المعرفة الحقيقية.. تفاعل العقل والوحي
  • آية إبطال لزعم الكافرين بأن النبي لا يملك أسباب الغلبة
  • إعلان النبي عن انتصاره سلفاً
  • يتجلى الله بجميع صفاته لتأييد رسوله
  • انتشار دعوة النبي مثل الأرض التي تخرج النبات بعد نزول المطر

__

الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ اللآيَاتِ لَعَلَّـكُمْ بِلِقَـاءِ رَبِّكُـمْ تُوقِنُـونَ   (الرعد: 3)

شرح الكلمـات:

عَمَدٍ: العِماد: ما يُسنَدُ به، جمعهُ عُمُدٌ وعَمَدٌ. والعمادُ: الأبنية الرفيعة (الأقرب).

سخَّرَ: سخَّره: كلّفهُ عملاً بلا أُجرة؛ ذلَّـلَهُ. وكل مقهور لا يَملك لنفسه ما يخلّصه من القهر فذلك مسخَّرٌ (الأقرب).

يرفع: (راجع الآية 101 من سورة يوسف)

السماوات واستوى والعرش ويدبر:(راجع الآية 4 من يونس)

الأجل: (راجع الآية 12من سورة يونس)

يفصّل: (راجع  الآية 38 من سورة يونس)

فنجد الأجرام السماوية قائمة على أعمدة غير مرئية وملموسة مثل قوة الجاذبية أو الحركات المحددة للأجرام وغيرها من الأسباب الأخرى مما اكتشفها علماء الطبيعة أو لم يكتشفوها بعد.

التفسـير:

يمكن تفسير الآية بمفهومين: أن الله رفع السماوات بغير عمد كما ترون، أو أنه تعالى رفعها بدون أعمدة تستطيعون رؤيتها، أي أنها مرفوعة بأعمدة ولكنكم لا تستطيعون رؤية هذه الأعمدة. وكلا المعنيين صحيحان، ذلك أننا لو أخذنا كلمة العمود بالعُرف العام أي ما تُرفع عليه الأشياء الأخرى، فلا نجد هناك مثل هذه الأعمدة المادية للسماوات، وأما لو أخذنا العمود بالمعنى المجازي بدليل  أن ما ترتكز عليه الأشياء الأخرى هو عمودها مجازًا، فنجد الأجرام السماوية قائمة على أعمدة غير مرئية وملموسة مثل قوة الجاذبية أو الحركات المحددة للأجرام وغيرها من الأسباب الأخرى مما اكتشفها علماء الطبيعة أو لم يكتشفوها بعد.

والآية تبطل زعمًا من مزاعم الكفار، إذ كانوا يقولون كيف ينجح محمد في مَرامه وهو لا يملك من أسباب الغلبة والانتصار شيئًا. ولقد سبق أن دحض الله هذه الشبهة في الآية السالفة عندما وصف القرآن بكونه حقاً أي ما يتحقق ويتوطد حتماً، والآن ساق على بطلانها دليلاً آخر فقال: لا شك أن الأشياء تقوم على ركائز ملائمة، لكن ليس ضروريًا أن تكون هذه الركائز كلها من نوع واحد.

لا شك أن الإنسان لا يستطيع ولا يقدر على رفع شيء إلا بأعمدة مادية حتى إن السقف البسيط لا يرتفع بدون جدران أو أعمدة، ولكن الله بديع في خلقه، فانظروا كيف رفع هذه الأجرام السماوية الهائلة الثقل والضخامة بدون ما يمكن تسميته عمودًا بالمعنى المتعارف عليه، أو بدون أعمدة مرئية، ومع ذلك فإن الأجرام لا تزال قائمة ثابتة في أماكنها المحددة دون أن يحدث في نظامها خلل أو فتور رغم مرور أزمان سحيقة عليها. فثبت أن هناك بونًا شاسعًا بين ما يفعله الإنسان وبين ما يفعله الله. فيجب أن تساعدكم هذه الأمور  الظاهرة على قياس الأمور الروحانية.

لا جرم أن الإنسان بحاجة إلى الأسباب المادية إذا أراد الغلبة على أحد، ولكن الله تعالى إذا أراد أن يجعل نبيه غالباً على أعدائه فلا حاجة له إلى أسباب مادية مرئية، بل يحقق الغلبة بتدابير دقيقة وأسباب غير مرئية. ولكن الناس لا يصدقون هذه الحقيقة إلا بعد ظهور النتائج، وأما قبلها فلا ينفكون يعتبرون انتصار نبي الله ضربًا من المستحيل.

إن الأسباب التي يرى الكفار ضرورة توفُّرها  لدى النبي   ضماناً لنجاحه، مذكورة في سورة الإسراء كالتالي:

1) أن يكون عنده ينابيع الماء ليستقي منها الناس والأنعام.

2) أن تكون عنده ضيعات فيها حدائق وبساتين وأن يحفر خلالها أنهارا لعمرانها.

3) أن يُهلك أعداءه في لمح البصر.

4) أن يأتي الله والملائكة لنصرته على الأعداء.

5) أن يملك ثروات هائلة.

6) أن يملك قوة خارقة حتى يرتقي إلى السماء أمام القوم، وينـزل منها بكتاب مسطور يلمسونه بأيديهم ويقرأونه، أي عليه أن لا يدّعي فقط بأن الله قد أمره بهذا شفويًا، بل يجب أن يأتي برسالة مكتوبة منه يقرأها القوم. (الآيات89 إلى94).

يتضح مما سلف أن هذه الأسباب التي يطالبون بتوفّرها عند الرسول هي من نوعين: أسباب مادية كالأرض والأموال والثروات والمياه وسلطة الجزاء والعقاب؛ وأسباب روحانية أي أمور خارقة للنواميس الطبيعية كظهور الله والملائكة لنصرته، وصعوده إلى السماء لينـزل منها بكتاب مسطور. وكانوا يجدون النبي  محروماً من هذه القوى والأسباب بنوعيها. فكانوا يظنون أنه ليس بحوزته ما يملكه الملوك، كما ليس عنده ما يجب توفّره عند النبي، ولذلك كانوا يعتقدون أن هذا يحاول رفع البناء بدون عمد وسند فلن ينجح في هدفه.

ورُبَّ سائل يسأل: لم يكن في دعوى النبي ما يثير عجبهم، فقد كان التاريخ ولا يزال يقدم لنا أمثلة كثيرة لأناس خاملي الذكر محرومين من الوسائل المؤدية إلى سُدّة الحكم، ولكنهم صاروا ملوكاً وحكاماً. خذوا مثلاً: الملك الأفغاني “نادر شاه” والحاكم الفرنسي “نابليون بونابارت” في التاريخ الحديث.

والجواب: لا شك في وجود هذه الأمثلة في العالم من حين لآخر، ولكن الحقيقة أن هؤلاء كانوا يملكون القدرات والوسائل منذ البداية، ولكن الناس لم يأبهوا بهم في بداية أمرهم، وعندما وصل هؤلاء إلى سُدّة الحكم تنبهوا وتعجبوا منهم ومن قدراتهم.

وعلاوة على ذلك، فهناك فارق بيِّن بينهم وبين النبي . فهؤلاء إنما أعلنوا عن ملكهم وغلبتهم بعد أن وصلوا إلى الحكم، دون أن يعلنوا في بداية أمرهم بأنهم سيصبحون ملوكاً، بل حتى لم يفكروا في ذلك، فلم يكن هناك عندئذٍ داعٍ يثير استغراب القوم منهم. ولكننا نجد رسول الله يعلن عن انتصاره  سلفًا وقبل أوانه، وكان هذا شيئًا عجيبًا ومحيراً للعرب.

لقد أشار الله بقوله هذا إلى أنه لا يسخّر لتأييد رسوله صفة واحدة فحسب، بل يسخّر جميع صفاته التشبيهية.. أي التي يتجلى بها على العباد.

وهناك فارق آخر أكبر وهو أن الذين يصبحون ملوكاً بعد أن كانوا خاملي الذكر يلجأون إلى اتخاذ تدابير ملائمة للوصول إلى سُدّة الملك. فمثلاً عندما أراد “نادرشاه” الأفغاني انتزاع الملك من الحاكم، جمع حوله بعض الجنود في البداية، ثم بدأ في قطع الطرق، ثم هزم أمراء المناطق المجاورة له، ثم الأمراءَ الكبار، حتى انتزع الحكم من الملك نفسه. وهذا ما فعله “نابليون بونابارت”، فإنه حينما رأى حركة أو ثورة خفيفة وصل إليها بسرعة البرق، واستغلها لصالحه، وهكذا زرع الرعب في قلوب رجال الحكومة، وكسب ولاء الجنود له ضدها.

هذا هو القاسم المشترك الذي نجده في حياة جميع أولئك الذين وصلوا إلى الحكم بعد الخمول، سواء جاءوا قبل النبي أو بعده، ولذلك نجد أهل مكة عندما سمعوا دعوى النبي بالانتصار والغلبة، شرعوا يتساءلون: ما هي الأسباب التي يتخذها لكسب الغلبة؟ كل ما رأوه منه هو أنه كان يحوّل بصحبته الصالحة الأجلافَ القساةَ القلوب أناسًا طيبين ذوي قلوب رحيمة وطبائع مسكينة، وبدلاً من أن يعلّم أتباعه بثّ  الرعب في قلوب الأعداء بالعدوان عليهم، كان يأمرهم بتحمل أذى المعتدي في صبر وصمت وبالعفو عنه ابتغاء وجه الله. وصاحب مثل هذا التعليم لا يمكن أن يصل إلى الحكم -في رأيهم- بل يسد في وجهه أي باب يمكن أن يؤدي إلى سدة الحكم.

وكان الله العليم بذات الصدور مطلعاً على ما يدور بخَلَدهم من مثل هذه الأفكار والتساؤلات التي كانوا لا يتفوهون بها علناً. فردّ الله عليهم قائلاً: إن نبينا هذا لا يدّعي برفع بناء مادي وإنما يُعلن عن رفع سماء روحانية. ثم اعلموا أن المباني المادية التي ترفعونها بالأعمدة تنهدم في آخر الأمر، ولكن السماء المرفوعة بدون عمد قائمةٌ كما هي منذ ملايين السنين. هكذا سيتمّ أمر محمد، فقد جعلنا لقيام أمره أسبابًا خافية عن أنظاركم كأعمدة السماء؛ بعضُها يكمن في التعليم الذي جاء به، وبعضها يتمثل في عصمة الله له. فأمره أسمى من أن يعتمد على الأسباب المادية الظاهرة، بل هو قائم على ما هو خارج عن نطاق قدرة البشر، أي على الأسباب السماوية. ولا غرابة في أمره، لأن ما ضربناه من مثال للأجرام الفلكية يشكل برهانًا على أن الصفات الإلهية إنما تتجلى على هذا المنوال، هكذا ينصر الله أنبياءه بأسباب غير مرئية.

وقوله تعالى ثم استوى على العرش يعني أن الله كما رفع الأجرام السماوية في العالم المادي أولاً، ثم بدأ يتجلى بصفاته بشكل كامل، كذلك سيفعل الآن في العالم الروحاني، وسيكمل بواسطة نبيه محمد السماء الروحانية لكي تتجلى على الناس صفاته تجلياً ظاهراً ويعطي الإنسانية هدياً كاملاً.  مع العلم أن العرش مصطلح قرآني يعني به تكميل النواميس الطبيعية والروحانية، وقد استُعير هذا المصطلح من العالم المادي، حيث إن الملوك عندما يريدون الإعلان عن قرار هام يعلنونه من على العرش. ونظراً إلى هذه العادة الشائعة فقد استخدم القرآن كلمة ثم استوى على العرش   بمعنى التجلي الكامل لصفات الله تعالى.

أما السؤال عن ماهية العرش فجوابه مبدئياً ما ذكره الإمام الراغب لدى شرح هذه الكلمة في مفرداته، حيث قال:” وعرشُ الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، وليس كما تذهب إليه أوهام العامة. فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له تعالى لا محمولاً،والله تعالى يقول: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إنْ أَمْسَكَهُما من أحد من بعده (المفردات).

الواقع أن العرش لغةً تعني: السقف، سواء كان عريشًا أو مظلةً يُستظل بها، أو سريراً مرفوعاً من فوق الأرض بقوائم يُجلس عليه. كما يُكنى بالعرش عن الكرامة والمُلك والغلبة وقوام الأمر (التاج). وهذه المعاني أيضًا مستقاة من السقف، لأنه كان عادة كبار القوم في القديم أن يجلسوا تحت المظلات أو العرائش أو على السُرر المرفوعة.

وقد وردت كلمة “العرش” بمعنى السقف في القرآن في قوله: وهي خاوية على عروشها (البقرة:260).  أي كانت سقوف البيوت قد تهدّمت فسقطت عليها الجدران. كما وردت بمعنى سرير الملك في قوله تعالى ورفع أبويه على العرش (يوسف:101). وقد ورد أيضاً بهذا المعنى أربع مرات في سورة النمل عند الحديث عن ملكة سبأ.

كما وردت الكلمة بمعناها الخاص بـ “العرش الإلهي” 21 مرةً في القرآن الكريم.(راجع لمزيد من التفصيل تفسير الآية رقم 4 من سورة يونس).

وذكر صاحب روح المعاني قول البعض -بدون ذكر الاسم- بأن قوله تعالى ثم استوى على العرش إنما هو استعارة للحكم والتدبير، بدليل قوله تعالى في سورة يونس يدبّر الأمر .  فهو يرى أن قوله تعالى يدبر الأمر تفسير لقوله ثم استوى على العرش .

وقد نقل بعض المفسرين الجدد هذا المعنى عن الأسلاف، ولكنه معنى خاطئ، لأنه قد ذُكر “العرش” في القرآن الكريم والحديث الشريف بكثرة وتواتر بحيث يستحيل أن نظن أن العرش لا يعني إلا الاستعارة عن ” الحكم والتدبير” فقط لا غير.

فلنرجع مرة أخرى إلى قوله تعالى في سورة يونس إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر لِنجد أن قوله يدبّر الأمر يمكن اعتباره حالاً لقوله ثم استوى على العرش بمعنى أن الله استوى على العرش مدبراً نظام الكون كله، أو يمكن أن نعتبره خبراً ثانياً لقوله إن ربكم… بمعنى أن ربكم الله الذي خلق الكون واستوى على العرش يدبر الكون. أما هنا في سورة الرعد فنجد فاصلاً كبيراً بين قوله تعالى واستوى على العرش وبين قوله تعالى يدبّر الأمر فلا يمكن اعتبار قوله(يدّبر الأمر) تفسيراً للاستواء على العرش.

وباختصار، فليس المراد من قوله تعالى ثم استوى على العرش أن العرش ماديّ أو أنه لا وجود له، أو أنه استعارة عن الحكم والتدبير فقط. كلا، بل العرش اسمٌ للنظام المركزي التابع لصفات الله التنـزيهية التي تكون الصفات التشبيهية بمثابة حاملٍ لها أو كأعمدة لها بتعبير آخر.

وقد ذكر سبحانه وتعالى استواءه على العرش بعد الحديث عن رفع السماوات ليشير إلى أنه حينما يخلق سماءً وأرضاً روحانيتين جديدتين تتجلى صفاته تجليا كاملاً، فلا يتجلى بصفة واحدة بل يسخّر كل صفة من صفاته التشبيهية التابعة لنظام الصفات التنزيهية المركزي، وكأنه تعالى يُنزل حينئذ بركاته الخاصة من مركز صفاته التنزيهية لكي تظهر جميع الصفات التشبيهية التابعة ظهوراً كاملاً، شأن الملك الذي يصدر أوامره الهامة جالساً على عرشه.

لقد أشار الله بقوله هذا إلى أنه لا يسخّر لتأييد رسوله صفة واحدة فحسب، بل يسخّر جميع صفاته التشبيهية.. أي التي يتجلى بها على العباد.

ثم قال انظروا كيف أن الله تعالى -إلى جانب رفعه السماواتِ والأرضَ- سخّر الشمس والقمر لخدمتكم دونما أجر. إن أُجراءكم الذين تستعينون بهم نظير أجر قد يشتكون منكم ويترددون في خدمتكم، ولكن هذه الأجرام لا تزال منذ عصور سحيقة تقدم لكم خدماتها دون أن تروا أي عامل من الخوف أو الرجاء يضبط هذه الأجرام، اللهم إلا القانون الإلهي. فما الغرابة في أن يسخر الله نفس هذا القانون من أجل نصرة رسوله محمد ليسخّر كل شيء لتأييده.

أما قوله تعالى يدبّر الأمر يُفصّل الآياتِ لعلكم بلقاء ربكم توقنون فيعني أنكم كما تجدون للكون نظامًا محكمًا عظيمًا يدار بدون أعمدة مرئية لكم،  كذلك سوف يدبّر الله تعالى أمر رسوله محمد . فيُرى آيات بينات لنصرته  وسيصدر للكون كله الأوامر الصريحة لتأييد رسوله، فتعمل كل ذرة في  الكون على نصرته، حتى تنالوا الإيمان اليقيني.

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّـَرُونَ   (الرعد: 4)

 شرح الكلمـات:

مدَّ: مدَّه: بَسَطَهُ. مدَّ المديونَ: أمهلَه. مدَّ الله عمره: أطالهُ. ومدَّ الشيءَ: جذبه. ومدَّ القوم: صار لهم مدداً وأغاثهم بنفسه. وفي اللسان: مَدَدْتُ الأرض مدّاً، إذا زِدت فيها تراباً أوسماداً مِن غَيرها، فيكون أعمرَ لها وأكثرَ ريعاً لزرعها (الأقرب).

فالمراد من قوله تعالى مدَّ الأرض :

1) أن الله هو الذي بسط الأرض ووسّعها.

2) أن الله هو الذي زوّد قشرة الأرض بالتراب والسماد لتكون أكثر عمرانًا وثمارًا.

وهذا ثابت بالبحوث الحديثة التي تخبرنا أنـه لا تزال تقـع عـلى الأرض ذرات دقيـقة    للـغايـة  من الكواكب الأخرى مما يساعد الأرض على الإنبات.

3) أن الله هو الذي أغاث أهلها بنعم لا تقدر ولا تحصى كيلا ينقرضوا.

رواسيَ: الرواسي: الجبالُ الثوابتُ الرواسخُ (الأقرب).

التفسـير:

لقد أشار الله تعالى بقوله مدّ الأرض بعد قوله رفع السماوات   إلى أن السماء والأرض تتعاملان وتتفاعلان. فكما أن تفاعلهما كزوجين يؤدي إلى الإنتاج، كذلك فإن جميع الأمور في العالم المادي إنما تتم بتفاعل قوي بين السماء والأرض. وهذا هو بالضبط حال العالم الروحاني، فهو أيضاً بحاجة إلى السماء أي إلى ماء الوحي الذي ينزل من السماء، وإلى الأرض أي الطبائع الجاهزة لقبول الماء السماوي. وكما أن الأرض الصالحة لا تلبث أن تخرج نباتها  وثمارها بعد التفاعل مع ماء السماء، كذلك هو حال هذه الطبائع الجاهزة، فهي بمثابة الأرض إزاء السماء الروحانية، ولا تستطيع كتمان خزائنها بعد التفاعل مع ماء الوحي السماوي، بل لا تلبث أن تنجذب إلى نبي الله انجذاب قطعة الحديد إلى المغناطيس. فلا تتعجبوا من انتشار دعوة النبي محمد ، بل يجب أن تعجبوا إذا لم تنتشر، إذ كيف يمكن لأرض صالحة أن لا تُخرج نباتها رغم نزول المطر عليها.

ثم قال وجعل فيها رواسي وأنهاراً . أي لقد جعلنا في الأرض جبالاً لندّخر فيها الماء في شكل الجليد، لنزود العالم بالماء دون انقطاع في شكل الينابيع والأنهار. ولو نفذت هذه الذخيرة الجليدية لجفّت العيون والأنهار، وأصبحت الأرض قاحلة جرداء.

وقد ضرب الله هذا المثال ليبين أنه كما خلق كل شيء زوجين، كذلك جعل للعقل الإنساني زوجًا هو الوحي. فما لم ينزل عليه نور من وحي الله لن تتيسر له المعرفة الحقيقة التي هي نتاج تفاعل العقل والوحي.

وهذه هي حالة العالم الروحاني، فإن فيه أيضاً شخصياتٍ عظاماً هي بمثابة الجبال إذ تَدَّخر كلام الله تعالى. وهناك شخصيات أخرى لا تدّخر كلام الله، ولكنها تنفع به الآخرين. وفئة أخرى تكون كالأرض، فترى أهلها من المنتفعين فقط. أما الجبال فَهم الأنبياء، وأما الأنهار فهم العلماء، وأما الأرض فهم عامة الناس. ولولا هذه الرواسي الروحانية لجفّت الينابيع الروحانية وهلكت الدنيا.

ثم قال ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين أي جعل في الأرض  من كل ثمرة زوجين الذكر والأنثى.

لقد ذكر هنا الثمار فقط، ولكنه قد أكد في أماكن أخرى من القرآن أنه تعالى قد جعل من كل شيء زوجين. وهذه حقيقة ينفرد القرآن بذكرها عن جميع الديانات. لقد عرف العرب قبل نزول القرآن أن أشجار النخل زوجان الذكر والأنثى، ولكنهم لم يعرفوا أكثر من هذا. وكانت عقول العالم حينئذ عاجزة عن فهم هذه الحقيقة القرآنية. ولكن بعد مرور 13 قرناً على نزولها في القرآن أكدتها العلوم الحديثة اليوم، حيث توصل العلماء في بحوثهم إلى أن كل شيء حتى ذرات الجمادات زوجان الذكر والأنثى.

وقد ضرب الله هذا المثال ليبين أنه كما خلق كل شيء زوجين، كذلك جعل للعقل الإنساني زوجًا هو الوحي. فما لم ينزل عليه نور من وحي الله لن تتيسر له المعرفة الحقيقة التي هي نتاج تفاعل العقل والوحي. كما يؤكد بذلك أيضاً أنه إذا امتزج العقل السليم وماء الوحي السماوي فلا تستطيع قوة من القوى منعهما من إنتاج الثمار. وكما أنه كان من المستحيل أن تتيسر للناس معرفة الله حقاً بدون ما نزل على محمد من وحي سماوي، كذلك من المحال أن تمتنع العقول السليمة عن قبول تعليمه إذا ما عُرض عليها عرضاً سليماً صحيحًا.

فلا تتعجبوا من انتشار دعوة النبي محمد   ، بل يجب أن تعجبوا إذا لم تنتشر، إذ كيف يمكن لأرض صالحة أن لا تُخرج نباتها رغم نزول المطر عليها.

وساق في قوله يُغشي الليلَ النهارَ دليلاً آخر على انتشار رسالة القرآن الكريم، فقال: لا يخدعنّ أحد بما يخيم حول محمد من ظلام حالك فيستبعد انتشار تعليمه. فكما أنكم تجدون الآن الظلمات السائدة في العالم الروحاني، كذلك تكون الحال في العالم المادي أيضاً، ولكن الله يأتي بالنهار من الليل المظلم نفسه. فلو كانت ظاهرة الظلمات الروحانية ظاهرة حرة أي خارجة عن نطاق النواميس الإلهية لتعذّر إزالتها، ولكنها تابعة خاضعة لأمر الله تعالى، وتأتي وفق القوانين الإلهية وبقضاء إلهي. ألا ترون أن شعاعاً واحداً من الشمس يهتك حجب السحاب الداكن الظلام. كذلك سيحدث الآن، إذ إنّ الله تعالى لا يملك السلطان على النور وحده بل على الظلام أيضاً، فلو شـاء إزالة الظلمة فسوف تزول لا محالة.

إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون أي أن الذين يُعملون الفكرَ يستطيعون الانتفاع من هذه الأمثلة، بل إنهم ينتفعون فعلاً، أما الذين يأبَون إلا أن يصبحوا حـطب جهنـم فليس لهم إلا الحـرمان الأبـدي دون ريـب.

Share via
تابعونا على الفايس بوك