أضعَفَ هذا الكائنَ الذي يسمّى إنساناً‍! يظلّ عائشاً على الأمل زمنًا طويلاً، وما أن يحين موعدُ تحقّق آماله التي ظلّ ينشدها سنين عديدة، بل لعل قومه من قبل قد عاشوا عليها قرونًا طويلة، حتى يقوم فجأة معرضًا عنها منصرفًا عن هذا المعين المتفجر حوله كي يرتوي منه قوم آخرون.

آهٍ، ما أشبهَ الليلة بالبارحة! لقد كان المسلمون ينتظرون منذ قرون رجلاً موعودا لهم من السماء، فلما جاءهم بالحق أعرضوا عن ندائه ولم يغيِّروا ما بأنفسهم، بينما أخذت تؤمن به أقوام أخرى وتنتفع ببركاته.

وقولهم أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا .. أي أتمنعنا من أن نعبد كما عبد آباؤنا. والمراد أننا كنا نتوقع منك أن ترفع اسم الآباء ولكنك بدأت تضع الفأس على جذورنا حيث تحارب عقائد الآباء وطرق عبادتهم.

القاعدة أن الإنسان إذا مرض أصبح فمه مريضًا أيضًا، فيجد الماء الزلال مرًّا. وهذا ما حدث بهم، فلما كانت قلوبهم فاسقة قالوا عن التعليم الذي أنزله الله لدفع الشكوك بأنه يملأ قلوبنا بأنواع الشكوك والشبهات.

إن قولهم لصالح بأنك كنت مَحطَّ آمالنا لم يكن عن إغراءٍ له أو أسفٍ عليه، بل هكذا جرت سنة الله مع أنبيائه عليهم السلام. فكل من بعثه الله تعالى نبيًا، يكون قد ترك وقعًا عظيمًا في قلوب القوم قبل دعواه بما أوتي من كفاءات بارزة وقدرات مميزة. وهذا أمر ضروري أيضاً، لأنه عند بداية دعواه لا يكون شيء من الأنباء والوعود قد تحقق له بعد، كما لا تكون تعاليمه وشرائعه قد نزلت بشكل كامل، فلا يكون في يده عندئذ من دليل على صدقه إلا حياته السابقة لدعواه. وهذا هو البرهان الوحيد الذي أقنع السيدة خديجة وأبا بكر وعليّا وزيداً – رضي الله عنهم – بصدق النبي ، فإنهم لم يؤمنوا به برؤية معجزة أو آية أو تعليم مفصّل، وإنما صدّقوه بمجرد إعلانه عن دعواه، بناءً على ما رأوه من حياته الطاهرة. (السيرة النبوية لابن هشام).

كان من عادة ملوك العرب وغيرهم أن يطلقوا بعض الماشية هكذا حرةً تأكل وترتع في حرث الناس حيث تشاء، وذلك كعلامة على قوتهم وسلطانهم، معلنين بين القوم  أن من تعرض لها  بسوء أهلكناه. ووفق هذه العادة الشائعة سرّح سيدنا صالح ناقته بأمر من عند الله تعالى، جاعلاً حريتها علامةً على سلطته السماوية…

قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (هود: 64).

شرح الكلمات:

ينصر: نصر فلاناً من عدوّه: نجّاه منه وخلّصه وأعانه وقوّاه عليه. (الأقرب).

تخسير: خسَّرَه: جعَله يخسر؛ نَسَبَه إلى الخسران؛ أضلّه؛ أهلكه (الأقرب).

التفسـير:

يقول سيدنا صالح لقومه: تقولون لي بأن تعاليمك تثير في قلوبنا شتى الوساوس والشبهات، وأنك لو لم تدعُنا إليها لاخترناك سيّداً علينا! فهلاّ أخبرتموني أنني لو كنت في الحقيقة من عند الله تعالى فماذا سأجني من زعامتكم بترك رسالته عز وجل. أفلا تزيدني صداقتكم وبالاً وسيادتكم خسراناً!

وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (هود: 65).

شرح الكلمات:

ذَرُوها: ذَرْه أي دَعْه، يقال: ذَرْه واحذَرْه (الأقرب).

التفسـير:

كانت ولا تزال ناقة صالح مرتعًا يجول فيه خيال الناس. وقد جمع حولها المفسرون من الأساطير والخرافات أصنافا وألوانًا حتى قال بعضهم بأن الكفار عندما طالبوه بآية صدقه خلق على الفور ناقة من بطن الجبل، وكانت حاملاً، فولدت فور خروجها من الجبل (ابن كثير). لقد جمعوا في تفاسيرهم ما سمعوه من خرافات دون أن ينتبهوا إلى تأثيرها الخطير في قلوب السذّج من الناس.

الحقيقة أن القرآن الكريم لا يقول بخلق الناقة هكذا كمعجزة، بل يصرّح قالوا إنما أنت من المسحَّرين . ما أنت إلا بشرٌ مثلنا فأتِ بآيةٍ إن كنت من الصادقين. قال هذه ناقةٌ لها شربٌ ولكم شِربُ يومٍ معلومٍ. ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذابُ يومٍ عظيمٍ (الشعراء:154 الى157). والمراد من قولهم من المسحَّرين أي من المخدوعين. والمراد من قوله (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) أن لها الحق في ورود الماء في يومها المحدد، كما لكم الحق أن تستقوا في يومكم المحدد أيضاً.

تبيّن هذه الآيات أن الناقة لم تُخلق كمعجزة، وإنما هي حُرمتها  التي جُعلت معجزةً، حيث أنذر صالح بالعذاب كلّ مَن يتعرض لها بالسوء. لو كان خلقها آيةً – كما يزعمون – لقال: لقد سبق أن خلقت الناقة من الجبل كمعجزةٍ استجابة لمطلبكم، ولكنه ينذر بالعذاب من يهدد حريتها في الشرب.

أما السؤال: كيف صارت الناقة آيةً، فالجواب الأول عليه هو ما كان يذكره أستاذي المعظم المولوي نور الدين رضي الله عنه حيث قال: كان من عادة ملوك العرب وغيرهم أن يطلقوا بعض الماشية هكذا حرةً تأكل وترتع في حرث الناس حيث تشاء، وذلك كعلامة على قوتهم وسلطانهم، معلنين بين القوم  أن من تعرض لها  بسوء أهلكناه. ووفق هذه العادة الشائعة سرّح سيدنا صالح ناقته بأمر من عند الله تعالى، جاعلاً حريتها علامةً على سلطته السماوية، معلناً لهم أن لا يمسّوها بسوء، وإلا فسيكون هذا بمثابة خروجهم على حكومة السماء، وسوف يحل بهم العذاب.

ولو قال قائل: إنه لا يليق بنبي من أنبياء الله أن يفعل كما يفعل ملوك الدنيا الطغاة، فيطلق فحلاً يأكل في حرث القوم ويفسده، ثم يهدّد هو بالويل والدمار من يمنعه من فساد زرعه! فجوابه هو أنه لا شك في أن هذا لا يليق بالنبي، ولكن سيدنا صالحاً لم يكن يقلّد هؤلاء الطغاة إذ لم يقل بأن ناقتي سوف ترعى في أي أرض وفي أي حرث، بل قال: فذَروها تأكلْ في أرض الله .. أي سترعى في الأرض التي لا يملكها أحد، لأن أرض الله هي ما لا يكدح أحد في زراعتها، وإنما هي خالية من الزرع، تنبت العشب والكلأ بما ينزل عليها من ماء السماء.

أما أنا فأرى شخصيًا أن صالحاً   قد أراد بقوله: فذروها تأكلْ في أرض الله أن ذروني أتحرك عليها بحرية في أسفاري التبليغية ولا تمنعوني من أن أنتقل عليها من مكان إلى آخر لأداء واجباتي الدينية. ومثل هذا المجاز كثير في جميع اللغات حيث يراد بمنع المركب منعَ الراكب، لأنهم إذا أرادوا إيقاف راكب أوقفوا مطيته. فيبدو أن القوم كانوا يحولون دون رحلاته التبليغية ولا يدَعونه يتحرك بحرية هنا وهناك، فنهاهم الله عن ذلك قائلاً: دعوا ناقته تذهب به حيث يشاء لتبليغ رسالة ربه. ولكنهم قتلوا الناقة، أو بتعبير آخر، أخبروه عمليًا أنهم لن يسمحوا له بالتبليغ في بلدهم بهذه الحرية. فأخذهم العذاب الذي دمّرهم تدميرًا.

وقد يكون للآية مفهوم آخر، وهو أن صالحًا كان قد أدرك أن احتكاكه بالقوم يؤدّي إلى المزيد من الفتنة والفساد فأراد أن يتحاشى الاصطدام بهم. وبما أن العيون والمراعي هي ملتقى القوم عمومًا، امتنع – بأمر من الله – عن أخذ ماشيته إلى المراعي العامة، وصار يرعاها في أرض نائية لا يملكها أحد. كما توقف عن إيراد ناقته الماء في الموعد المعتاد عموماً، بل اتخذ لذلك موعداً آخر حيث لا يكون فيه الرعاة الآخرون. ثم أعلن للقوم: ها قد اتخذت أنا وأتباعي كل تدبير ممكن لتفادي الفتنة، متكبدين المشقة والعناء، إذ تركنا المواعيد والمراعي التي قد تؤدي إلى الاحتكاك والاصطدام بكم. فإذا أثرتُم الفتنة والفساد بعد ذلك فسيكون معناه أنكم لا تريدون أن نعيش ونحيا، وعندئذ سوف يحل بكم العذاب من عند الله تعالى.

وهذا المعنى يتأكد بالأحداث التاريخية أيضاً حيث تذكر التواريخ القديمة واديًا باسم “فج الناقة” (العرب قبل الإسلام ص64). كما ورد هذا الاسم في كتاب الجغرافيا لبطليموس الذي كان قبل الميلاد بمائة وخمسين سنة. والمؤرخون اليونان القدامى يطلقون عليها (Badanata)، وهو تحريف لِ”فج الناقة” (أرض القرآن جـ1، ص196). إذن فوجود وادٍ قديم بهذا الاسم يعطي انطباعاً أن صالحاً كان قد اتخذ لناقته مرعى منفصلاً بعيداً عن قومه حتى لا تحتك ناقته بالمواشي الأخرى، ولا يشتبك راعيها بغيره من الرعاة، ولا تحصل فتنة ولا فساد، ولكن معارضيه لم يرضوا بذلك أيضًا، بل وصلوا هناك وقتلوها، فأخذهم العذاب لهتكهم حرمة قرار السماء.

ولا يعجبنّ أحدٌ ويقول: كيف يجوز إبادة أمة بأسرها على قتل ناقة واحدة؟! ذلك أن قتلهم الناقة كان بمثابة تمرّدهم على الله تعالى وأنهم لن يدَعوا رسوله صالحاً براحة في أي مكان، وسوف يمنعونه من تبليغ رسالات الله بالقضاء على كل وسيلة يتخذها للقيام بمهامه التبليغية. وهذا كان دليلاً على عدائهم وتمردهم الشديدين، ولا يمكن أن تنجو من العقاب  أمة كانت قد أصبحت مجرمةً في حق الله تعالى بعد أن أنكرت رسالته.

فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز (هود: 66 و67)

التفسـير:

لا شك أن العذاب في حد ذاته يسبـب الخزي، وأيَّ خزي! ولكنه تعالى قد بيّن بزيادة كلمة مِن خزيِ يومِئذٍ أن عذابهم كان يحتوي على عناصر الخزي والذل بشكل خاص.

وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (هود: 68)

شرح الكلمات:

الصيحة: العذابُ؛ الغارةُ إذا فوجئ الحيّ بها. (الأقرب).

جاثمين: جثمَ يجثمُ ويجثِمُ جُثوماً: تلبَّد بالأرض (الأقرب).

التفسـير:

لقد وصفَ عذابهم هنا بالصيحة، وفي سورة الأعراف سمّاه رجفةً أي زلزالاً، وفي سورة الشعراء أطلق عليه العذاب فقط، وقال في سورة النحل (دمّرناهم تدميراً)، وجاء وصفه في سورة الذاريات صاعقة، أي البرق المدمر، وفي سورة الجاثية سُمّى عذابهم طاغيةً.. أي المتجاوز للحدود، وأما في سورة القمر فقال: الصيحة، وفي سورة الشمس قال: فدمدَمَ عليهم. ولأول نظرة نجد في هذه الأوصاف اختلافاً، ولكن الواقع ليس هكذا، لأن الصيحة والصاعقة والطاغية تعني العذاب أيضًا، فإذا كان القوم قد دُمّروا بالزلزال فكل هذه الأوصاف ملائمة وصحيحة تماماً.

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (الآية: 69).

شرح الكلمات:

لم يغنوا: غَنِيَ يغنى فلان: عاش (الأقرب).

التفسـير:

لم يقل هنا مثلاً (ألا بُعداً لثمود قوم صالح) كما قال في الآية (61): ألا بُعداً لعادٍ قوم هود . ولا يظننّ أحد أن تلك الزيادة في الآية رقم 61 كانت بهدف القافية، وأنَّ القافية كانت ستختل لذلك لم يقل هنا (قوم صالح).كلا، إن القرآن الكريم لا يزيد الكلمات أو ينقصها من أجل السجع والقوافي، بل يرجع هذا الفرق بين الآيتين إلى حقيقة تاريخية. ذلك أن (عاد) اسم لأُمّتين: عاد الأولى وعاد الثانية. فلو اكتفى القرآن بقوله (ألا بعداً لعاد) دون زيادة (قوم هود) لاشتبه ما يقصده القرآن هناك، ولم يدرك القارئ هل يقصد عاداً الأولى أم الثانية أم الاثنتين. فبزيادة كلمة (قوم هود) وضّح أنه يقصد عاداً الأولى فقط. أما ثمود فهو اسم يطلق على أمة واحدة هي قوم صالح، فما كان هناك احتمال لاشتباه المراد، فلم يقل بعده (قوم صالح).

لقد ورد ذكر ثمود في التواريخ اليونانية أيضاً التي تحدد زمنهم قريباً من زمن المسيح ، وقالت بأن موطنهم هو الحِجر، وأطلقـت عليهم اسـم:(Thamdeni)

(A Suplement To The Oxford English Dictionary, Thamudic)

وذكرتْ عن مقربة من الحِجر موضعاً باسم “فجّ الناقة”. لقد كتب ذلك المؤرخ اليوناني الشهير بطليموس الذي كان قبل الميلاد ب140 سنة (العرب قبل الإسلام – ص64).

وقال أبو إسماعيل صاحب “فتوح الشام”: “إن ثمود ملأوا الأرض بين بُصْرى وعدن، فلعلها كانت في طريق هجرتها نحو الشمال” (العرب قبل الإسلام ص65). أي أن هذا الحادث وقع عندما اضطروا للهجرة من اليمن وقت اشتداد شوكة القبيلتين – حمير وسبأ – فيها.كانت ثمود حاكمة على المنطقة الواقعة في جنوب الأحقاف، وعندما طردتهم حمير وسبأ هاجروا إلى الحجاز فتِهامةَ فالحِجر.

ولكن صاحب “تمدن العرب” يعلّق على ذلك قائلاً: “ولا يخرج الحكم في ذلك من التخمين” (العرب قبل الإسلام، ص65).

الواقع أن العرب يرون أن (ثمود) أيضًا كانوا فرعًا من (عاد)، قاطنين مثلهم في اليمن، وعندما استتب حكم الحميريين في اليمن طردوهم إلى ناحية الحجاز. ولكن لا يقوم عليه أي دليل إلى الآن، إذ لم يعثروا بعد على أي آثار لهؤلاء في جنوب الجزيرة.

وكانت الحِجر تسمّى في القديم “مدائن صالح”، ويتبين من آثارها القديمة أنها كانت خضعت لحكم النبطيين – ويسمَّون أنباطاً أيضًا – قبل الميلاد. وكان وطنهم الأصلي “البتراء” التي تسمّى (Petra) باليونانية. فقد عثروا هناك على كثير من الكتابات النبطية. ولكنهم-إلى جانبها- قد اكتشفوا كتابات باللغة اليمنية أيضاً ويسميها جماعة من المستشرقين “ثمودية” أي كتابات تنتمي إلى قوم ثمود. وهذا الاكتشاف يؤيد موقف الجغرافيين العرب الذين قالوا إن وطن ثمود كان في جنوب الجزيرة وأنهم هاجروا منها إلى الحِجر في الشمال، وإلا كيف تشابهت لغتهم باللغة اليمنية.

والحِجر – التي يبدو أنها كانت عاصمة ثمود – تقع ما بين المدينة المنورة وتبوك. ويسمّى وادي الحِجر هذا واديَ القرى. لقد كانوا ذوي قوةٍ ومنعةٍ كما يصفهم القرآن بقوله الذين جابوا الصخر بالواد (الفجر: 10). ويذكر القرآن الكريم أن زمنهم كان بعد قوم عاد مباشرة حيث قال واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد (الأعراف: 75). وكذلك قال – حكايةً عن رجل مؤمن من قوم فرعون رفَعَ صوت الحق في البلاط الملكي محذراً قومَه ومؤيداً موسى: يا قومِ إني أخاف عليكم مثلَ يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود (غافر: 31 – 32). يتبين من ذلك أن ثمود كانوا أسبق زمناً من زمن موسى لأنه يقدّم هلاكهم دليلاً على صدق موسى.

كلا، إن القرآن الكريم لا يزيد الكلمات أو ينقصها من أجل السجع والقوافي، بل يرجع هذا الفرق بين الآيتين إلى حقيقة تاريخية.

وهناك استدلال آخر يؤكد أن هؤلاء كانوا قد هلكوا وبادوا قبل موسى أيضاً بكثير. فإنهم في أواخر زمنهم كانوا حاكمين على ما بين شمال الجزيرة وجنوب فلسطين، ومن ناحية أخرى يخبرنا القرآن أنه في زمن موسى كانت هذه المنطقة خاضعة لقوم مدين. وبنو مدين هؤلاء كانوا من نسل مِديان بن إبراهيم من زوجته الثالثة “قطورة”. وكانوا يعيشون في هذه المنطقة عندما أخرج سيدنا يوسف من البئر وأُخذ إلى مصر (التكوين: 25). فتبين من ذلك أن ثمود ما كانوا حاكمين على تلك المنطقة في زمن موسى، بل كانوا قد هلكوا حتى قبل إبراهيم أو كانت شوكتهم قد انكسرت تماماً، وإلا لم يستطع بنو مديان انتزاع حكم المنطقة من أيديهم.

ولا أقصد بهذا الاستدلال بيان حقيقة تاريخية فحسب، بل أقصد أيضاً الردّ على ما يطعن به المؤرخون المسيحيون في القرآن الكريم بأنه لا يراعي الترتيب الواقعي لدى سرد أحداث الماضي. (الأبطال وعبادتهم ص87). الحق أن القرآن الكريم في كل مكان قد قدّم ذكر هود على ذكر صالح ثم ذكر إبراهيم فموسى عليهم السلام، مما يعني أنه قد سرد حتى الأحداث التي اندثرت آثارها سرداً صحيحاً وبترتيب صائب محكم للغاية.

ونظراً إلى ما سبق ذكره من أدلة وآثار، نستطيع القول على وجه التخمين بأن الزمن الحقيقي لانحطاط ثمود بحوالي 3600 سنة من اليوم.

لقد قال البعض بأن ثمود هم عاد الثانية، ولكن غيرهم لا يتفقون مع هذا الرأي، بل يرون أن ثمود جاءوا بعد هلاك عاد.

وكأن عادًا الأولى كانوا قد هلكوا في زمن هود ، وجاء بعدهم عاد الثانية، وأما (ثمود) فإما أنه اسم آخر لعاد الثانية أو هم أمة أخرى خرجت من نسل مَن بقي منهم بعد العذاب.

وقد ذكر الشيخ محمد سليمان الندوي في كتابه “أرض القرآن”: “لقد عثر بعض المسلمين في زمن معاوية   على إحدى الكتابات الأثرية الثمودية – مع العلم أن الأثريين الغربيين لا يثقون بهذه الرواية – ولكن لم يُعرف مصيرها بعد ذلك (أرض القرآن ص124 و183). وقد عثر عليها الآن مرة أخرى المستشرق الإنجليزي (Wellested) في سنة 1834. ونُشرت ترجمتها في مجلة (Asiatic Society Journal)، ونقلها عنها المستشرق الإنجليزي (Forester) في كتابه. واللغة الأصلية لهذا الأثر حِمْيَرِية. وهي في الواقع لهجة عربية لأهل جنوب الجزيرة العربية، ولكن المستشرقين سمّوها الحميرية. لقد عثروا عليها في مكان باسم “حصن غراب” قرب عدن. وإليكم تعريب ما جاء فيها:

“لقد عشنا طويلاً في هذا القصر في مأمن من البؤس والشقاء. كانت الأنهار تمد قنواتنا بالمياه، وكانت أمواج البحر الهائج تصطدم في غضب بجدران الحصن، وكانت مياه الينابيع تنساب بخرير عذب بين النخيل التي يغرسها البستانيون في أراضٍ صالحة خصبة في وادينا.كنا نزرع الأرز، ونصيد البقر الوحشي والأرانب الفتية. وكنا نداعب السمك حتى يخرج من الماء. كنا نمشي متبخترين وعلينا الحُلل السندسية الخضراء المزركشة الزاهية الألوان. وكان يحكمنا ملوك ذوو أفكار نزيهة طيبة، وكانوا يعاقبون الأشرار وفق شريعة هود. كنا ندوّن القرارات والأحكام الصائبة في كتاب. وكنا نؤمن بالمعجزات وبيوم القيامة وبسرّ “نث نون”. هجم علينا اللصوص وخاصمونا فأسرجنا الجياد، وتصدى لهم فتياننا الأشراف برماح صلبة حداد. كان البواسل الأبيّون من رجالنا ونسائنا يقاتلون على متون خيل طويلة الأعناق كماتيّ الألوان، فلم تزل سيوفنا تُثْخنُ في العدو الجراحَ وتقطعهم إرباً، إلى أن قمنا بغارة على قلب الأعداء، فهزمناهم وكسرنا شوكتهم، وكانوا من أسوأ الخلق”.

يتضح من هذه العبارة الأثرية أن القوم كانوا ذوي حضارة وثقافة حيث كانوا يقومون بتدوين القرارات القانونية الهامة، لتكون مرجعاً لرجال القضاء، وهذا كما يفعل الإنجليز اليوم حيث ينشرون في دوريات خاصة التقارير عن أهم قرارات المحاكم.

إننا لا نستطيع الجزم ما إذا كانت هذه الأمة المذكورة في الأثر قد مضت قبل سيدنا صالح أم بعده، إذ من الممكن أن يكون قد بقي جزء من قوم هود في جنوب الجزيرة ولم يهاجروا مع الباقين. إلا أنه من المؤكد أنهم كانوا من قوم ثمود وقد بُعث سيدنا صالح إليهم أو إلى إخوانهم الذين هاجروا إلى الشمال.

ولا أقصد بهذا الاستدلال بيان حقيقة تاريخية فحسب، بل أقصد أيضاً الردّ على ما يطعن به المؤرخون المسيحيون في القرآن الكريم بأنه لا يراعي الترتيب الواقعي لدى سرد أحداث الماضي.

ويتضح من قوله تعالى تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً (الأعراف: 75) أن ثمود كانوا حاكمين على مناطق الجبال والسهول معاً. كما أن قوله تعالى في جنّاتٍ وعيون وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيم (الشعراء: 148 – 149) يشير إلى أن أرضهم كانت ذات عيون وبساتين وزروع ونخيل من نوع جيد. وهكذا فإن هذا الأثر يصدّق ويوثِّق كل كلمة وردت في القرآن الكريم وصفاً لهؤلاء القوم.

يبدو أنه بعد صالح بقليل دبّ الفساد في قومه “ثمود” وأخذوا بالانحطاط، إذ إننا لا نجد بعد زمنه لبضعة قرون أي أثر ولا ذكر لهم بين الأمم الغالبة. لقد ذُكرت ثمود بعد ذلك في نُصب تذكاري للملك الآشوري سرجون أو شرغون أقامه تذكاراً لانتصاره على العرب، وكان زمن ملكه ما بين 722 إلى 705 قبل الميلاد.

وقد ذكر هذه الأمةَ المؤرخون اليونانيون أيضاً وهم: ديدورس (80 قبل الميلاد)، وبليـني (79 قبل الميلاد)، وبطليموس (140 قبل الميلاد). وعندما هاجم الملك الرومي جستين العربَ كان بين جنوده ثلاث مائة جندي من أمة ثمود. أما عند ظهور الإسلام فإن كل أثر لهذه الأمة كان قد انمحى واندثر. (أرض القرآن، ص198)

Share via
تابعونا على الفايس بوك