إغواء الأبالسة
  • طاعة النظم الروحانية لا تخالف حرية الضمير
  • جنة آدم والجنة التي حُرم منها إبليس
  • مدى تأثير الشيطان وأعوانه في بني آدم
__
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33 -34)

التفسـير:

أي أجاب رأسُ الفئة المعارضة لآدم: إن آدم كائن ذليل حقير لذلك لا يعاف الطاعة والانقياد، ويرى هو وأتباعه تقليد الآخرين مفخرةً، ولكني لست ذليلاً حقيراً مثلهم إذ خلقتَني مطبوعًا على الحرية والإباء، فكيف يمكن لي أن أرضى بطاعته. هذه العبارة أيضًا هي من قبيل المجاز والتمثيل، إذ تعني أن العدو الأكبر لآدم وأتباعَه اعتبروا النظام الذي جاء به آدم منافيًا لحرية الضمير ورأوا في اتّباعه إهانةً لهم، فرفضوا الخضوع له، ظانين أنهم أحسن نظامًا وأمثل طريقًا مما يدعو إليه آدم. وقد عُبّر عن هذا المفهوم هنا بمصطلح الخِلقة الطينية والخِلقة النارية.

وبما أن النبوة سارية إلى يوم القيامة فلذلك قال الله لإبليس: وإنّ عليك اللعنةَ إلى يومِ الدِّين . ولا تتحدث هذه الآية عن أي عذاب لهم لأن عذابهم سيبدأ بكل شدة وقوة بعد حلول يوم الدين.

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيم (35)

شرح الكلمات:

رجيم: (انظرْ شرح الكلمات للآية رقم 16)

التفسـير:

قال المفسرون أن ضمير الغائب في منها يعود على الجنة (تفسير البغوي والقرطبي، سورة الحِجر، قوله تعالى: قال فاخرجْ منها…). ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: إذا كان المراد هنا الجنة الحقيقية التي يدخلها الناس بعد الموت.. فأولاً: مِن المستحيل أن يدخل فيها الشيطان، وثانيًا: مَن يدخل فيها لا يمكن أن يُخرَج منها كما يؤكد ذلك القرآنُ الكريم في آيات كثيرة.* فكيف سُمح للشيطان بالدخول فيها، وكيف جاز طردُ آدم منها؟ ولو قيل بأنها لم تكن بالجنة الحقيقية، بل كانت جنة على هذه الأرض التي نعيش عليها فأيضًا ينشأ سؤال: ما دام الله تعالى قد قام بطرد الشيطان منها فكيف استطاع أن يدخل فيها مرة أخرى لإغواء آدم؟

ولذلك أرى أن الجنة المشار إليها هنا لم تكن جنةً حقيقية، كما لم تكن منطقةً من هذه الكرة الأرضية يمكن تسميتها بالجنة، بل المراد منها ذلك المقام الروحاني من رضوان الله تعالى الذي يتمتع به الناس قبل أن يُبعث بينهم نبي من الأنبياء. ذلك أن الحجة لا تكون قد أقيمت عليهم عن طريق النبي، وبالتالي لا يزالون – رغم كونهم على الخطأ – يتمتعون برحمة الله ورضوانه؛ ولكن عندما يُبعَث بينهم نبي ويكفرونه فإنهم يُحرَمون من جنة الرضوان الإلهي.ومما يؤيد موقفي هذا أن القرآن الكريم قد صرح في سورة البقرة وكذلك في مواضع أخرى أنه بعد أن أغوى إبليس آدم طُردت ذريةُ كلِّ منهما من الجنة. فثبت أن طرد الشيطان من الجنة لعدم سجوده لآدم ينطوي على مفهوم آخر.

وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّين (36)

شرح الكلمات:

اللعنة: لَعَنَه لَعْنًا: طرَده؛ وأبعدَه من الخير؛ وأخزاه؛ وسبَّه. واللعنة: اسمٌ من اللعن؛ العذابُ (الأقرب).

يوم: اليوم: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ الوقتُ مطلقًا (الأقرب).

الدِّين: هو الجزاءُ والمكافأة؛ الطاعةُ؛ الذلُّ؛ الحسابُ؛ القهرُ والغلبة والاستعلاء؛ السلطانُ والمُلك والحُكم؛ التدبيرُ؛ اسمٌ لجميع ما يُعبَد به الله؛ الملةُ؛ الورعُ؛ القضاءُ (الأقرب).

التفسـير:

يمحو الله تعالى ذكرَ رأس المكفّرين لأنبيائه، ويُبقي على ذكر أنبيائه الكرام إجمالاً أو تفصيلاً. والنبوة هي في الواقع كسلسلة ينخرط فيها كل نبي قديم مع أتباعه بكل نبي جديد وأتباعه كالحلقات المتصلة.. فلذلك نجد كل نبي يذكر معارضي الأنبياء السابقين بالسوء دائمًا، وإن لم يلعنهم بذكر أسمائهم فعلى الأقل يكنّ في قلبه كراهية شديدة تجاه أفعالهم المنكرة. وبما أن النبوة سارية إلى يوم القيامة فلذلك قال الله لإبليس: وإنّ عليك اللعنةَ إلى يومِ الدِّين . ولا تتحدث هذه الآية عن أي عذاب لهم لأن عذابهم سيبدأ بكل شدة وقوة بعد حلول يوم الدين.

قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (37)

شرح الكلمات:

فأَنْظِرْني: أنظَرَه الدَّينَ: أخَّره (الأقرب).

يُبعَثون: بَعَثَه بَعْثًا: أرسَلَه؛ أثارَه وهَيَّجَه. بَعَثَ الموتى: أحياهم. بعثَه على الشيء: حمَله على فعله. والبعث: النشرُ (الأقرب).

التفسـير:

هذا الكلام أيضًا من قبيل المجاز أو لسان الحال، وليس أن الشيطان أو أشباهه طلبوا بالفعل من الله تعالى مهلة كهذه.

لقد سبق أن بينتُ أن هذه الآيات تتحدث عن آدم وغيره من الأنبياء خصوصًا، وعن أبناء آدم عمومًا، مع العلم أن معنى نفخ الروح في آدم والأنبياء الآخرين هو نزول الوحي عليهم، وأما معناه في خصوص أبناء آدم أي البشر عمومًا فهو تكميل النفس الإنسانية. وأما قول الشيطان لله تعالى: فأَنظِرْني إلى يوم يُبعَثون فمعناه أيضًا يختلف بالنظر إلى الفئتين:

فيعني بالنسبة إلى الفئة الثانية أي البشر عمومًا: يا رب، آتِني المهلة لإغوائهم حتى ما قبل بعثتِهم روحانيًّا.. أي ما لم يحمِ الإنسان نفسه من هجمات الشيطان بدخولـه في عداد عباد الله المخلَصين يُمنَح الشيطان وذريتُه فرصة إغوائه.

ومما يدل على أن البعث هنا روحاني وليس بمعنى حشر الأجساد أنه تعالى لم يقل هنا “إلى يوم الموت” بل قال إلى يوم يُبعثون . ومعلوم أن إمهال الشيطان لإغواء البشر إلى يوم البعث الحقيقي مستحيل، لأن اختبار الإنسان ينتهي بموته، وليس هناك ديانة تعتقد بأن الشيطان أو الملائكة يستمرّون في إغواء الإنسان أو هدايته بعد موته أيضًا إلى أن تقوم القيامة. فلو أخذنا “يوم البعث” هنا بمعنى حشر الأجساد لخالفْنا تعليم القرآن وخالفْنا أيضًا ما يمليه علينا العقل والمنطق السليم. إذن فكل إنسان عاقل سوف يعتبر يوم البعث هنا بمعنى البعثة الروحانية، وأن المراد من الآية هو أن الشيطان أو أظلاله من البشر إنما يستطيعون إغواء أحد من الناس ما لم تتم بعثته روحانيًّا.. أو بتعبير آخر.. ما لم تتيسر لـه النفس المطمئنة التي تطيع الله تعالى دائمًا؛ أما بعد حصوله على النفس المطمئنة فإن الشيطان وذريته يَيْئَسُون منه، ويشرعون في إيذائه وتعذيبه بدلاً من محاولة إغوائه وتضليله.

وأما بالنظر إلى آدم وخلفائه الحقيقيين وهم الأنبياء فالمراد من إِنظار الشيطان هو أنه يُسمَح للشيطان وأتباعه بالطعن في الأنبياء بأنواع التهم والأكاذيب، وعرقلةِ طريقهم، ومهاجمتِهم وتعذيبهم، إلى أن يأتي يوم بعث هؤلاء الأنبياء..أي إلى أن يأتي الزمن المقدر لانتصارهم. وبتعبير آخر، يُمهَل الشيطان وأعوانه وفق الوعد الإلهي المذكور في قوله تعالى إلا مَن استرقَ السمعَ وقوله إلا مَن خَطِفَ الخَطفةَ لكي يطعنوا ما شاءوا في تعاليم الأنبياء كذبًا وزورًا، ولكن عندما يأتي يوم غلبتهم تذهب ريح هؤلاء الشياطين مثل الزبد. هكذا جرت سنة الله منذ زمن آدم إلى عصر نبينا حيث لم يزل الله تعالى يُمهِل الكفار، بناءً على بعض حِكمه، ليملئوا الدنيا صراخًا وضجيجًا ضد الرسل، ويمكروا بهم بصنوف الحيل والخُدع، إلى أن يأتي يومُ بعثهم حيث ينادي الله رسلَه وجماعاتِهم قائلاً: ها لقد انتهى زمن اختباركم، فهُبُّوا الآن واستولُوا على العالم؛ فأصبح الأنبياء ظاهرين منتصرين، وصار المعارضون خامدين خمود الزَبَد، بل آمن كثير منهم وانضموا إلى جماعة الأنبياء. ولا تعني هذه الآية أن الشيطان بالفعل يطلب من الله تعالى المهلة في زمن الأنبياء فيمنحه إياها، بل إنه كلام مجازي كما أسلفتُ، ومعناه أن الشياطين أي الأعداء يتمنون في قلوبهم أن ينقضّوا على أنبيائهم فيسحَقوهم سحقًا، ويسمح الله تعالى لهؤلاء الماكرين بأن يدخروا وسعًا لتحقيق أمانيهم الخبيثة، ولكن هذا السماح يستمر إلى يوم بعث الأنبياء فقط، ثم يجعل الله رسله غالبين، ويردّ أعداءهم خائبين، فيرون هلاكهم بأم أعينهم.

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُوم (37 – 38)

التفسـير:

أي سنمنحكم المهلة، ولكن فقط إلى ذلك الوقت الذي أخّرنا إليه انتصارَ رسلنا، ولكن حين يأتي زمن غلبتهم ستنتهي فترة المهلة هذه، وسنسحقكم بآياتنا القهرية أيها الشياطين أئمةَ الكفر.

وأما يوم الوقت المعلوم فهو ما سبقت الإشارة إليه في بداية السورة بقوله تعالى وما أَهلَكْنا من قرية إلا ولها كتابٌ معلوم (الآية 5).. أي أن كل قرية من القرى التي عارض أهلُها رسلَنا لم نهلكها في أول يوم، بل أَمْهَلْنا كلَّ واحدة منها بالنظر إلى المهمّة الموكولة إلى كل رسول. فمنهم من أجّلنا عقابهم قليلاً وأهلكناهم في حياة نبيهم، كما حصل في زمن سيدنا موسى وفي زمن نبينا الكريم ؛ ومنهم من أمهلناهم طويلا، ثم أهلكناهم بعد رحيل نبيهم كما حصل مع المسيح .

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (39 – 40)

شرح الكلمات:

أغويتَني: غَوِيَ الرجل وغَوَى: ضلَّ. وأغواه: أضلَّه (الأقرب).

التفسـير:

هذا الكلام أيضًا من قبيل المجاز أي لسانِ حال إبليس، والرسالة التي تنطوي عليها هذه الآية هي أن الذين يكفُرون بالرسل في بادئ الأمر يمنعهم العناد من الإيمان فيما بعد أيضًا، فيحترقون كمدًا وغضبًا بما لم يوفَّقوا للإيمان في أول الأمر، وبالتالي يريدون القضاء على جماعة الأنبياء، فلا يألون جهدًا في تعذيب المؤمنين ليرتدوا عن دينهم. وقد أكد الله على هذا المعنى في موضع آخر من القرآن الكريم بقوله تلكَ القُرَى نقصُّ عليكَ من أنبائِها ولقد جاءتْهم رسلُهم بالبيِّناتِ فما كانوا لِيؤمنوا بما كذَّبوا مِن قبلُ كذلكَ يطبَعُ الله على قلوبِ الكافرين (الأعراف:102).. أي أن أئمة الكفر إنما يُحرَمون من الإيمان لأنهم كفروا برسلهم في أول الأمر، فيرون في تصديقهم للرسل فيما بعد خزيًا وعارًا عليهم، فيزدادون عداءً، ويُضلّون باقي القوم، تنفيسًا لغيظهم.

ولكن عندما يأتي يوم غلبتهم تذهب ريح هؤلاء الشياطين مثل الزبد. هكذا جرت سنة الله منذ زمن آدم إلى عصر نبينا حيث لم يزل الله تعالى يُمهِل الكفار، بناءً على بعض حِكمه، ليملئوا الدنيا صراخًا وضجيجًا ضد الرسل، ويمكروا بهم بصنوف الحيل والخُدع، إلى أن يأتي يومُ بعثهم …

ولقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في مستهـلّ هذه السورة أيضًا في قول الله : ربَما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين (الآية 3).. أي كم يتمنى الكفار ليتهم آمنوا أولَ الأمر كيلا يروا هذا الخزي والهوان، ولكن ما دام كُفرهم قد حرَمهم هذا الشرفَ أولَ مرة، فلا يُؤمنون رغم حسرتهم هذه، بل يزدادون تعصبًا وعنادًا.

وأما تحدّي الشيطان لتضليل الناس في قوله ولأُغوِينّهم فمثاله ما ذكره القرآن الكريم على لسان معارضي شعيب في قولـه تعالى لَنُخرِجَنّكَ يا شعيبُ والذين آمَنوا معكَ مِن قريتِنا أو لَتعُودُنّ في ملَّتِنا قال أَوَلو كنّا كارهين (الأعراف: 89)، وقولـه تعالى: وقال الذين كفَروا لِرسلِهم لَنُخرِجَنّكم مِن أرضِنا أو لَتَعودُنّ في ملّتنا (إبراهيم: 14). وكأن معارضي كل نبي أعلنوا: ما دمنا لم نوفَّق نحن للإيمان فلن نبرح حتى نردّ المؤمنين عن دينهم. وهكذا كان دأب أعداء الرسول حيث يقول القرآن عنهم ويريدون أن تَضلُّوا السبيلَ (النساء: 45).. أي أن أعداءه من اليهود يريدون أن يرتد المسلمون عن دينهم. وكذلك ورد عن الكفار الآخرين ولا يزالون يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكم عن دينكم إِنِ اسْتطاعوا (البقرة: 218).. أي أنهم لن يبرحوا يحاربونكم إلى أن يردّوكم عن الإسلام، ولكن الله تعالى سوف يكسر شوكتهم في آخر المطاف، ويجعلكم الغالبين.والمشهد نفسه نراه نحن المسلمين الأحمديين اليوم حيث تريد كل الدنيا ردَّنا عن موقفنا، ولكن من ذا الذي يستطيع إهلاكَ من يريد الله حياته؟

ما أشدَّ عمايةَ الكافر! فبدلاً من أن يلوم نفسه على رفضه الدينَ يريد أن يصبّ جامَ غضبه على الله تعالى قائلاً: ما دام هو لم يجعلني مؤمنًا فلن أبرح حتى أجعل عباده المؤمنين مرتدين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك