قبسة من حياة حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية

قبسة من حياة حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية

مرزا بشير أحمد

الشفقة على خلق الله

(1)

إن عهد البيعة الذي وضعه مؤسس الجماعة للانضمام إلى الجماعة، يتضمن عشرة شروط يلزم على كل أحمدي أن راعيها، وهي المبادئ العملية الأساسية للجماعة، وفيما يلي الشرط الرابع والتاسع:

أن يتعاهد المبايع أنه لن يؤذي عند ثورة الميول النفسانية أحدًا من خلق الله عامة والمسلمين بصورة خاصة، ولن يعتدي عليه لا بلسانه ولا بيده ولا بطريق آخر، وأن يظل لأجل الله وحده قائما بمواساة عامة خلق الله والإحسان إليهم، ويفيد بني الإنسان بمواهبه وكفاءاته ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

هذا هو العهد الذي وضعه حضرة المؤسس حسب أمر الله للانضمام إلى الجماعة الأحمدية، والذي لا يمكن بغيره أن يكون أحد مسلما أحمديا صادقا. والذي يدعو إلى التفكير أن الرجل الذي يؤسس جماعته على أن يعامل المبايع غيره من المسلمين أو غيرهم معاملة إخلاص وتودد وشفقة ويسعى لخير الإنسانية جمعاء ولا يؤذيه أي نوع من الإيذاء، فما أروع ما ينبغي أن يكون نفسه أسوة وما أعظم ما يجب أن تكون أعماله مثالا وقدوة في جميع هذه الفضائل. وكذلك كان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وكان حضرته يردد مرارا أنه لا يعادي أحدا، وأن قلبه يفيض بحب جميع الأمم والشعوب كما يقول: إنني أصرح لجميع المسلمين والمسيحيين والهنادك بأني لا أعادي أحدًا من هذا العالم. إنني أحب جميع بني الإنسان كما تحب الأم الرؤوم أولادها، بل إنني أشد حبا لهم. نعم إنني أعادي تلك المعتقدات الباطلة المعادية للحق. إن الشفقة على الإنسان من واجباتي والتبرء من كل كذب وشرك وجور وضلالة وفسوق من مبادئيّ الأساسية.

(2)

لم يكن ذلك مجرد ادعاء فحسب، بل الحق أن كل دقيقة من حياته كانت مبذولة في سبيل الشفقة على خلق الله، وكان الذين يراقبون أحواله يستغربون أن يكون في برديه قلب الأم الحنون حتى لأعدائه الالداء.

وقد روى الاستاذ عبد الكريم الذي كان من كبار أصحاب المسيح الموعود ، أنه سمعه يدعوا في الأيام التي كان وباء الطاعون المبيد يحصد فيها الناس حصدا، أجل إنه كان يدعوا في تلك الأيام لأجل نجاة الناس من هذا الداء الوبيل. وقد وصف الأستاذ عبد الكريم هذا الدعاء بما يلي:

كان دعاؤه (عليه السلام) يفيض تألما واضطرابا والتياعا حتى أن السامع كان يذوب قلبه لشدة هذه الحالة على المسيح الموعود . كان حضرته يتضرع ويبتهل ويضطرب على العتبة القدسية كما تضطرب وتتألم المرأة عند المخاض. إنني أصغيت إليه فإذا هو يدعو الله لأجل نجاة الناس من عذاب الطاعون، وكان يقول أثناء الدعاء: اللهم إن يهلك هؤلاء فمن الذي يعبدك.

فلنفكر في الموقف الرائع الذي وقفه مؤسس الجماعة الأحمدية ، إن عذاب الله كان قد نزل، وكان الله قد أنبأه بهذا العذاب، وجعله آية بينة لصدقه، ولو لم يتحقق هذا النبأ لارتاب مستعجلو العذاب في صدقه، لكن على الرغم من ذلك كله، كان مضطربا أشد الاضطراب على هلاك الناس بهذا العذاب. وكان يتضرع لربه قائلا: اللهم أنقذ مخلوقاتك من هذه الكارثة، وافتح لهم باب الإيمان وارحمهم.

(3)

وزد على ذلك ما حدث عندما هلك عدو الإسلام، باندت ليكرام الهندوكي (وكان يسب النبي الكريم أقذع السباب، ومات نتيجة مباهلة مع حضرته ). سُرّ حضرته بأن نبأ الله قد تحقق وظهرت آية عظمى لصدق الإسلام، ولكنه كذلك تأسف على أنه هلك محروما من الإيمان بالحق كما قال حضرته: “إن قبلنا اليوم بحالة غريبة مزيجة من عواطف التألم والسرور، لأن ليكرام لو تاب أو على الأقل امتنع عن كلامه المقذع فوالله لعاش بدعائي حتى لو كلن مقطعًا إربًا إربا”.

(4)

إن بعض القساوسة المسيحيين تآمروا عليه مرة، ورفعوا ضده قضية ملفقة بتهمة القتل. وكان في طليعة هؤلاء المتآمرين القسيس مارتن كلارك. لكن الله أظهر براءته وصدقه، من تهمة القتل في هذه القضية الخطيرة التي تألب فيها الآريون من الهنادك وعلماء من المسلمين ضده، ولم يألوا جهدا في إثبات هذه التهمة عليه.

فلما أعلنت المحكمة ببراءته ، وسأل القاضي “دوجلاس” حضرته قائلا: هل ترغبون فيرفع قضية ضد كلارك بتهمة التزوير والتلفيق، فالقانون يسمح لكم بذلك، أجاب حضرته:

“إنني لا أرغب في رفع أية قضية، إن قضيتي مرفوعة في السماء”.

(5)

كان الشيخ محمد حسين البطالوي زعيم طائفة أهل الحديث في يوم صديقا حميما لحضرة المؤسس وزميلا له في المدرسة، وكان قد عقّب على أول كتاب كتبه حضرة المسيح الموعود تعقيبا رائعا، إذ قال فيه إنه لم يكتب مثل هذا الكتاب في تأييد الإسلام في الثلاثة عشر قرنا الماضية. لكن لما ادعى حضرة مؤسس الجماعة كونه المسيح الموعود والمهدي المعهود أصبح هذا الشيخ محمد حسين من معانديه الأشداء، حتى أفتى على حضرته بالكفر، ونعته بالدجال والضال، وأضرم عليه نيران الفتنة والعداء في طول الهند وعرضها.

حدث أن هذا الشيخ نفسه تطوع لإدلاء الشهادة في قضية مارتن كلارك ضد حضرته، وأراد محامي حضرته أن يجرح شهادة الشيخ محمد حسين ويوجه إليه بعض الأسئلة الماسة بنسبه وعرضه. لكنه لم يسمح له بهذه الأسئلة ومد يده إلى وجه المحامي لئلا يتفوه بها. وبذلك حافظ على أعراض معانديه الشخصيين، مع أنه كان متهما بالقتل، وكان ذلك الشيخ جاء ليثبت عليه هذه التهمة.

وبعد هذا الحادث كان محامي حضرة المؤسس في تلك القضية يذكر هذا الحادث الغريب ويقول: إن حضرته رجل غريب الأطوار، إن واحدًا من أعدائه يهاجم كرامته حتى إنه يريد القضاء عليه، ثم إنه أريد توجيه بعض الأسئلة الجارحة لنسبه لتضعيف شهادته، أبى ذلك.

وهذا الشيخ محمد حسين هو الذي ذكره حضرة المؤسس في أحد أبياته العريبة:

قطعت ودادا قد غرسناه في الصبا

وليس فؤادي في الوداد يقصر

خدمة الضيوف

لقد روى “المنشي ظفر أحمد” أحد كبار أصحابه الأقدمين أنه جاء مرة إلى قاديان ضيفان من منطقة” آسام” النائية بعد أن سمعا عن مؤسس الجماعة الأحمدية، ولما وصلا دار الضيافة، طلبا إلى خدام الدار أن يهيئوا مثواهما. فلم يأبهوا بذلك. فاستاء الضيفان اللذان تجشما عناء السفر الطويل من هذا الإغفال، وعادا أدراجهما غاضبين. ولكن لما بلغ ذلك حضرته ، أسرع للحاقهما في الطريق وكان من شدة شعوره بذلك أنه استصعب لبس حذائه، فسار بخطى حثيثة برفقة بعض أصحابه، وكان منشي ظفر أحمد منهم. فأسرع حضرته حتى لحقهما على مسافة ميلين ونصف ميل من قاديان، وألح عليهما في تودد واعتذار بأن يرجعا إلى قاديان. وقال لهما لقد شق علي مغادرتكما، وطلب حضرته إليهما أن يركبا العربة وأنه سيصحبهما ماشيا، لكنهما استحيا من الركوب. فرافقهما حضرته إلى قاديان، وعندما بلغا دار الضيافة تقدم حضرته بنفسه لحط متاعهما من العربة، لكن أصحابه سبقوه إلى ذلك. فجلس إليهما وحدثهما في تودد وعطف وسألهما عما ترضيان من الطعام أو أي لون منه تعتادانه. وظل يتحدث إليهما حتى أتاهم الطعام. وفي اليوم التالي عندما أخذا في الأهبة للرجوع طلب حضرته كأسين من الحليب، وقدمهما إليهما بغاية الاحترام، ورافقهما ماشيا ميلين ونصف ميل. إن المستوى العالي للتودد والتواضع وإكرام الضيف والمشاعر الأخوية الذي يتجلى في هذا الحادث، لغني عن التعليق أو التوضيح.

وهناك حادث آخر يتصل بالتودد إلى الفقراء وإكرامهم وهم من أعز الحوادث التي تزيد الإنسان إيمانا.

يروي المنشي ظفر أحمد نفسه، أنه حدث ذات مرة أن حضرته كان جالسا مع بعض الضيوف على سطح المسجد المبارك، وكان ينتظر تناول الطعام معهم. وكان من بينهم رجل أحمدي فقير اسمه “نظام الدين”، وكان لباسه رثا باليا. وبينما كان حضرته كذلك، إذ جاءه بعض الضيوف المحترمين، وجلسوا بقرب حضرته، فاضطر السيد نظام الدين للتأخر حتى بلغ موضع النعال. عندئذ حضر الطعام، فأخذ حضرته طبقا من الطبيخ وبعض الأرغفة، وكان حضرته قد رأى ما جرى للسيد نظام الدين، ونادى السيد نظام الدين قائلا: “تفضل نأكل داخل البيت”. فدخل به حضرته في غرفة مجاورة للمسجد وأكلا معا من طبق واحد، كان السيد نظام الدين يهتز سرورا وانبساطا، وكان الذين اضطروا للجلوس في الوراء ضاقت عليهم الأرض ندما.

إن الدرس العظيم الذي يتبين من هذه الرواية الطريفة النادرة، والذي يقضي على التكبر والتطاول ويثير مشاعر الإنسانية والمساواة والأخوة وإكرام الفقراء، ليسمو عن شرح وتعقيب.

Share via
تابعونا على الفايس بوك