حقيقة أسباب النـزول

حقيقة أسباب النـزول

هاني طاهر

  • لا يجوز ربط الآيات الكريمة بقصص خرافية تستخف بعقل والمنطق.
  • نزول الآيات عند بعض المواقف دلالة لتأييد النبي ولا يجوز أن تأول على أنها استهزاء

__

كثــيرة هي الآيات القرآنية التي لم يحتمل القُصّاص إطلاقها؛ ذلك أنهم يريدون أن يروْا مناسبة لكل آية، وأن يقرءوا قصة متعلقة بنـزولها، فهذا عندهم أكثر إثارة!!

وكثير من هذه المناسبات المزعومة لا قيمة لها، ذلك أنها لا تؤثر في المعنى؛ ولا تزيده ولا تنقصه، ولا تقيده ولا تخصّصه.

وكثيرا ما يضعون عددا من القصص باعتبارها مناسبات مختلفة لنـزول آية..

وقد وضّح الخليفة الثاني في التفسير الكبير مرارا أن ما ذُكر من مناسبات لنـزول آية إنما يعني فقط أنه قد وقعت في زمن الصحابة أحداث تنطبق عليها هذه الآية، وليس أن الحدث قد حصل فنـزلت الآية من أجله.

بيد أن هذه الأمور لا تسبب إشكالية؛ فلا نتطرق إليها بأمثلة. أما المشكلة الحقيقية فهي في المناسبات المزعومة المسيئة لله ورسله ودينه. وها هي بعض الأمثلة التي قرأتها في عجالة في (أسباب النـزول) للواحدي النيسابوري.

المثـال الأول

وقوله

إِنَّ الذين آمنوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .

حيث أورد بسنده عن مجاهد قال: لما قصّ سلمان (الفارسي) على النبي قصة أصحاب الدير قال (النبي ): هم في النار، قال سلمان: فأظلمت علي الأرض فنـزلت الآية قال: فكأنما كشف عني جبل.

التعليق

في هذه الرواية إساءة واضحة للنبي؛ حيث تتهمه بمخالفة قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً . فلماذا يعذب الله هؤلاء القوم مع أنهم أتقياء باحثون عن الحق؟ وهل كان النبي يجهل هذا الحكم حتى نـزلت الآية؟ حاشاه، فهذه مسألة مركوزة في الفطرة، فالله العَدْل لا يحاسب أحدا بسبب عدم وصول الحق إليه.

وهذا مـتـن آخر بسند آخـر: فـقـد أورد النيسـابـوري بسنده عن السدي إِنَّ الَّذيـنَ آمَنـوا والَّذينَ هـادوا الآية قال: نـزلت في أصحاب سلمان الفارسي؛ لما قدم سلمان على رسول الله جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتـهادهم وقال: يا رسول الله كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك تبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله : “يا سلمان هم من أهل النار، فأنـزل الله الآية”.

المثـال الثـاني

بسنده عن حصيفة قال: كان سليمان إذا نبتت الشجرة قال: لأي داء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فلما نبتت شجرة الخروبة قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب بيتك، قال: تخربينه؟ قالت: نعم، قال: بئس الشجرة أنت! فلم يلبث أن توفي، فجعل الناس يقولون في مرضاهم: لو كان مثل سليمان، فأخذت الشيـاطين فكتبوا كتابًا وجعلوه في مصلى سليمان وقالوا: نحن ندلكم على ما كان سليمان يداوي به، فانطلقوا فـاستخرجوا ذلك فإذا فيه سحر ورقي، فأنـزل الله تعالى وَاتَّبَعوا ما تَتلو الشَياطينُ عَلى مُلكِ سُلَيمانَ إلى قوله (فَلا تَكفُر) قال السري: إن الناس في زمن سليمان كتبوا السحر فاشتغلوا بتعلمه، فأخذ سليمان تلك الكتب فدفنها تحت كرسيه ونهاهم عن ذلك، ولما مات سليمان وذهب به كانوا يعرفون دفن الكتب، فتمثل شيطان على صورة إنسان فأتى نفرًا من بني إسرائيل وقال: هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان ضبط الجن والإنس والشياطين والطيور بهذا، فأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب، فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فبرأ الله عز وجل سليمان من ذلك، وأنـزل هذه الآية.

التعليق

مثل هذه القصص سببت في إشاعات شعبية حول بساط سليمان وخاتمه، وكلها أوهام وأساطير.

المثـال الثـالث

قوله تعالى: ما نَنسَخ مِن آيةٍ أَو نُنسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِنها قال المفسرون: إن المشركين قالوا: أترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غدًا، ما هذا في القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضًا، فأنـزل الله إِِذا بَدَّلنا آيَةً مَكانَ آيَة الآية وأنـزل أيضاً ما نَنسَخ مِن آيَةٍ أَو نُنسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِّنها الآية.

التعليق

هذا مبرر سخيف لم يخطر ببال الكفار، لأنه لم يكن هنالك أوامر حتى يُقال إنها كانت متناقضة. ثم لو صحّ هذا لكان هذا الاعتراض من الكفار وجيها.

أين هي الآيات والأحكام المتناقضة في القرآن التي كان اليهود يلاحظونها فجاءوا يشككون في القرآن؟ إنها غير موجودة إلا في عقول ضعيفة! أهي تغيير القبلة؟ هذه لم تكن آية قرآنية البتة. أي أنه ليس لدينا آية قرآنية أمرت بالتوجه نحو بيت المقدس، لكن الرسول كان يحب موافقة اليهود فيما لم ينـزل فيه حكم شرعي؛ فكانت قبلة الصلاة قبلة اليهود أنفسهم. ثم غيرها الله تعالى في كتابه. فالمناسبة المزعومة كذبة محضة. والآيات القرآنية لا تتحدث عن تغيير الأحكام، بل تتحدث عن نسخ أحكام التوراة، وتتحدث الآية الأخرى عن آية العذاب السماوي الذي يقع على المكذبين.

المثـال الرابـع

وقال ابن زيد: مر إبراهيم بحوت ميت نصفه في البر ونصفه في البحر، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان في البر فدواب البر تأكله، فقال له إبليس الخبيث: متى يجمع الله هذه الأجزاء من بطون هؤلاء؟ فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي، بذهاب وسوسة إبليس منه.

التعليق

رغم أن هذا لا يمكن أن يكون سببا للنـزول، لكن النيسابوري أورده في كتابه، فهو يشبه فكرة أسباب النـزول، ويمكن تسميته مناسبة القصة الأصلية.. أي المناسبة التي دعت إبراهيم يطلب من ربه أن يريه إحياء الموتى.

ولا ريب ببطلان هذه القصة، فهل دخلت وساوس إبليس السخيفة قلب نبي الله؟ كلا، وألف كلا. لكن عشاق القصص لا يتنبهون لما يتسببون للدين من إشكاليات!

المثـال الخامـس

الآية

أَلَم تَرَ إِلى الَّذينَ يَزعُمونَ أَنَّهُم آمَنوا بِما أُنـزلَ إِليكَ

قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نـزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن يخاصمه إلى رسول الله ، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله ، فاختصما إليه، فقضى رسول الله لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد فقضى عليه فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك وتعلق بي فجئت إليك معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رويدًا حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما وضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي، ونـزلت هذه الآية، وقال جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق.

التعليق

هذه المناسبة الباطـلة تتناقـض مع روايـات صحيحة تفيد أن النبي لم يقتل من اتهمه بالظلم، بل لم يوبخه، وقد أوردها النيسابوري نفسه في هذا السياق أيضا، فبسند عن عروة بن الزبير، عن أبيه، أنه كان يحدث أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرًا إلى النبي في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي للزبير: اسق ثم أرسل إلى جارك، فغضــب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله … قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية أنـزلت إلا في ذلك. رواه البخاري عن علي بن عبد الله، عن محمد بن جعفر، عن معمر. ورواه مسلم، عن قتـيبة، عن الليـث، كلاهمـا عن الزهـري.

فهذه رواية تنقض الأولى. ويمكننا أن نتساءل حول رواية القتل: ألا تحض هذه الرواية الباطلة على الاستخفاف بالأرواح؟ ألا تحض على قتل الناس من دون محاكمة عادلة؟ ألا ترفع من شأن عمر فوق النبي؟ لماذا لم يعترض النبي على هذا القتل؟ أو لماذا لم يَرِدْ أي تعليق منه سواء بالمدح أم بالذم؟ وهل يجرؤ صحابي على قتل إنسان من دون أن يعود إلى وليّ الأمر؟ فكيـف إن كان وليّ الأمر هـو رسول الله ؟

هذه مجرد أمثلة عن أسباب النـزول الذي سموه علما. وما هو بعلم. بل قصص باطلة في معظمها، متناقضة أحيانا، غير مفيدة حين تصحّ. فلنترك هذا العلم! ولْنَغُصْ في القرآن العظيم نفسه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك