التقعيد القرآني والخصوصية الحديثية

التقعيد القرآني والخصوصية الحديثية

هاني طاهر

  • القرآن هو المعيار القياسي
  • قضية الحرية الدينية
  • قضية الزاني المحصن

__

علينا أن نؤمن أنّ القواعد الأساسية في الدين موجودة في القرآن الكريم، قال الله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام 38).. أي “لم يبقَ شيء من التعليمات الضرورية خارج القرآن الكريم. والقرآن كتاب كامل لا يترك الإنسانَ لينتظر مكمِّلا آخر”. بينما لم يقُل الرسول : لم أترك شيئا إلا وقلتُه لكم بلساني، أو أنّ الأحاديث ما فرطَّتْ في شيء، بل قال:

“أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ الله لِي”. (مسلم)

ومعلوم أنّ القرآن الكريم هدًى للناس، فهو ليس خاصا بقبيلة، ولم ينزل يخصّ مناسبات معينة، أو أشخاصا معينين، أو زمنا معينا، بل هو عام للجميع بكل أزمانهم، قال الله تعالى:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (البقرة 185).

أما الأحاديث فبعضُها قالها الرسول لشخص بعينه، لا لتكون عامةً، وبعضها قالها بناءً على ما جاء في التوراة قبل نزول الحكم القرآني، وبعضُها قالها بوحي غيرِ قرآني فنسخها الله تعالى بقرآنه الكريم، وبعضها قالها في سياق خاص، وبعضها لم يكن راويها دقيقًا في نقلها، وبعضها أخطأ أحد الرواة في نقلها وأساء فهمها، وبعضها عمّم فيها الراوي الكلام مع أنه خاص. أما القرآن الكريم فلن تجد فيه مثلَ ذلك البتة.

لذلك كله كان لا بدّ أنْ يكون القرآن الكريم هو الحكَم والقاضي، ولا بد أن تكون الأحاديث تابعةً له، لا العكس. وهذا لا يحتاج تدليلا، بل كان ينبغي أن يكون مسلَّما به عند كل عاقل. لكن، سنرى أن الفكر التقليدي يعكس الأمر، فيجعل القرآن تابعًا للحديث مقدَّمًا عليه.

وسأضرب مثالين على ذلك، والمثالان فيهما قتلٌ ودماء، لا مجردَ حكم بسيط، وهما حكم المرتد وحكم الزاني المتزوج.

بالنسبة للمرتد، لدينا الأدلة التالية: قوله تعالى:

لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة 256)

والعديد من الآيات في معناها مثل:

أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس 99).

فنحن نقول في سطر واحد: لا عقوبة للمرتد لمجرد ردّته، سواء كان هناك أحاديث تقول بذلك أم بعكسه، فالتي تقول بعكسه لا بدّ أن يكون قد حدث فيها خلل، سواء من الرواي، أو من عدم معرفتنا بسياقها أو بمعاني كلماتها، أو بظروفها. ولدى غيرنا المرويات التي هي الحَكَم عنده، مثل: “مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ” (البخاري).

وخلاصة ما قالوه: أنّ مَن أسلم وارتد يجب قتله، وأن الآيات القرآنية خاصة بمن لم يُسلم أصلا، ولا تتحدث عن المرتد.. أي أن القرآن الكريم “فرَّط” في ذِكر حكم المرتدّ، بينما الأحاديث لم تفرِّط في شيء!!

ثم اختلف هؤلاء بعد ذلك في كل التفاصيل؛ فهل يقول الحديث: مَن أسلم ثم ارتدّ عن الإسلام فاقتلوه فورا؟ وماذا عمّن وُلد مسلما ثم ارتد؟ ثم هل يجب قتله فورا أم بعد مدة؟ وكم هذه المدة؟ وما الذي يحدّدها؟ نسألهم: هل يمكن لحديث مختصٍّ بقضية أنْ يترك هذه التوضيحات الهامة لاجتهادات الناس؟ هل وقف الرسول خطيبا وأعلن هذا القرار العام؟

لا بدّ أنْ يكون القرآن الكريم هو الحكَم والقاضي، ولا بد أن تكون الأحاديث تابعةً له، لا العكس. وهذا لا يحتاج تدليلا، بل كان ينبغي أن يكون مسلَّما به عند كل عاقل. لكن، سنرى أن الفكر التقليدي يعكس الأمر، فيجعل القرآن تابعًا للحديث مقدَّمًا عليه.

تعالوا نقرأ الروايات المختلفة في هذا الحديث لنرى كم هو معقَّد أن يترك الناس القرآن ويعودوا للحديث وحده.

هذا الحديث قيل في سياق تعليق ابن عباس على تحريق عليّ رضي الله عنهما لمجموعة من الناس. وهذه الروايات تختلف في سبب تحريقهم، فبعضها لا يذكر السبب، وبعضها يقول إنهم زنادقة، وبعضهم يقول إنهم مرتدون، وبعضها يقول كان معهم كتب، وحُرقوا هم وكتبهم، وبعضهم يقول: كانوا يعبدون وثنا. وفيما يلي هذه المرويات:

أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِأُنَاسٍ مِنْ الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا فَأَحْرَقَهُمْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. (أحمد)أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ الله لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ الله مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. (البخاري)

أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِقَوْمٍ مِنْ هَؤُلاءِ الزَّنَادِقَةِ وَمَعَهُمْ كُتُبٌ فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ وَكُتُبَهُمْ قَالَ عِكْرِمَةُ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ الله وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ الله مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَقَالَ رَسُولُ الله لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ. (أحمد)

أَنَّ عَلِيًّا أَحْرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَمْ أَكُنْ لِأُحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ إِنَّ رَسُولَ الله قَالَ لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله وَكُنْتُ قَاتِلَهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ الله َ فَإِنَّ رَسُولَ الله قَالَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ. (أبو داود)

فالقصة واحدة، ولا يُعرف سبب واضح لتحريق عليٍّ لهؤلاء، هل هم زنادقة؟ وما معنى زنادقة؟

لنقرأ ما جاء في لسان العرب عن الزنديق: الزِّنْدِيقُ: القائل ببقاء الدهر فارسي معرب وهو بالفارسية زَنْدِ كِرَايْ يقول بدوام بقاء الدهر. والزَّنْدَقةُ الضِّيقُ وقيل الزِّنْدِيقُ منه لأنه ضيّق على نفسه. الزِّنْدِيقُ معروف وزَنْدَقَتُه أنه لا يؤمن بالآخرة ووَحْدانيّة الخالق. (لسان العرب)

بيد أن هذه المعاني لا تشمل ما كانوا يقصدون من هذه اللفظة في ذلك الزمان. لذا لا ندري ما المقصود بكلمة الزنادقة في الحديث، فهل يُعقل أن يُقتل مجموعةٌ من الناس لمجرد أنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا بالله؟ وهل كان عليّ يسأل الناس عن إيمانهم؟ وهل يُعقل أن يحرق أناسا لمجرد أنهم يعبدون وثنا؟ بل هل يُعقل أن يحرق أحدا؟ هل يُعقل أنه يجهل حرمة ذلك؟ فالرواية غير واضحة وغامضة وفيها فَجَوات غير مفهومة. إذن، بعد كل هذه الجهود المضنية وصلنا إلى نتيجة غامضة. فهل يمكن أن نشطب بهذه الرواية آيات قرآنية عامة قاطعة واضحة عديدة منسجمة مع العقل ومع الفطرة كل الانسجام؟

أما نحن فلا إشكال عندنا في هذه الرواية حين نفهمها في ضوء القرآن الكريم. ولكن لماذا لم تَرِدْ هذه الرواية إلا في سياق قصة تسيء لعليّ ؟ ثمّ لماذا لم وَردت بهذا التعبير وليس بتعبير: من ارتد عن الإسلام فاقتلوه. لماذا لم يذكر الإسلام؟ هل الدين تعني الإسلام فقط؟

وعلى فرض تجاوز كل هذه الإشكالات، ألا يمكن القول إنّ المرتد هنا هو الخارج عن الجماعة المحارب لها، خصوصًا أنه قد جاءت روايات تذكر ذلك؟

ولكن، هل علينا أن نقرأ الروايات جميعها حتى نقول بذلك؟ هل على المسلم أن يقرأ كتب الحديث عن بكرة أبيها حتى يستخلص حكمًا مصيريًّا؟ هل كان مستحيلا أن نقول بعموم الآية قبل أن نقرأ أسانيد هذا الحديث ومتونه العديدة ونقارنها ببعضها؟

إذا كان ذلك مستحيلا فمعنى ذلك أنّ الآية الكريمة:

مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ

كان يجب أن تقول: ما فرَّطت الأحاديثُ في شرح أيّ آية.

إذن، نحن بمجرد قراءة آية لا إكراه في الدين نعرف الحكم، فإذا مرّ بنا حديث أو أكثر مثل: “من بدَّل دينه فاقتلوه” نحاول فهمه في ضوء الآية، فإن لم نستطع أو أخطأنا فلا بأس، ولن يغيّر مِن الأمر شيئًا، لأننا لن نسفك دمًا، ولأنّ الإجابة واضحة عندنا أصلا، فنقول في الأحاديث التي تذكر قتل المرتد:

إنّ مِن سماحة الإسلام أنه يتسامح مع المعتدين إذا أظهروا رغبةً في الإسلام، فاعتناقُهم الإسلام في هذه الحالة يَجُبُّ ما قبله، أي أنّ المعتدي يُعفى عن جرائمه السابقة بمجرد إسلامه. وهذا ترغيب عظيم لم يُسبق به الإسلام، ولن تجد له مثيلا؛ فقد قال الرسول :

“أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا الله فَإِذَا قَالُوهَا مَنَعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تَعَالَى”. (أبو داود)

فقبولُ الإسلام من هذا النوع من المعتدين القتَلة يوقف معاقبَتهم على جرائمهم، فإذا ارتدّوا عن الإسلام زال سبب توقُّفِ العقوبة عنهم، ووجبت معاقبتهم على جرائمهم السابقة، وهي القتلُ غالبًا جزاءَ ما اقترفوه من قتل مباشر أو غير مباشر.

أي أنّ الآية الكريمة التي كانت تنطبق عليهم هي:

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة 33-34)..

فهؤلاء قد تابوا من قبل أن نقدر عليهم، وتوبتُهم كانت بإعلانهم إسلامَهم. فرِدّتُهم في هذه الحالة توجب معاقبتَهم على أفعالهم السابقة.. فآيةُ الحرابة لا تتحدث عن مجرد لصٍّ يتوب، أو قاتلٍ يتوب قبل أن نقدِر عليه؛ لأن القاتلَ لا تعفيه توبتُه من القصاص ولا السارق. أما الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا فتعفيه توبته من العقوبة بنصّ هذه الآية.

كلنا يعرف حديث أسامة حيث يقول:

بَعَثَنَا رَسُولُ الله َ إِلَى الْحُرَقَةِ فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ الله، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ. فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ َ، فَقَالَ: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلاَّ الله؟ قُلْتُ كَانَ مُتَعَوِّذًا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (البخاري)

تُرى لو أعلن هذا المعتدي ردَّته بعد ربع ساعة، فهل سنقول له: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ؟ بل سيحاسَب على جرائمه. لماذا؟ لأنّ المسلمين قد هاجموه وقبيلتَه بسبب عدوانهم، وكان سيُقتل في المعركة، فشهد الشهادة قناعةً أو من أجل ألا يُقتل، فإذا رفض الإسلام فيعاقَب على ما سلف.

إذا أُسر خائن فيُمكن أن يُقتل بسبب خيانته. وهذا ليس قتلا لأسير، بل قتلُ خائن. وهكذا الحال هنا، فنحن لا نقول بقتل المرتد، بل بقتل مَن زال سببُ التوقُّفِ في قتله.

وإلا هل يُترك هذا المرتد ليعود مقاتلا؟ هل يُترك ليمارس غدره؟ لا بد أن يُحاسَب على جرائمه السابقة، وإلا لتحايل المعتدون، ولظلُّوا يعتدون ويعلنون الإسلام ثم يرتدون، ثم يعتدون، ثم يعلنون الإسلام ثم يرتدون.

ثم إن مسامحتَه حالة خاصة، وحالة طارئة، فبردّتِه عاد إلى وضعه الطبيعي. وهو وجوبُ محاسبتِه على جرائمه، وانتهاءُ العمل بعقْد العفو عنه.

والحالة الثانية التي يُقتل فيها المرتدّ هي أن يرتدَّ محاربًا للمسلمين، والرواية التالية مثال واضح على هذه الحالة؛

فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَرَجُلٌ خَرَجَ مُحَارِبًا لله وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنْ الْأَرْضِ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسًا فَيُقْتَلُ بِهَا. (سنن أبي داود)

دعنا نقارن الحديث السابق بالحديث التالي:

عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله َ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنِّي رَسُولُ الله إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ. (البخاري)

ألا ترى أن عبارة ” الْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ:” عند البخاري هي ذاتها عبارة “خَرَجَ مُحَارِبًا لله وَرَسُولِهِ” عند أبي داود.. فالمرتد الذي يُقتل هو مَن خرج محاربًا لله ورسوله بعد أن كان قد أعلن إسلامه، وليس مجرد أنه ارتدّ. وهذان الحديثان قطعيا الدلالة في أنّ المرتد لمجرد ردته لا يُقتل، وإلا لذكر المرتد فقط، من دون أن يقيده بالتارك للجماعة أو المحارب لله ورسوله. والحديث في جزئيته هذه منسجم تماما مع آية لا إكراه في الدين .

المثال الثاني: حكم الزاني المحصن.

نحن لدينا قوله تعالى:

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (النور 2)،

وهذا الحكم عام، وقد ورد في كتاب قال الله عنه:

مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ،

فإذا كانت الآية تقصد: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي من العُزّاب فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ أما الزناة المتزوّجون فنترك حكمهم للحديث”، فهذا تفريط، بل أشدّ من التفريط، إنه تضليل، ذلك أنّ السياق لا يشير أدنى إشارة إلى مثل هذا التخصيص. ثم كيف يهمل القرآن الحكْمَ الأهم ويذكر الأقل أهمية؟ فهذا هو التفريط وانعدام البلاغة والمنطق.

غيرُنا لا يفهم من هذه الآية شيئا، بل يبدأ بالأحاديث التي يقول بعضها: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنِّي رَسُولُ الله إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ (البخاري). فيفهم أن الزاني المتزوج يُقتل، ثم يفهم من روايات أخرى مثل رواية “الشيخ والشيخة” أنه يُرجم، فيعود للآية ويقول لها: لقد قررَ الحديث أنك أيتها الآية خاصة بالعزّاب، وقد حكم أنك خاصة، والآن نقبلك بهذا الحجم، نقبل منك أن تقرِّري هذا، لا أكثر، فقِفي عند حدِّك.

وهذان الحديثان قطعيا الدلالة في أنّ المرتد لمجرد ردته لا يُقتل، وإلا لذكر المرتد فقط، من دون أن يقيده بالتارك للجماعة أو المحارب لله ورسوله. والحديث في جزئيته هذه منسجم تماما مع آية لا إكراه في الدين .

أما نحن فنقول: إنّ قوله تعالى:

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ

قد نسخ من الحديث السابق حكمَ “الثيب الزاني”.. هذا على فرض صحة الحديث، وليس لدينا أي مانع من اعتبار الحديث صحيحًا، لكنّ لدينا كل الموانع لتقديمه على القرآن الكريم الذي ما فرَّط الله فيه من شيء. مع أننا نستبعد صحّة الحديث بهذا النصّ، لأنّ آية الحرابة توجب قتْلَ مَن يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا (المائدة 33)، بينما هذا الحديث المنسوب للرسول يمنع مِن قتل المفسدين في الأرض، بل يأمر بقتل المرتد المحارب والثيّب الزاني والقاتل فقط. وأما الاحتمال الثاني لفهم الحديث فهو أنّ “الثيّـب الزاني” كناية عن احـتراف الزنا والعمل على تـرويجه. والله أعلم.

Share via
تابعونا على الفايس بوك