المساهمة الممكنة للإسلام في السلام العالمي

المساهمة الممكنة للإسلام في السلام العالمي

محمد أسلم

إذا اعتبرنا فكرة السلام، فإن الإسلام يبدو وهو يضم على الأقل ثلاثة أمور مختلفة لها مظاهرها المميزة التي تدعو لاهتمام أولئك الذين يبحثون عن فلسفة السلام ومشروع السلام، والأمور الثلاثة هي:

(أ) الأفكار الإسلامية التي تهب عقول الرجال نظرة صائبة للسلام والتي تشتمل على سياسات واسعة تؤول آخر الأمر إلى علاقات إنسانية سلمية.

(ب) الخبرة الخاصة للإسلام، والمثل الخاص للرسول الكريم في شؤون الحرب والسلم؛ فالرسول الكريم والفئة الإسلامية الأولى بمحاولات وتجارب ناجحة ساعدتهم على عرض الإسلام صادقًا في مجابهة المشكلة العلمية لبناء السلام وحفظه بين الجماعات المتنازعة في مختلف الأجناس والمناطق والأديان.

(ج) إن الإسلام لا يعتبر نفسه تعليمًا ونفوذًا كل همه أن يحتل مكانًا مرموقًا في التاريخ الديني أو السياسي للإنسان، ولكنه يعتبر نفسه تعليمًا وإرشادًا للقيم الخالدة وللعالمين. ولذلك فقد أصبح ضروريًا أن نتساءل: ما هي الاعتمادات الفياضة التي يتزود بها الإسلام لاستمرار مثله الفعالة ونفوذه القوي في حاضر الحرب والسلام ومستقبلها؟ وما هو الأمل أو الوعد الذي يقدمه للإنسان الحديث ومستقبله؟

(2)

ولنبدأ بمبادئ السلام، ويمكن أن تقدم في ثلاث فقرات أو أربع أو خمس:

الأولى: هي مفاهيم الإسلام العالمية. فمشاريع السلام قد وصلت أخيرًا ومتأخرة إلى المفاهيم العالمية. وأما خطط السلام فقد كانت لعهد قريب جدًا مفهومة لمناطق معينة؛ ولعدد محدود من الأمم والشعوب. وأما الإسلام فإنه لم يتقدم منذ البداية إلى المعاصرين له فقط بل تقدم برسالته إلى جميع أجناس البشرية وطبقاتها:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ

(يونس: 58). فتشريعات الإسلام لم تفرق بين إنسان وإنسان؛ فحيثما وجد الإنسان فهنالك علاقات إنسانية قائمة. وعندما قام الإسلام ظهر كأنه دين عربي أو حركة عربية، ولكنه قرر أن العرب ليسوا فوق غير العرب. وفي طريقه الواسع للتاريخ الديني يربط بين الأنبياء والمرسلين لكل الأمم والشعوب، ويطلب الإيمان بهم واحترامهم جميعًا. فكلهم على حق وكلهم إليه يدعون قال الله تعالى:

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة: 137).

فالمسلمون هم شعب يؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين ويحترمهم كما كان أتباعهم يفعلون.

الثانية: فكرة السلام الثانية للإسلام هي وحدة الإنسانية وهذه مستمدة من فكرة الإسلام العالمية. فالإسلام قد أقام عالمـًا واحدًا دون أن يتجاهل الفوارق المميزة للأديان والأجناس، والألوان، واللغات. فالإنسانية كما يقرر الإسلام، ابتدأت وحدة، ثم انقسمت من بعد ذلك، وانتشرت في مختلف أجزاء الأرض. وكل فئة من الناس تسلمت تعليمها الخاص من الله بواسطة الأنبياء. والإنسان من أصل واحد. وإن اختلافاتهم طريق عملي للتعارف:

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 14).

ولقد كان غريبًا حقًا أيام البعث الإسلامي الأول أن يفكر الرسول الكريم أو أي إنسان أن يدعو لعالم واحد، وإنسانية واحدة، وإله واحد. (الأنبياء: ۹۳ وص: 6).

والعالم يشاهد منذ زمن الرسول الكريم أن عدة أجزاء من العالم قد اتصلت وأن عدة شعوب مختلفة قد أصبحت متقاربة. وذلك لأن الحقائق الطبيعية تجعل وحدة العالم حقيقة لا مفر منها. وأما فوارق الألسنة والألوان فقد تبقى. (الروم: ۲۳). فاختلاف الناس يدعو إلى التعارف المتبادل، ولا يدعو إلى التفاخر. (الحجرات :14).

والوحدة الإنسانية يجب، في النهاية، أن تصبح حقيقة واقعة، وما لم يحدث هذا فالخلق سيكون عبثًا. والخلق ما كان ولن يكون عبثًا.

(الثالثة) فكرة السلام الثالثة للإسلام هي الحرية: فالاعتقاد حر، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة:257). ومع الحرية يكون الإيمان صادقًا وسليمًا. وأما النفاق فإنه يستحق الازدراء من الوجهة النفسية، لا يمكن الدفاع عنه. والإسلام في بدء دعوته شهر السيف للدفاع عن الحق الإنساني في حرية الاعتقاد. وقد انتصر الدفاع بكل عناية، ولكن الإسلام منذ ذلك الحين أصبح متهمًا، وقد أسيء فهمه، ويعود التاريخ في زماننا ليقدم الجواب. فالإسلام قد فقد إمكانياته الاجتماعية والسياسية.

ومع ذلك فالإسلام ينتشر. وليس ذلك إلا بفضل الفكر الذاتي والنداء الروحي: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ كما يقول الإسلام. فالإيمان ليس هو العمل القولي فقط، بل هو جميع الأشياء، فالحياة العملية والمنشآت والآداب كلها تستقي من الإيمان.

وهكذا فهناك حرية في الأعمال الإنسانية عمومًا. والقرآن لا يسمح فقط بل يطلب من الجماعات المتدينة من اليهود والنصارى والمسلمين أن تعيش جنبًا إلى جنب. وقد تكون الحكومة إسلامية، ولكن تلك الجماعات تتبع قوانينها الخاصة بها

لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (المائدة: 49).

ولا داعي إذن أن يقوم تنازع فيما يختص بالاعتقادات الدينية السليمة وممارستها. ولكن الاختلافات السياسية قضية أهواء، وتكون المسئولية موزعة عليهم جميعًا، فكل جماعة تظل حرة. وحرية كل جماعة محددة بحرية مساوية للجماعات الأخرى. فالحرية إذن هي المفتاح الرئيسي في تشريع العلاقات الإنسانية، وتحتاج فكرة السلام غير قليل من الزمان لقيامها. وعندما تقوم فسيكون لها النفوذ الخالد.

فيجب أن تبنى فكرة الحرية في عقل الإنسان ودوافعه، كما يجب أن تبنى على فكرة الرضى المطلق للإنسان. الرابعة: وفكرة السلام الرابعة للإسلام هي العدل. فالعدل هو الضمان الأساسي للسلام. ويظهر أن فكرة السلام المتداولة قد أضاعت طريقها الصحيح وضلت سبيلها، لأنها قد فقدت فكرة العدل.

فالعدل بمقتضى القرآن، هو الخطوة الأولى نحو العلاقات الإنسانية الطيبة. بينما الإحسان هو الخطوة الثانية. والحب هو الثالثة. (الحجرات: 9). ونحن الآن بعيدون عن إقامة العدل فيما بيننا. فالعدل هو أول شيء يجب أن يتعلمه الإنسان. والعدل يعني مبدأ المساواة في الأخذ والعطاء، والمعاملة يجب أن تكون واحدة للجميع، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا. عامل بالعدل حتى الذين تبغضهم، فذلك أحسن وأقرب للتقوى. عامل بالعدل حتى أولئك الذين أساءوا إليك:

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت: 35).

وفي معترك السياسة بين الأمم نجد العدل عظيم الأثر. وأما الوسائل السياسية الدولية المستحدثة من تحديد للتسلح، وإنشاء للمنظمات العالمية، والمفاوضات الدبلوماسية فإنها لم تنجح في أداء رسالتها، وقد فضلت في الوقت الحاضر. لقد فشلت عندما اصطدمت مصالح الأمم الضعيفة مع مصالح الأمم القوية، وليس لنا هنالك مبدأ أساسي نسير عليه، وذلك هو «الهوى» وليس هو العدل. فالهوى يعمل على العبث بمصالح الضعيف. وهذا المبدأ يجب أن يزول والمبدأ الأساسي هو العدل.

وإنه لما يؤسف له أن مجلس الأمن قد وصف بأنه مجال مساومة، وأن محكمة العدل العالمية ليس لها إلا قليل من العمل. ولو أن المبادئ الإسلامية سادت محكمة العدل العالمية، لزادت في عملها، وقدمت أعمالاً جليلة أيضًا. (الخامسة) وفكرة السلام الخامسة للإسلام هي فكرة القانون. فرسول الإسلام هو المعلم للقرآن المجيد. والقرآن (كتاب وحكمة). فالإسلام يضع القوانين والتشريعات، ويشير أيضًا إلى الحكمة الكامنة في تلك القوانين ثم يرفع من شأن الحرية، ويدعو إلى التفكير والتأمل.

وقد يظن بعض الناس أن التشريع أمر قليل الأهمية والأثر ويظنون أن الإرادة الطيبة والنوايا الحسنة أكثر أهمية وفائدة. ولكننا نجد أنه عندما تفشل الأمم الضعيفة أن تنال العدالة فإنها تزدري بالقانون وتشك في صلاحيته ونفوذه. وننسى أن التشريع أحسن حارس يصونهم في معترك الأهواء، وأن هذا التقدم الصامت الذي أحرزته الإنسانية نحو السلام قد كان بتقديس القوانين واحترامها، سواء أكانت مدونة أو غير مدونة. والإسلام قد جعل شعاره العملي: (السلام عن طريق القانون).

حقا أن قانون السلام له قيمة بدون إرادة السلام، وأن إرادة السلام لها قيمة بدون قانون السلام، ولكن الإسلام يضع قانون السلام ويجعل النفس الإنسانية حارسًا لمبدأ السلام، ويزوده بأحسن الوسائل الممكنة للأمن الجماعي. (الحجرات: 10). والإسلام فوق ذلك يضفي على المعاهدات والالتزامات الدولية قداسة وحرمة.  ويقرر صيانة المبعوثين في أشخاصهم ومقاماتهم.

(3)

تعاليم الإسلام في السلام

لقد أيد الإسلام تعاليمه في شأن السلام بأمثلة إسلامية حية وبتجارب عملية واقعية. والمبادئ إذ لم تؤيدها أمثلة وتجارب فإنها تظل مبادي جوفاء فارغة المعنى. الرسول الكريم كان فتى شابًا حينما اجتمعت القبائل العربية لتجديد بناء الكعبة. ولما وصلت إلى مكان الحجر الأسود تنازعت فيمن يضع هذا الحجر وينال ذلك الشرف. وهنا جاء الرسول الكريم   بالحل العملي السليم. فانتهى الخلاف، ورضى الجميع.

والرسول الكريم أيضًا، وقد كان شابًا، اشترك في جماعة تعاهدت في «حلف الفضول» على نصرة المظلوم وإعانة الضعيف أيًّا كان. وبعد قليل من الزمن انقلب أهل مكة جميعًا بالعداء والأذى على رجل ضعيف غير معروف، وقد نسي الناس في مكة ذلك العهد إلا هذا الكريم. وجاء الضعيف يستنصره، فقام النبي وأتى أبا جهل زعيم الخصوم وسأله أن ينصف الرجل من نفسه ففعل.

وفي حلف المدينة كذلك أيضًا يستعرض الرسول الكريم كيف تعيش الجماعات المتنازعة والمتزاحمة جنبًا إلى جنب في نظام بديع من تكوينهم الخاص بهم. فقد استطاعوا أن يعيشوا ويعملوا متحدين بمصالحهم المشتركة في أمن اجتماعي وسلام طبيعي وأن يعملوا منفصلين حسب التزاماتهم ومعتقداتهم الدينية المتبانية.

والمجتمع الإسلامي الفسيح الذي يجتمع فيه العبيد والأحرار من أمثال الحبشي والفارسي والرومي قد قدم مثالاً عمليًا لأوسع وحدة إنسانية.

والإسلام يضع قاعدة للوحدة بين المختلفين فيقول للنصارى واليهود:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ.. (آل عمران :25).

وهذه القاعدة يمكن تطبيقها في كل مكان وزمان. كما أنه يمكن استخدامها في تضييق شقة الانقسامات وتحديد الفوارق وآثارها. وإن أشد الجماعات المتباعدة ينبغي أن يكون لها مصالح إنسانية مشتركة تكون أساسًا لوحدة بشرية شاملة.

وفي صلح الحديبية قبِلَ الرسول الكريم شروطًا غير متكافئة للمسلمين؛ وفيها هضم مقامه، ولكنه مع ذلك قد حافظ عليها حفاظا شديدًا، واستطاع بذلك أن يعيد السلام للأرض التي ما عرفت السلام من قبل وما كان لها أن تعرف.

وما كان ذلك السلام إلا من تعليم الرسول الكريم ، ونموذجه الحي وإلهامه السديد. والإسلام يقدم للعالم الحديث درسًا آخر شاملاً من تجاربه العملية. فالأحوال، وأعني بها الأحوال النفسية، في البلاد العربية عند مجيء الإسلام كانت شديدة الشبه بأحوال العالم الحديث. ولكن في ذلك الحين توفرت القيادة الحقة في شخص الرسول الكريم   واستطاع وحده فقط أن يخلص البلاد العربية والناس من فشل عظيم. والآن ليس للعالم مثل تلك القيادة.

فما هي صفات تلك القيادة التي جعلت البلاد العربية واحدة، وجعلت من هذه الوحدة دعاة مبشرين بوحدة عالمية؟ إنها الورع والشجاعة وقوة الإيمان. تلك الزعامة التي تعطي أكثر مما تأخذ، وتقابل الآخرين في أكثر من منتصف الطريق، وتجعلهم يرضون بالسلام وروح التسامح، وتساعد أخيرًا على قيام الوازع النفسي. إنها زعامة تتم السلام عن طريق الهداية. إنها لم تكن لتعاقب المسيئين؛ بل أقامت سلامها راسخًا عن طريق الصفح والغفران.

(4)

هذا وقد يظل بعض الناس في عصرنا غير حافلين بأيام الإسلام ولا بعقائده وآدابه، وقد يقولون بأن أيام الدين قد ولت وذهبت. وهنا لا نحتاج إلا أن نذكر أنفسنا أن هذه النعرة الإلحادية قد مرت بها الإنسانية من قبل مرارًا، وأن هذه النعرة قد تلاشت مرارًا أيضًا بدافع روحاني جديد.

وفي خلال أكثر من 6000 سنة من التاريخ الديني التي مضت قد حقق الله وعوده مع الإنسان، تلك الوعود التي يجريها في الزمن العصيب الحالك.

فالتغيرات الروحية في الماضي جاءت في فترات متعادلة من الزمان. وإن التغير الروحي الكبير في طريقه وقد آن منه الأوان. ولدينا إشاراته الأكيدة، فما هذه الحروب والأوبئة والمواصلات والمؤتمرات والصحف والعلم والفن ويأجوج ومأجوج والأعمال الباهرة الأخرى إلا علامات وإرشادات لعودة الإسلام من جديد وانتشاره في جميع أرجاء العالم الفسيح. (راجع سفر حزقيال من الكتاب المقدس، وسورة الكهف وسورة التكوير من القرآن الكريم).

وإن هذا التغيير لا يمكن أن يحال دون سبيله، ففي الغرب حيث كان الناس أكثر جهلاً للإسلام، نجد اليوم هنالك جماعات إسلامية ناهضة. كما أن أساليب الدعوة قد تطورت. والمسلمون قد رموا روح اليأس. وقد أخذ هذا التغير يسير في طريقه وإلى غايته.

ولا بد من هذه الوسائل المادية المستحدثة، وبدونها لا يستطيع الإسلام أن يقوم بدوره الفعال. وهذا التغير يجب أن يؤسس على المبدأ الإسلامي في الحرية وطريقه هو الإقناع والدعوة بالحسنى.

فعلينا أن نعمل وأن ننتظر ظهور الوعد الذي يحمل هذا التغير. وإن ألف سنة قد لا تكون أمدًا طويلاً. ولكن الذين يعملون وينتظرون أولئك سيكون لهم الجزاء الخالد.

Share via
تابعونا على الفايس بوك