سيرة المهدي - الجزء 1 الحلقة 25
  • المعاصرة سبب في الافتتان بالشخص
  • تأثير التدوين في ترسيخ اليقين
  • معيار الابتلاء والظروف المعادية
  • تجلي المزايا بعد الوفاة، والحالة الفردية مقابل الحالة الإجمالية
  • ديمومة وجود المنافقين
  • تمييز الصحابة عن غيرهم
  • الفهم الخاطئ للنقد البناء

__

  1. بسم الله الرحمن الرحيم. أقول: لقد كتب المسيح الموعود عن أصحابه في بعض قصائده ما معناه:

مباركٌ ذلك الذي آمن الآن لأنه قد لحق بالصحابة من خلال الإيمان بي.

ولقد سقاهم الساقي الخمر نفسها التي سقاها الصحابة. فسبحان الذي أخزى الأعادي.

أي مبارك ذلك الذي يؤمن بي في حياتي لأنه عند دخوله في صحبتي دخل في جماعة الصحابة والدليل على ذلك هو أن شراب المعرفة والتقوى الذي تلقاه الصحابة الكرام هو نفسه قد أعطي لصحابتي.

وفي مناسبة أخرى لما اعترض عبد الحكيم خان المرتد على جماعته كتب حضرته ردًّا عليه:

تقول بأنه ليس في الجماعة أحد يتصبغ بصبغة عملية عُليا غير الحكيم المولوي نور الدين أما البقية فهم كذا وكذا. لا أعرف كيف تجيب أمام الله على هذا الافتراء. يمكنني أن أحلف أنّ مئة ألف شخص على الأقل في جماعتنا قد آمنوا بي بصدق القلب ويعملون الصالحات. وحين استماعهم إليّ يبكون حتى تبتلّ جيوبهم. إنّني أرى تغيّراً كبيراً في الآلاف من أتباعي وإنّني أعدّهم أفضل بآلاف المرات من أتباع موسى الذين آمنوا به أثناء حياته. إنّني أرى على وجوههم نور الإيمان والصلاح  مثل نور صحابة رسول الله رضي الله عنهم. وإذا كان هناك من لم يصل إلى الدرجة المطلوبة من الصلاح بسبب ضعفه الفطري فهو في حكم النادر.

أرى أن التَقدّم الذي أحرزته جماعتي في البر والصلاح لهو معجزةٌ في حد ذاتها. إنَّ الآلاف منهم مستعدون بصدق القلب لكل تضحية، فلو دعوتهم اليوم إلى التخلي عن جميع أموالهم، فإنّهم مستعدون لذلك. ورغم ذلك فأنا أَعِظُهم وأحثّهم على المزيد من التقدّم في هذه السبيل. إنني لا أحدثهم عن فضائلهم ولكن أشعر بسعادة كبيرة في قلبي.”

إضافة إلى ذلك لقد أثنى حضرته على جماعته كثيرًا في مناسبات أخرى، ولكن بعض الجهلة يشكون في الأمر قائلين بأننا نرى في صحابة النبي كل صلاح ولكن لا يُرى هنا إلا شيء قليل منه، أي وكأنه لا يوجد شيء هنا مقارنة مع صحابة النبي .

والرد لإزالة هذا الانخداع هو أن هناك كثيرًا من الأمور تحول دون معرفة المكانة الحقيقية للجماعة التي أسسها المسيح الموعود أما مكانة صحابة النبي فليس من شيء يحول دون معرفتها. وهي:

السبب الأول: المعاصَرة، أي العيش في زمن واحد؛ فكما أن المواطنة تحول دون معرفة الشخص مكانة غيره، ولهذا يقال: “لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ.” (مَتَّى 13 : 57) وهناك مَثل في اللغة البنجابية ما معناه: “دجاجة البيت تساوي العدس”؛ كذلك إن المعاصَرة أيضا تحول كثيرًا دون معرفة المكانة الحقيقية لأحد. والإنسان عمومًا لا يستعد للاعتراف بعظمة شخص معاصر له. وهذه العصبية تعمل عملها في داخل الإنسان بصورة طبيعية. ولما كانت جماعة الصحابة قديمة عند أهل هذا العصر بينما جماعة المسيح الموعود تعيش في عصرهم وأمام أعينهم لذلك فإنهم عمومًا لا يستطيعون معرفة مكانتها، ولكن عندما ينقضي هذا العصر وتصبح الجماعة التي تربّت في صحبة المسيح الموعود من أحداث الماضي فسترون كيف يُنظَر إلى هذه الجماعة في الأجيال القادمة.

السبب الثاني: لا يعرف الناس التاريخَ الإسلامي معرفةً تفصيلية. أما ما يحدث هنا فإنهم يرَونه بأم أعينهم. إن علم الناس عن جماعة الصحابة مأخوذٌ من خطابات الخطباء، ومن الظاهر أن الخطيب يختار أحداثًا خاصة ثم يقدمها منمّقةً ليكون بيانه أكثر تأثيرًا، ويستنتج الناس بسماعها وكأن جميع أفراد تلك الجماعة كانوا منصبغين بهذه الصبغة. فينقش الناس مثل هذه الصورة في أذهانهم ثم يقيسون عليها جماعة المسيح الموعود ، ولأجل ذلك تظهر لديهم هذه النتيجة. لا شك أننا لا نرى في أية أمة سابقة ذلك النموذج الأعلى الذي أراه الصحابة ولم يحدث ذلك بعدهم أيضا إلى الآن، ولن يحدث في المستقبل أيضا بشكل إجمالي؛ ولكن يثبت من الأحاديث أن بعض الصحابة أيضا كانوا ضعافًا وكانت فيهم أنواع من نقاط الضعف، ولكن لا يمكن أن يؤثر ذلك على قدسية الصحابة إجمالا، بل كون جماعة الصحابة عديمة النظير أمر ثابتٌ ومتحقّق. (اللهم جنّبني من التفوّه بكلمة غير لائقة بحق الجماعة المقدسة للنبي وللمسيح الموعود ووفقني للعمل بأسوتهم الطاهرة).

السبب الثالث: إن أحداث حياة الصحابة موجودة أمامنا مدونةً ومسجلة، ولكن ليس أمامنا أحداث حياة صحابة المسيح الموعود مسجلةً على تلك الشاكلة رغم أنهم معاصرون لنا، وإلا فإنني أقول حقا أنه توجد في حياة صحابة المسيح الموعود أيضا نماذج عليا كثيرة تبعث على تجديد الإيمان وازدياده، وعندما تُجمع أحوال صحابة المسيح الموعود وتدوّن على شاكلة تدوين التاريخ الإسلامي فستنكشف الحقيقة. والحق أن صحابة النبي لم يكونوا يعلمون أحوالَ الصحابة الآخرين بالتفاصيل التي نعلمها اليوم.

السبب الرابع: لكل عصر ميزات وظروف خاصة، ولقد أتيحت للصحابة – بقدر من الله تعالى – فرص التضحية بالنفس وبذلك زاد إيمانُ المخلصين الأقوياء منهم تلألؤًا وبروقًا وبرز للعالم كله. ولكن لم تكن مثل هذه الابتلاءات مقدرة لجماعة المسيح الموعود وإلا فإننا على أمل من الله تعالى أن يكون إيمان صحابته أيضا قد برق وظهر للعالم كله على قدر مراتبهم. لقد تعرض اثنان* فقط من صحابة المسيح الموعود لهذا الوضع الذي طُلب منهما فيه التضحية بنفسيهما، وقد رأى العالم النموذج العالي الذي أظهراه. (أشيرُ هنا إلى شهيدي كابول).

السبب الخامس: وهو ما يغفله الناس عمومًا أنه إذا أردنا تقدير درجة الصلاح عند قوم ما فلا بد لنا أن نأخذ بعين الاعتبار القوى المعادية لهم أيضا التي كانت تعترض سبيل إيمانهم. إذا كانت القوى المعادية لقوم ما خطيرة وقوية جدًّا فإن قطعهم مسافة يسيرة في سبيل الإيمان يجعلهم يتربعون على منازل عليا وعلى مناصب عالية. لذلك لا يكفي النظر إلى المرتبة التي وصل إليها أي قوم بل لا بد من النظر إلى الظروف المعادية والقوى المعارضة التي جابهوها ثم أحرزوا هذا التقدم. ولو نظرنا من هذا المنطلق إلى درجة صلاح جماعة المسيح الموعود فلا بد من الاعتراف أنها معجزة، وذلك لأنه من المسلّم به لدى الجميع أن القوى المعادية للإيمان التي تعمل عملها في هذا العصر يندر لها نظير في الأزمنة السابقة، وإن فتن هذا العصر تفوق فتن زمن النبي أيضا لأن هذا العصر عصر الدجال الذي ورد عنه في الحديث النبوي أنه ما من نبي إلا وأنذر قومه من فتنة الدجال، وأنذر النبي أيضا قومه كثيرًا من هذه الفتنة، وأُجمِع على أن فتنة الدجال هي أعظم الفتن كلها، والحقيقة أن الرياح السامة – للمادية والإلحاد والتهافت على الدنيا – التي هبّت في هذا العصر ما هبّ مثلها قط في أي زمن مضى، ولم تتحرك قط الأديان الباطلة والعلوم المادية كما تحركت في عصرنا هذا. وإنه لنجاح عديم النظير إن استطاع المسيح الموعود في مثل هذا العصر الخطير تكوين جماعة قائمة على الإيمان الحقيقي وعاملة بالصالحات ومتصديةً لجميع القوى المعادية. لا شك أن جنود الشيطان المتسلحين بالسيوف كانوا متربصين في سبيل الإيمان في زمن النبي وكانوا يشكّلون حاجزًا قويًّا، وما كان لمؤمن أن ينال نعمة الإيمان دون عبوره نهرًا من الدماء. ولكن إذا كان الشيطان في هذا العصر قد جمع أفواجه كلها وعيّن جنودًا لا تُرى بالعين المجردة لينهبوا المارة ويجرّدوها من ثروة الإيمان، فلم يكن بوسع أحد أن يتصدى لهذه الجنود إلا بالقوى الروحانية، وعليه فإن نجاح المسيح الموعود في مثل هذه الظروف لنجاح عظيم وعديم النظير، ولكنه في الحقيقة نجاح سيدنا محمد لأن نجاح التلميذ في الحقيقة نجاح أستاذه، وانتصار الخادم في واقع الأمر انتصار سيده، ففي هذه الحالة إذا بقي أي تقصير أو ضعف في جماعة المسيح الموعود فإنه لا ينقص بشكل عام من عظمتها شيئًا.

السبب السادس: هو أن ما يمتاز به العقل الإنساني أن حسن الإنسان يظل مخفيًّا عمومًا ما دام على قيد الحياة ولا تبرز إلا نقاط ضعفه، أي أن الجانب الضعيف للصورة يبقى مستحضرا عمومًا، ولكن بعد وفاته ينقلب الأمر رأسا على عقب أي تتجلى ميزات الرجل بعد وفاته وهي التي تُذكر أكثر أما ضعفه وتقصيراته فتخبو وتنمحي من الذاكرة. وهذه هي حالة جماعة المسيح الموعود ، فعندما يخلو العصر من صحابته يبرز إخلاصهم وتلمع تضحياتهم وهي التي ستُذكر عمومًا، أما نقاط الضعف فتنمحي. وهذا ما نشعر به نحن الآن أيضا إذ إن مزايا الإخوة الذين يتوفّون من بيننا تؤثر فينا أكثر وتحدث نقوشًا عميقًة في أنفسنا مقارنة مع مزايا الذين هم على قيد الحياة، كذلك إن نقاط الناس الضعاف الذين توفوا ومضوا لا تؤثر فينا إلا قليلا مقارنة مع الذين لا يزالون على قيد الحياة وهم موجودون بين ظهرانينا. ويتضح من التاريخ أن الصحابة أيضا كانوا يشعرون بالشعور نفسه.

السبب السابع: لا يدرك الناس عمومًا أن هناك فرقًا بين الإصلاح الفردي والجماعي، وأن معاييرهما مختلفة أيضا. لا يستلزم اعتبارَ أية جماعة صالحة أن يكون جميع أفرادها قد أحرزوا المستوى العالي من الصلاح، بل ستعتبر أية جماعة صالحة إذا كان أكثر أفرادها قد أحدثوا في أنفسهم تغييرًا طيبًا وخلقوا فيها نور الإيمان والصلاح، وإن كان بعض أفرادها لا يرتقون إلى درجة الإصلاح المطلوب. كما لا يستلزم أن يكون جميع الذين أحرزوا الصلاح على درجة واحدة، بل لا بد أن يكونوا على مدارج مختلفة. لذلك ينبغي النظر إلى حالة تلك الجماعة إجمالا. إضافة إلى ذلك لا بد من أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار أن القوى الفطرية والمواهب والكفاءات أيضا تختلف من شخص لآخر، لذلك لا يمكن أن يُتوقّع من الجميع بلوغ درجة واحدة من الصلاح، ولا نرى أفراد جماعة من الجماعات على مستوى واحد. لذلك ينبغي أن يكون مِحَكُّنا هو درجة الصلاح التي نتوقعها من أية جماعة بشرية تضم جميع أنواع الناس، ومن هذا المنطلق نرى أن قدم جماعة المسيح الموعود تقع عاليةً وشامخة.

السبب الثامن: لقد لوحظ أن ضعاف أية جماعة يبرزون أكثر ولو كان عددهم ضئيلا، وذلك لأن كل عين تنتبه للسيئة أما الحسنة فلِلطافتها لا يشعر بها إلا الذي يملك حسًّا لطيفًا. لقد لاحظت أنه لو كان خمسة أو عشرة أشرار في جماعة من الألوف فسيتراءى للناس وكأن معظمهم كانوا أشرارًا والطيبون منهم كانوا قلة، وذلك لأن الشرير يبرز كثيرا لشره ويرنو إليه بصر كل إنسان.

لاحظوا أن العين يدخلها الهواء كل حين وآن إلا أنها لا تشعر به ولكن لو دخل فيها شيء صغير من القش فإنه يقيم القيامة ولا يقعدها. فلما ينقضي مثل هذا الوقت أي يتوفى أفرادها الأحياء فكأن القشة خرجت ولم يبق إلا الهواء البارد واللطيف لتقرّ به العين. لا أزال أذكر أن رجلا اعترض أمامي أن معظم الأحمديين القاطنين في قاديان سيئون، فقلت له: لا يصح قولك. قال: بل أعلم يقينًا. قلت: مما يستلزم أن يكون معظمهم سيئين أن تكون نسبتهم بين 60 و70 بالمئة. قال: بل هم أكثر من ذلك. فقلت له: من السهل أن يطلق أحد الكلام على عواهنه ولكن إثباته صعب جدًّا، فأقول لك أخبرني أسماء عشرة بالمئة منهم، بل خمسة بالمئة منهم وسأعطيك كذا وكذا جائزة. فضحك نادمًا وسكت. لو كان مجرد القول حجة كافية في مثل هذه الأمور لكان هناك اعتبار لكلام المشركين واليهود ضد النبي أيضا.

السبب التاسع هو ظن البعض أن المنافقين لم يكونوا موجودين إلا في زمن النبي ، بينما كل من يسمي نفسه أحمديًا فهو مؤمن صادق، ولا وجود للمنافقين في صفوف الأحمديين! وهذا خطأ واضح. المنافقون موجودون الآن كما كانوا في زمن الصحابة، أما الظن أن ذلك الزمن كان زمن السيف لذلك كانت هناك إمكانية وجود النفاق أما في زمن الحرية الآن فلا وجود للنفاق البتة، فهو ظن نابع عن الجهل، لأنه يستلزم أولا أن الناس كانوا يُكرهون على الإسلام – والعياذ بالله- وهو أمر باطل لا أساس له من الصحة. لو افترضنا جدلا أن خوف السيف كان سائدًا آنذاك، نتساءل: هل السيف وحده مما يخيف ويؤثر في طبائع الناس؟ أليس ثمة شيء آخر يدفع الإنسان الضعيف لمخالفة ضميره؟ بل نرى أنه لم يظهر في أي زمن مضى نفاق مثلما ظهر في عصرنا هذا في الحياة اليومية. فلا يصح القول بأنه لا يوجد منافقون اليوم. نرى على صعيد الواقع أن هناك منافقين فيمن يُدعَون أحمديين، هذا ينافق لسبب وذاك لسبب آخر. فلو وجدنا بعض نماذج سيئة في المسلمين في زمن النبي فإننا نقول عن أصحابها أنهم منافقون ونفصلهم عن الصحابة، أما إذا وُجد بين صفوف الأحمديين من كان يخالف تعاليم الأحمدية عمليًا ويصر على فعله فلا نعتبره منافقًا ونعدّه من صحابة المسيح الموعود !! وهكذا نشوّه سمعة جماعة المسيح الموعود !

لا أقصد من كلامي هذا أن كل من صدر منه ضعف فهو منافق، حاشا وكلا، بل إذا كان في الجماعة منافقون فلا ينبغي اعتبار كل واحد من جماعة المؤمنين بحجة ادعائه بالأحمدية. ولكن لا يعني ذلك أن نصدر حكمًا على مثل هؤلاء الأفراد لأنه سيؤدي إلى إحداث الفتنة، إلا أنه ينبغي أخذ هذا الأصل بعين الاعتبار عند إقامة رأي شامل عن الجماعة.

السبب العاشر: إن صحابة النبي يمتازون عن غيرهم من المسلمين لأننا من خلال تدوين التاريخ علمنا إذا كان أحد صحابيًا أم لا، أما هنا فقد اختلط صحابة المسيح الموعود مع غيرهم، ولا يُعرَف إذا كان أحد قد حظي بصحبة المسيح الموعود أم لا، اللهم إلا عن بعض الصحابة الخواص فقط. وفي ذلك مشكلتان؛ الأولى: لا يعرف الناس عن الأحمديين أن فلانا منهم بايع في زمن المسيح الموعود أم بعده، وإذا عرفوا أنه بايع في زمن حضرته فلا يُعرَف إذا كانت له صحبة مع المسيح الموعود أم لا. والمعلوم أن الصحابي هو مَن حظي بالصحبة، وليس صحابيًا كل من يؤمن في زمن نبي من الأنبياء. لقد أسلم العرب كلهم في حياة النبي ، فهل تحول العرب كلهم إلى صحابة النبي ؟ كلا، بل الصحابة هم الذين صاحبوا النبي ، وإذا اعتبرنا الجميع صحابة النبي فلن يكون وزن لرأينا الذي نتخذه الآن عن الصحابة. فالصحابي هو من بقي في صحبة نبي. أما ههنا فقد اختلط صحابة المسيح الموعود مع الذين آمنوا في زمنه، ولا يسع أحد التمييز بينهم بل اختلط فيهم بعض الذين آمنوا به بعد وفاته . فكيف يمكن في هذه الحالة تكوين رأي عن صحابة المسيح الموعود ما لم تتوفر معلومات عنهم؟ وكيف يمكن قياس حالة أفراد الجماعة الآن على حالة صحابة المسيح الموعود ؟ ولكن عندما تُجمع المعلومات تاريخيًا عن الظروف والحالات وتبدو جماعة صحابة المسيح الموعود مميزةً عن غيرهم، عندها يمكن تقدير حالتهم الإيمانية والروحانية.

السبب الحادي عشر هو أن بعض الناس يسيئون الظن بالجماعة الإسلامية الأحمدية لأن المسيح الموعود وخلفاءه في بعض الأحيان ذكروا تقصيراتها وزجروها لحالتها، ولكنه انخداع، لأن مِن مهام الواعظ أن ينتقي من مآثر السابقين ويذكرها بصيغة مؤثرة لتبعث الناس على الأعمال الصالحة وتدفعهم إلى اكتساب الحسنة، كذلك من أعماله أن يفصل في تقصيرات مخاطبيه وضعفهم ليدركوا ذلك ويسعوا من أجل الرقي. لا يذكر الواعظ عمومًا ميزات المخاطبين، بل يركز على التقصيرات والضعف ليشعر المخاطبون أن حالتهم لا تبعث على الطمأنينة، وكل ذلك من أجل حثّهم على السعي المتواصل لإحراز المستوى المطلوب للإصلاح. لقد ذكر المسيح الموعود هذه النقطة في رسالته لعبد الحكيم المرتد حيث قال: “أَعِظُهم وأحثّهم على المزيد من التقدّم في هذه السبيل. إنني لا أحدثهم عن فضائلهم ولكن أشعر بسعادة كبيرة في قلبي.”

ويتضح من بعض الأحاديث النبوية أن هذا كان أسلوب النبي أيضا، لذلك فلا يمكن الاستدلال المنافي لمكانة الجماعة من خلال تصريحات المسيح الموعود وبيانات الخليفة الأول والخليفة الثاني رضي الله عنهما أو من تصريحات بعض صلحاء الجماعة.

أما ما يميل إليه طبع بعض العلماء أنهم دائمًا يركّزون على الجانب الضعيف، بل يركزون عليه أكثر من اللازم وبطريقة غير لائقة فإنه برأيي ليس طريقًا سليمًا، لأن ذلك يؤدي إلى انحطاط مكانة الجماعة في أعين أفرادها وسيفضي إلى تثبيط هممهم. فلا بد من الاعتدال في مثل هذه الأمور مع مراعاة الحكمة كما كان طريق المسيح الموعود ، وكما هو طريق الخليفة الثاني، وذلك لأن ما يناسب الرقي الإيماني هو حالة ما بين الخوف والرجاء.

السبب الثاني عشر هو أن الناس يرون أن الله تعالى مدح صحابة النبي في كلامه المقدس، أما صحابة المسيح الموعود فيرون أنه لم يرد عنهم شيء. وهو انخداع أيضا، لأننا إذا اطلعنا على وحي المسيح الموعود وجدنا فيه أن الله تعالى قد أثنى عليهم. ولكنني أقول بأنه لا حاجة إلى أن يرد مدح صحابة المسيح الموعود منفصلا عن مدح صحابة النبي ، لأننا نرى أنه إلى جانب مدح الصحابة في القرآن الكريم ورد نص صريح: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (الجمعة: 4) وأُخبرنا فيه أن صحابة المسيح الموعود أيضا يدخلون في صحابة النبي ويشكلون جزءًا منهم. ولقد فسر المسيح الموعود هذه الآية في مواضع عدة من كتبه، فقد كتب في صفحة 152 من كتابه “تحفة غولروية”:

“أما نبينا فله بعثتان ويدل عليه النص القطعي للآية الكريمة وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ، ولقد كتب جميع أكابر المفسرين في تفسير هذه الآية أن الفئة الأخيرة من هذه الأمة أي جماعة المسيح الموعود تكون على سيرة الصحابة وسينالون الهدى والفيض من النبي مثل الصحابة رضي الله عنهم دون أدنى فرق. فلما ثبت من النص القرآني الصريح أنه كما تمتع الصحابة بفيض النبي كذلك ستتمتع به جماعة المسيح الموعود دون أي فرق؛ ففي هذه الحالة لا بد من الإيمان ببعث آخر للنبي في الزمن الأخير ويكون في عصر المسيح الموعود في الألف السادس.

ثم كتب في صفحة 67 من تتمة كتابه حقيقة الوحي:

وَآخَرِيِنَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي أن هناك فئة أخرى من أصحاب النبي لم تظهر بعد. وواضح أن الأصحاب هم أولئك الذين يعاصرون نبي الوقت ويحظون بصحبته في حالة الإيمان ويتلقون منه التعليم والتربية. فيتبين من ذلك أنه سيُبعث في الآخَرين نبي يكون ظلا للنبي لذا سيُسَمّى أصحابه أصحاب النبي . وكما أدى الصحابة رضي الله عنهم خدمات في سبيل الله حسب ظروفهم كذلك سيؤديها هؤلاء أيضا حسب ظروفهم.”

فإذا كان الله العالم بكل شيء الذي لا يخفى عليه شيء يُدخل جماعة المسيح الموعود في جماعة صحابة النبي ، ويثني عليهم فلا حق لزيد وبكر أن يتفلسف حول هذا الأمر؟ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

السبب الثالث عشر الذي يجهله الناس عمومًا وهو أن الله تعالى قد حدّد طريقًا معيّنًا لرقي كل جماعة، ويتبين من القرآن الكريم أنه قُدّر رقي جماعة المسيح الموعود رويدًا رويدًا كما قال تعالى: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ (الفتح: 30) أي ستحقق جماعة المسيح الموعود الرقي كالنبتة التي في البداية تُخرِج من الأرض أوراقها الصغيرة الضعيفة ثم تتقوى وتتقوى شيئًا فشيئًا. وكتب المسيح الموعود في صفحة 123 من كتابه إعجاز المسيح ما يلي:

“فأشار موسى بقوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ إلى صحابةٍ أدركوا صحبةَ نبيّنا المختار، وأَرَوا شدّةً وغلظةً في المضمار، وأظهروا جلال الله بالسيف البتّار، وصاروا ظِلَّ اسمِ محمد رسول الله القهّار، عليه صلوات الله وأهل السماء وأهل الأرض من الأبرار والأخيار. وأشار عيسى بقوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ – إلى قومٍ آخَرِينَ مِنْهُمْ وإمامِهم المسيح، بل ذكَر اسمَه أحمدَ بالتصريح.”

ومن هنا يتبين أن رقي جماعة المسيح الموعود لن يكون بصورة انقلابية فجائية بل هو الرقي المتواصل المتسلسل، والسبب في ذلك هو أن الأمراض الروحانية أيضا متنوعة على شاكلة تنوّع الأمراض الجسدية، وبعض هذه الأمراض مؤلم جدًّا بحيث تجعل المريض مضطربًا شديد الاضطراب، إلا أنها تزول سريعًا بالعلاج المناسب، وينعم المريض الذي كان يعاني حالة مؤلمة من الكرب بصحة وعافية بعد تلقي العلاج ويستعيد صحته ويبدأ المشي والحركة بشكل طبيعي. ولكن مقابل ذلك هناك بعض الأمراض التي تعتبر مزمنة وهي تلازم المريض كعاهةٍ، قد لا يتألم بها المريض كثيرًا ولا يتعرض لنوبات الاضطراب إلا أنه يذوب داخليًا رويدًا رويدًا بسبب شعوره، ولا ينفعها علاج سريع بل يحتاج الأمر إلى علاج طويل المدى. مثال الحالة الأولى هو الدُّمّل الكبير المليء بالقيح مما يسبب للمريض آلامًا هائلة ولكن ما أن يشقّه الطبيب ويخرج الصديد تزول الآلام ويشفى المريض بوضع الضمادات على الجرح، ويستعيد صحته ويأخذ يمشي ويتحرك بشكل طبيعي خلال ثلاثة أو أربعة أيام.

ومثال الحالة الثانية هو مثال شخص أصيب بالسلّ، فإنه ليس بالمريض الذي يعاني آلامًا وكربًا عظيمًا كمن عنده دمّل مؤلم، بل هو يذوب داخليًا بسبب شعوره، وليس له علاج سريع يخفف من شعوره بل يحتاج إلى معالجة خاصة طويلة. ولما كانت الأمراض الأخلاقية والروحانية لهذا العصر تشابه السل لذلك لا تظهر نتائج علاجها سريعًا بل تحتاج إلى وقت. واعلموا أن الله تعالى لا يريد – من قوله عن صحابة المسيح الموعود : كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ – إخبارَنا عن عددهم فحسب بل عن كل نوع رقيهم. والله أعلم.

وعليه فينبغي عدم الاستعجال في الاعتراض والطعن في مثل هذه الأمور.

هذه الأمور الثلاثة عشرة تحول دون معرفة المكانة الحقيقية لصحابة المسيح الموعود ، وقد ذكرتها بإيجاز، بل أوجزت بعضها إيجازًا شديدًا عمدًا، والله يشهد أنه لم تكن بي رغبة في الإسهاب في هذا الموضوع،  كما لم تكن له مناسبة واضحة، إلا أنني لاحظت أن هذه الأمور تثير شبهات لدى الناس الذين ينخدعون بها، وبدأ يتسع نطاق انتشار هذا الانخداع، فلم أستطع التزام الصمت في هذه الحالة.

وهناك أمر آخر جدير بالذكر هنا وهو أننا نؤمن بفضل الله تعالى بأن النبي هو أفضل الأولين والآخرين كلهم كذلك نؤمن بأن جماعته أفضل الجماعات جميعها. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك