الاستشفاء بِالصوم والغذاء
  • تفرد الأسلوب الإسلامي في العلاج بالصوم والطعام.
  • المسيح الموعود يفتتح مجالا طبيا جديدا.
  • عادات أثرت سلبًا على نظام حياتنا وصحتنا.
  • الحمية رأس كل دواء.
  • موسم الاستشفاء السنوي.

__

على خلاف السائد لدى أكثر الثقافات، تكاد الثقافة الإسلامية تنفرد بوصفها محتفلة بالامتناع عن الغذاء إلى مدة محددة خاصة، ولا شك أن هناك ثقافات تشترك مع الثقافة الإسلامية في هذا الأمر، وهذا الاشتراك راجع بالطبع إلى وحدة المصدر، بما أن الإسلام دين الإنسانية الأول الذي ارتضاه الله تعالى لها في كل العصور. والأسلوب الإسلامي فيما يتعلق بالتغذية أسلوب فريد من نوعه، ولا يطلع عليه عالم إلا وشهد بمزاياه، مما فتح الباب على مصراعيه لفئة من المثقفين المسلمين المنادين بالترويج لمواضيع الإعجاز العلمي في القرآن، لا سيما وأن موضوع الغذاء ومتعلقاته يشغل حيزا لا بأس به من مجموع آيات وسور القرآن الحكيم.

المسيح الموعود يفتتح مجالا طبيا جديدا

في الآونة الأخيرة أخذت مجالات معرفية جديدة تطفو فوق سطح محيط البحث العلمي المترامي الأطراف والآخذ في الاتساع يوما إثر يوم. من تلك المجالات العلمية الوليدة علم الأعصاب الغذائي (Nutritional Neuroscience)، وهو أحد فروع العلوم الصحية التي تجمع مختلف التخصصات الطبية مع تخصص علم الغذاء والتغذية، وهذا الحقل العلمي يدرس آثار المكونات المختلفة للأنظمة الغذائية كالمعادن والفيتامينات والبروتينات والكربوهيدرات والدهون والمكملات الغذائية والهرمونات الاصطناعية والمضافات الغذائية، على الكيمياء العصبية، والسلوك النفسي والإدراك. وبينما نرى بعض كُتَّاب الباحثين والصحافيين ينسبون أولى محاولات الربط بين التأثيرات النفسية والصحة الجسمانية إلى عالم النفس الكندي الجنسية النمساوي الأصل «هانز سيلي» في الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك بإدخاله مصطلح «الضغط النفسي» وقوله بأن الحال النفسية تلقي بظلالها على الحال الجسمانية، بحيث تنشأ كثير من أمراض الجسم لأسباب نفسية دون أن يكون لها أي سبب عضوي. ولا شك أن هذه الفكرة صائبة 100%، غير أننا نجد أنفسنا مدفوعين إلى نسبة الولد لأبيه، حيث إن هذه الفكرة أول من قال بها ووثقها ممتلكا بذلك براءة اكتشافها، هو حضرة مرزا غلام أحمد القادياني، المسيح الموعود u في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل أن يخرج «سيلي» بمصطلحه على الناس بنحو نصف قرن. لقد وثق المسيح الموعود اكتشافه الرائع ذاك في مؤتمر عالمي مشهود، مؤتمر الأديان المنعقد في لاهور في ديسمبر 1896. وإنْ كان المؤتمر دينيا إلا أنه تناول شتى مناحي الحياة الإنسانية، على اعتبار أن الدين أسلوب حياة. لقد كان هذا التوثيق لفكرة التأثير المتبادل بين الروح والجسد أحد عناوين خطاب حضرته خلال المؤتمر وقد نُشر ذلك الخطاب الجليل فيما بعد ككتاب بعنوان «فلسفة تعاليم الإسلام».

حقائق مخفية، ومخيفة

طالما درج كثير من الناس على عادات غذائية ظهرت في الآونة الأخيرة مدى سوئها وخطورتها على المدى البعيد، وقد ظلت خطورتها خافية عن أكثرنا حتى خضعت للبحث المخبري مؤخرا، مثل عواقب تناول الوجبات السريعة، والأطعمة المحتوية على نسب كبيرة من السكر المكرر، واحتساء الشاي بعد الأكل، في مشهد يكاد يعم العالم بأسره كعادة إنسانية في غاية السوء والانتشار أيضا.لهذا يحذرنا خبراء ما بات يُعرَف بعلم الأعصاب الغذائي من أن عدم ممارسة التمارين الرياضية، واتباع أنظمة غذائية سيئة يمكن أن يساهم في ظهور العديد من مشاكل الصحة النفسية والعقلية، مثل الاكتئاب والقلق والعديد من المشكلات الإدراكية. ويشير المجال الذي أخذ في الانتشار، أي علم الأعصاب الغذائي، إلى وجود علاقة وثيقة بين العوامل الغذائية والإدراك البشري والسلوكيات والعواطف، وكذلك يؤكد على أن سوء التغذية في فترة الطفولة يؤثر على مقادير الخلايا العصبية في أجزاء من الدماغ.وقد ساهمت التحولات الكبيرة في أنماط الحياة، إلى جانب التغير في تناول الغذاء الصحي، والزيادة الملحوظة في استهلاك السكر المكرر والطعام المحتوي على نسب عالية من الصوديوم والمقليات والوجبات السريعة في تفاقم سوء الحال. فكلما كان النظام

الغذائي سيئا، أصبحت خياراتنا الغذائية أقل جدوى. الأمر الذي أحدثه انخفاض استهلاك الأطعمة الغنية بالمغذيات في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص.وقد أثر نمط الحياة المعاصرة المتصف بالتصنيع والتحضر سلبًا على مستويات النشاط البدني للأشخاص، وخاصة الأجيال الشابة. إذ يتم تصنيف العديد من الناس في سكان العالم على أنهم غير نشطين بدنيا بدرجة كافية.

الحِمْيَة رأس كل دواء

لقد أصاب الشاعر العربي كبد الحكمة حين قال:

فــــإنَّ الدَّاءَ أكثــر ما تـــراه

يكونُ من الطَّعـامِ أو الشَّـرابِ

كما جاء في المقولة الشهيرة المنسوبة للطبيب العربي الحارث بن كلدة:«المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء»..كذلك أيدت الأبحاث الطبية المعاصرة صحة هذين القولين العربيين، فبينت أن في حال وصول مواد ذات طاقة عالية مع جودة منخفضة مثل الأطعمة المصنعة والوجبات السريعة إلى المخ، فإنها تعيق نمو خلايا الدماغ والوظائف الحيوية. وتوصلت تلك الأبحاث إلى وجود علاقة طردية بين اتباع نظام غذائي غني بالسكريات المكررة وضعف وظائف المخ بالإضافة إلى زيادة احتمالات الإصابة بالاكتئاب.وهكذا بات واضحا أن للأطعمة المصنعة والوجبات السريعة أثرا سلبيا على القدرة العقلية قد يستمر إلى الأبد إذا لم يُحسِّن المرء من نمط غذائه. لذلك ينصح الخبراء باتباع حِمْيَة البحر المتوسط (الغنية بالخضروات والفواكه والمكسرات والبقوليات والحبوب الكاملة غير المقشورة والأسماك والدهون غير المشبعة مثل زيت الزيتون) وذلك لتحفيز وتعزيز الوظائف الإدراكية مثل الذاكرة والتفكير والتعلم. وإليك قائمة نظام غذائي صحي:

الأحماض الدهنية أوميغا 3:

هي مكونات أساسية لصحة الدماغ حيث أن المخ هو أحد الأعضاء التي تحتوي على أعلى مستويات الشحوم (الدهون). فهي تساعد على تحسين الأغشية العصبية مما يزيد من الكفاءة الوظيفية للدماغ. ولقد توصلت الدراسات إلى أن علاجات الأحماض الدهنية أوميجا 3 وأوميغا 6 تفيد المرضى الذين يعانون من الاكتئاب والقلق واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط. إن أفضل مصادر أوميغا 3 وأوميغا 6 هي الأسماك الدهنية مثل سمك السلمون والماكريل والسلمون المرقط والسردين والأطعمة النباتية مثل بذور الكتان وبذور الشيا والمكسرات والخضروات الورقية.

يجب دمج المصادر الغنية بالحديد مع مصادر غنية بفيتامين (ج) لامتصاص أفضل. وعليه فيجب أن تتجنب شرب القهوة والشاي مع وجبات الطعام لأنها تضعف من امتصاص الحديد.

مجموعة فيتامينات (ب):

تساعد في تنظيم الناقلات العصبية (وهي الرسائل الكيميائية في المخ). وبينت نتائج الأبحاث الحديثة أن فيتامينات (ب) مثل الكوبالامين (ب12) والثيامين (ب1) والنياسين (ب3) وحمض الفوليك (ب9) قد تساعد في تخفيف أعراض الاكتئاب وانفصام الشخصية والخرف.بالإضافة إلى ذلك، فإن فيتامين (ب) المركب يعمل على تحسين خلايا الدم الحمراء في الجسم، وبالتالي زيادة مستويات الأكسجين في الدم، مما يجعلك أكثر نشاطًا وحيوية. ويعد نقص هذه الفيتامينات من الأسباب الرئيسية لضعف أداء بعض الأطفال في تقدمهم العلمي.إن أفضل مصادر الغذاء لمجموعة فيتامينات (ب) هي الحبوب الكاملة كالأرز البني والشعير والدخن والقمح. وأيضاً تعتبر اللحوم الحمراء والدواجن والأسماك والبيض ذات أهمية بالغة بالإضافة إلى الخضروات الورقية والفواكه مثل الموز والأفوكادو.

فيتامين ج:

ناهيك عن أن نقص فيتامين (ج) يسبب داء الاسقربوط، فإنه يمكن أن يسبب الاكتئاب والرغبة الشديدة في تناول الأطعمة السكرية. ويمكن لاتباع نظام غذائي غني بفيتامين (ج) إزالة أعراض مرضية نفسية مثل القلق والاكتئاب والاضطراب الثنائي القطب. ومن المثير للاهتمام أن فيتامين (ج) يعمل بالتوازي مع مجموعة فيتامينات (ب) وامتصاص الحديد. ولقد ثبت أنه يعزز امتصاص الحديد من خلال تخزين مركب الحديد غير الهيمي (الموجود بشكل رئيسي في الأطعمة النباتية) ليمتصه جسمنا بسهولة أكبر.هذا وبعض المصادر الغنية بفيتامين (ج) تشمل ثمار الحمضيات والخضروات الورقية والطماطم والفلفل الحار (خاصة الحمراء منها) والفجل والبطيخ والفراولة. علينا أن نحرص دائمًا على الجمع بين الأطعمة المحتوية على الحديد ومجموعة فيتامين (ب) مع الأطعمة الغنية بفيتامين (ج)لامتصاص أفضل.

فيتامين (د):

يوجد في عدد قليل جدًا من الأطعمة، مثل الأسماك الدهنية أو زيت السمك أو المحار أو الروبيان أو صفار البيض أو الفطر أو الحبوب المدعمة بفيتامين (د) أو اللبن أو عصير البرتقال أو لبن الصويا.تجدر الإشارة إلى أن الحديد عنصر ضروري في إنتاج الأوكسجين والطاقة، وتركيب الناقلات العصبية والغمد الميالينيّ. ومن المعروف أن نقصه لدى النساء (خاصة النساء في سن الإنجاب) يسهم في ظهور الاكتئاب والتعب المزمن والقلق ويسبب لدى الأطفال اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط. ونجد أن الخيارات الصحية واللذيذة هي المصادر الحيوانية كالدجاج والبط والديك الرومي واللحم البقري والسمك، وأيضاً الفواكه المجففة مثل المشمش والتوت والزبيب والتين والخوخ. كما ناقشنا سابقًا، يجب دمج المصادر الغنية بالحديد مع مصادر غنية بفيتامين (ج) لامتصاص أفضل. وعليه فيجب أن تتجنب شرب القهوة والشاي مع وجبات الطعام لأنها تضعف من امتصاص الحديد.

الزنك:

وجدت مستويات الزنك أقل عند المرضى الذين يعانون من الاكتئاب السريري. حيث ساعد تناول هذا المعدن فموياً في فعالية العلاجات المضادة للاكتئاب، على سبيل المثال إدمان الكحول وداء نيمان بيك (وهو نوع من الخرف التدريجي) وانفصام الشخصية. علاوة على ذلك، ارتبطت مستويات كافية من الزنك بضعف قدرات التعلم والتخلف العقلي لدى الأطفال. وبالتالي، لا ينبغي أن تؤخذ هذه المغذيات الدقيقة باستخفاف. وإن أفضل مصادر الزنك هي اللحوم والمأكولات البحرية والبيض والبقوليات والمكسرات والبذور والشوفان والشوكولا الداكنة ومنتجات الألبان.

البروبيوتيك:

إن النبيتات الجرثومية المعوية (بكتيريا الأمعاء المفيدة التي تقوي المناعة) تشارك في تحسين الجهاز الهضمي. لذلك فإن الأمعاء والدماغ مرتبطان بشكل وثيق للغاية. وبالتالي لكلٍ منهما قدرة التأثير على الآخر من خلال تخفيف القلق، وتنظيم مستويات التوتر وعملية التعلم والذاكرة. ويشير بحث أجرته كلية الطب بجامعة هارفارد إلى أنه « نظراً لوجود نسبة كبيرة (حوالي 95٪) من مستقبلات السيروتونين في بطانة القناة الهضمية، فإن البحث دقق في احتمال معالجة البروبيوتيك لكلٍ من القلق والاكتئاب».ونتيجة لذلك، فإن الاضطرابات في هذه النظم تؤدي إلى تغييرات في سلوك الاستجابة للضغط النفسي. وعليه فإن مصادر الأطعمة التي تعتبر رائعة لذلك هي اللبن المخمر (الزبادي) ورائب اللبن والفطر والأطعمة المخمرة والمخللات واللبن منزوع الدسم.

موسم الاستشفاء السنوي

إن شهر رمضان من كل عام يعد صيدلية ومستشفى موسميا، سواء من حيث فريضة الصيام التي تتضمن العديد والعديد من الفوائد على كافة المستويات، ومنها المستوى الصحي، بدنيا ونفسيا، أو من حيث نوعية الطعام المستحب تناولها خلال هذا الشهر، تعزيزا للجسم بالطاقة والعناصر الغذائية باستهلاك أقل كمية من الطعام، تجنبا لتُخمة لا تُحمَد آثارها، فكلا الأمرين، أي الصوم والطعام، محمود، كل في مكانه بمقتضى الحكمة، ففي موضع يقول تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 185)،

وفي موضع آخر يقول عز وجل:

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأَعراف: 32).
Share via
تابعونا على الفايس بوك