حكمة ولادة المسيح الناصري بدون واسطة أب
  • ما معنى أن يتسب المسيح الناصري إلى بني إسرائيل من جهة الأم دون الأب؟
  • ما النبوءة المتضمَّنة في هذا الأمر؟

 ___

واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (مريم 17)

شرح الكلمات:

انتبذتْ: يقال انتبذَ: اعتزلَ وتنحَّى ناحيةً (الأقرب).

شرقيًّا: الشرقيّ: المنسوبُ إلى الشرق، وكلُّ مكان في جهة الشرق، وكلُّ ما اتجه نحو الشرق (الأقرب).

التفسير:

الذكر هنا جاء بمعنى السرد والحكاية أو التذكر، فلو كان المراد من الكتاب هنا القرآن الكريم فستعني هذه الآية: اسْرُدْ قصة مريم في القرآن الكريم؛ أما إذا كان الكتاب إشارة إلى الكتاب المقدس فالمعنى استحضِرْ في ذهنك قصة مريم، أو اسردْها، كما وردت في الكتاب المقدس. ولكن الظاهر أن كثيرًا من الأباطيل قد دُسّت في الكتاب المقدس فيكون معنى الآية انظر فيما ورد فيه من أحوال مريم، واقرأْ أيضًا بيان القرآن الكريم في شأنها، ثم قارِنْ بينهما حتى تعلم أي الكتابين عرَض أحوال مريم بما يليق بمكانتها.

لقد استهلّ الله تعالى هذه السورة بقصة زكريا وذكَر خلالها ولادة يحيى لأن الأنباء كانت تؤكد أن ولادته تكون إرهاصًا للمسيح، وما كان المسيح ليظهر في الدنيا ما لم يظهر قبله الشخص الذي يكون بروزًا ومَظهرًا لإيليّا. والآن ذكر الله تعالى قصة مريم بعد قصة يحيى، ذلك لأن ظهور يحيى كما كان ضروريًّا قبل المسيح لكونه آية وعلامة على ظهوره، كذلك كانت ولادة المسيح من غير أب آيةً عظيمة لليهود. فقد حذرهم الله بها أن النبوة ستنقطع الآن عن بني إسرائيل، وأن هذه النعمة ستُحوَّل الآن إلى إخوانهم الآخرين.

لقد سمعنا من سيدنا المسيح الموعود عشرات المرات أن ولادة المسيح من غير أب كانت إشارةً من الله تعالى لليهود أنه قد أعرض عنهم وأن النبوة ستنتقل الآن عن بني إسرائيل إلى أمة أخرى بسبب معاصيهم. ذلك أن نَسَب المرء إنما يُعرف من قبل أبيه، فخلق الله المسيحَ من غير أب لينبه اليهودَ أنه لم يبق بينهم ذَكَرٌ يصلح أحد من أولاده للنبوة. ومن أجل ذلك فإن الذي نجعله الآن نبيًّا مولود من غير أب، وهو إسرائيلي من قبل الأم فقط. ولكن النبي القادم لن يكون إسرائيليا حتى من قبل الأم أيضًا لأن الله تعالى قد قرر أن يقطع كل صِلاته عن بني إسرائيل.

لقد بين سيدنا المسيح الموعود هذا الأمر مرارًا وتكراراً في كتبه منها مثلاً كتابه “مواهب الرحمن” وغيره (انظر مواهب الرحمن ص 290-291). وكما قلت فقد سمعنا ذلك من لسانه مباشرة عشرات المرات، حيث بيّن أن مريم كانت علامة تحذير رباني أنه قد حان أن تنتقل النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وآن الأوان لأن تتحقق نبوءة موسى التي قال فيها: “يقيم لك الربُّ إلـهُك نبيًّا مِن وسطك مِن إخوتك (أي من بني إسماعيل) مثلي” (التثنية 18: 15).

فلأن السيدة مريم أيضًا كانت آيةً من آيات الله تعالى فعلينا أن نفحص جيدًا لنعرف ماذا قال القرآن والكتاب المقدس في وصفها.

إن والدة عيسى تسمى في اللغة العربية مريم، ونُطْقُها في العِبرية مارية ومريم وميريوم. إن الإنجيل كلما ذكر أم المسيح استخدم كلمة مريم، ولكنه حين ذكر النساء الأخريات سماهن حينًا مريم، ومارية حينًا آخر. فهذه هي الأسماء التي كانت رائجة في ذلك العصر. ويبدو أنهم قد استخدموا لأم المسيح كلمة مريم فقط تعظيمًا للمسيح .

نعثر على اسم “مريم” أول مرة في التوراة حيث أُطلق هذا الاسم على أخت موسى (الخروج 15: 20). والأغلب أن أخت موسى هذه هي التي ذهبت تمشي وراءه تبصره عن كثب بعد أن قذفتْه أمُّه في النهر كما ورد في القرآن الكريم (القصص: 12). ولكن اسمها في التوراة هو مِريم لا مَريم. ونجد هذا الاسم بعد ذلك في العهد الجديد، حيث جاء نطقها مَريم (متى 1: 18).

وقد اختلفوا في معنى كلمة مريم. فمن المعاني التي ذكروها: البحر المالح، نجم البحر، الملكة، ختمُ السيّدِ، أستاذ البحر؛ مِر البحر. علمًا أن المر (Myrrh) نوع من الصمغ يُستعمل في بعض الأدوية.

ويقول العلماء الذين اهتموا بتحقيق اللغة العبرية إن سبب اختلافهم في بيان معنى مريم يرجع إلى وجود كلمات مشابهة لمريم في العربية والفارسية وبعض اللغات الأخرى التي استنتج منها الناس هذه المعاني المختلفة. خذوا مثلاً “مر البحر”، فإن سبب ذكرهم هذا المعنى هو أن التوراة قد ذكرت اسم أخت موسى “مِريم”، و”المِر” نوع من الصمغ، و”اليم” هو البحر في اللغة العربية؛ فقالوا إن “مريم” يعني مِر البحر. وقد استنتجوا المعاني الأخرى من اللغة الفارسية وبعض اللغات الأخرى.

ولكن الباحثين الذين قاموا ببحث متكامل للغة العبرية يقولون إن كلمة مريم تعني الجموح أو السمين. وكلا المعنيين متشابهان، لأن الولد الذي يكون سمينًا هو الذي يكون جموحًا صعب المراس عادة. ويُظن أن المولود الذي كانت ولادته صعبة لكونه ضخمًا كان يُسمى مريم.

لقد سمعنا من سيدنا المسيح الموعود عشرات المرات أن ولادة المسيح من غير أب كانت إشارةً من الله تعالى لليهود أنه قد أعرض عنهم وأن النبوة ستنتقل الآن عن بني إسرائيل إلى أمة أخرى بسبب معاصيهم. ذلك أن نَسَب المرء إنما يُعرف من قبل أبيه، فخلق الله المسيحَ من غير أب لينبه اليهودَ أنه لم يبق بينهم ذَكَرٌ يصلح أحد من أولاده للنبوة. ومن أجل ذلك فإن الذي نجعله الآن نبيًّا مولود من غير أب، وهو إسرائيلي من قبل الأم فقط. ولكن النبي القادم لن يكون إسرائيليا حتى من قبل الأم أيضًا لأن الله تعالى قد قرر أن يقطع كل صِلاته عن بني إسرائيل.

وقال البعض الآخر إن معيار الجمال يختلف من بلد إلى آخر، فإن الشعوب السامية، كاليهود والعرب، تعتبر الاكتناز علامة الجمال؛ ومن أجل ذلك نجد صاحب قصيدة “بانتْ سُعادُ” يقول في وصف حبيبته: “هَيفاءُ مُقبِلةً عَجْزاءُ مدبِرةً”.. أي إذا نظرتَ إليها قادمةً وجدتَها ضامرةَ البطن دقيقةَ الخصرِ، وإذا رأيتَها وهي راجعة بدَتْ كبيرةَ العجيزة. فثبت أن الاكتناز كان معيار الجمال عندهم، ومن أجل ذلك سموا الطفلة الجميلة السمينة مريم.

غير أن بعض الباحثين يرون أنهم كانوا يعطون هذا الاسم بسبب الجمال فقط، لا الاكتنـاز. والأغلب أنهم قالوا ذلك لأن السيدة مريم لا تبدو مكتنـزة في الصور الشائعة عند النصارى.

لقد ذكرتُ من قبل أن الإنجيل قد استخدم لفظ مريم أحيانًا، ومارية أحيانًا أخرى، ولكنه كلما ذكر والدة المسيح استخدم لفظ مريم دائمًا. ويبدو أن هذا الاسم كان شائعًا بكثرة في ذلك العصر حيث سُمّيت به نساء كثيرات في الإنجيل.

أحوال مريم:

إن الإنجيل صامتٌ كلية فيما يتعلق بأحوال مريم قبل ولادة المسيح . فكل ما نعلمه من إنجيل متى 1: 18 هو أن مريم العذراء لما حملت بالمسيح أراد خطيبها يوسف أن يطلقها، ولكن الملاك نهاه عن ذلك، معتبرًا إياها زوجة ليوسف، وأمره أن يأخذها إلى بيته (متى 1: 18-20). ولكن هذا الإنجيل لم يذكر شيئًا عن أحوال مريم قبل هذا الحادث.

أما مرقس فلم يذكر في إنجيله معجزة ولادة المسيح بتاتًا.

أما لوقا فقد سجل في إنجيله معجزة ولادة المسيح، ولكنه لم يبدأ الحديث عن مريم إلا بعد أن بشّرها الملاك بالحمل بالمسيح. فقد ورد فيه أن مريم كانت عذراء، ومخطوبة إلى يوسف، ولكن قبل أن تُزَفّ إليه جاءها الملاك وبشّرها بالحمل فحملت (لوقا 1: 27-35). ولكن لوقا لا يسلط أي ضوء على أحوالها قبل الحمل. إنه صامت كلية عن أحوال والديها وعن صغرها. إن كل ما قاله هو أن مريم كانت من أقارب زوجة زكريا، وكانت تتردد إلى بيتها من حين لآخر.

أما يوحنا فهو صامت تمامًا بهذا الشأن.

أما القرآن الكريم فقد تحدث عن عائلة مريم وعن أمّها أيضًا، كما سجل حدث ولادتها الذي ينطوي على إشارة إلى ولادة المسيح أيضًا (آل عمران: 37). من أجل هذه المعجزة العظيمة كان لزامًا وجود مؤشرات ابتدائية، وإن القرآن الكريم هو الذي ذكر تلك المؤشرات، أما الإنجيل فلم يذكرها أبدًا. يقول الله تعالى في سورة آل عمران إن امرأة من عائلة عمران (أي من عائلة موسى ) شعرت في قلبها بأن الدين في انحطاط وفساد، وأن هناك حاجة ماسة إلى الذين يقفون حياتهم لإصلاح الدين، فقررت في نفسها أن الله تعالى لو آتاها ولدًا فستَنذِره في سبيله. فقطعت مع ربّها وعدًا بذلك قائلةً رَبِّ تَقبَّلْ مني هذا النذر وبارِكْ فيه. فلما وضعتِ المولود وجدتْ أنه ليس ذَكرًا، بل هي أنثى. فأصيبت بخيبة الأمل، لأن البنت لن تقدر على تحقيق الهدف الذي من أجله نذرت مولودها. فدعتْ ربَّها ثانية في حزن عميق وقالت: رَبِّ ماذا أفعل الآن، فإني قد وضعتُ بنتًا، مع أن الله تعالى كان على علم أن الذَّكَر الذي كانت تتمناه لا يمكن أن يفعل ما ستفعله تلك الأنثى.

الواقع أن الصالحين في ذلك العصر كانوا يشعرون في أنفسهم بالفساد الذي قد استشرى، ولكن ما كانوا يعرفون الموعد الصحيح لزوال ذلك الفساد. كان الناس يرون الفساد المتفشي، وكان محبّو الدين منهم، ذكورًا وإناثًا، متحمسين لإصلاحه. ففكرت النساء أن ينذرن أولادهن لخدمة الدين، ولكن ما يدريهن بالموعد المناسب لإصلاحه. فلو أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم عندئذ لوُلد المسيح قبل الموعد المناسب بعشرين سنة؛ في حين كان لزامًا أن يولد يحيى قبله ليكون إرهاصًا لـه. لذلك فاستجاب الله دعاءها بطريق آخر، فأعطاها بنتًا ستلد فيما بعد ولدًا عظيمًا بدلاً من أن يهبها ولدًا يخدم الدين. وهكذا استجيب دعاؤها من جهة، ومن جهة أخرى لم يتغير الموعد المقدر من الله تعالى لإصلاح ذلك العصر. فلو أن الله العليم بالظروف استجاب دعاء أم مريم في حينه ما قدر ابنها على القيام بالخدمة الدينية التي كانت تريدها. فوهب لها البنتَ بدل الابن محققًا الأنباء القديمة بأن عذراء ستلد ابنًا غير عادي يتسبب في نجاة اليهود (إشعياء 7: 14). كما استُجيب دعاء أم مريم أيضًا حيث ولدت بنتُها هذه ابنًا تسبب في نجاة اليهود.باختصار بما أن أم مريم نذرتْ مولودها في سبيل الله تعالى فوضعتها تحت رعاية العلماء والأحبار. ولكن لا لتترهب وتعيش بدون الزواج، وإنما لكي تتعلم منهم الدين. وقد قلتُ ذلك لأن دعاء أم مريم وإني أُعيذها بك وذريتَها من الشيطان الرجيم (آل عمران: 37) يوضح جليًّا أنها فكرت أنها لو وضعتْ بنتها مريم تحت رعاية العلماء لربّوها تربية دينية جيدة، فتتمكن هي الأخرى من تربية أولادها على ما يرام، فسلّمتها للأحبار والزهّاد العابدين؛ ومع ذلك كانت تريد لِبنتها أن تتزوج فيكون لديها أولاد تربيهم تربية جيدة، والدليل على ذلك هو دعاؤها لمريم ولأولادها أيضًا بأن يحميهم الله تعالى من الشيطان الرجيم.

فاستجاب الله دعاء الأم فكان فضل الله على مريم عظيمًا حيث كفّلها زكريا الحبر، كما تربّت على يد الأحبار الآخرين، وأُولعت بالدين ولعًا كبيرًا، حتى أيقنت في صغرها أن كل ما يناله المرء إنما يناله من عند الله تعالى. وإن يقينها هذا هو الذي أثر في زكريا بشدة، فدعا ربه أن يرزقه ولدًا، فوُلد يحيى. وهكذا تسببت أم عيسى في ولادة النبي الذي كان بدوره إرهاصًا لعيسى، وبالتالي أوجدت الحلَّ لأكبر معضلة واجهت ابنها فيما بعد. ذلك أن صدق دعوى المسيح ما كان ليتحقق إلا بمجيء إيليا، فتسبب تصرفٌ بريء من أم المسيح في ولادة يحيى الذي صار مثيلاً لإيليا.

أما أحوال مريم الأخرى فهي بحسب الإنجيل كالآتي:

جاء يوسف بمريم إلى بيته بعد أن حملت بالمسيح (متى 1: 24)، ولكن لم يذكر الإنجيل أي شيء عن زواجهما. وهذا يوضح أن الخِطبة كانت تُعتبر بمنـزلة الزفاف عند اليهود. ولم يمسّ يوسف مريمَ حتى ولادة المسيح. أما بعد ولادته فمَسَّها يوسف، فولدت أولادها الآخرين. (متى 1: 25)

وورد أن يسوع كان يكنّ نفورًا تجاه أبويه، وعندما أعلن دعواه لم تؤمن به أمُّه، بل كانت تتعجب منه.

وورد أيضًا: “وفيما هو يكلّم الجموعَ إذا أُمُّه وإخوته وقفوا خارجًا طالبين أن يكلّموه، فقال لـه واحد: هوذا أمُّك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلّموك. فأجاب وقال للقائل لـه: مَن هي أمّي، ومَن هم إخوتي؟ ثم مدَّ يدَه نحو تلاميذه وقال: ها أمّي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئةَ أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي.” (متى 12: 46-50).

فثبت من ذلك أن المسيح لم يعدّ أُمَّه ولا إخوته من المؤمنين. وهذا يعني أن السيدة مريم كانت بحسب الإنجيل منكرة كافرة بالمسيح.

علمًا أن مرقس ولوقا قد أكدا هذا الأمر نفسه في إنجيليهما (مرقس 3: 31-35، ولوقا 8: 19-21). أما يوحنا فقد لزم في إنجيله السكوت تجاه ذلك. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك