الجبرية والإرادة الحرة!

الجبرية والإرادة الحرة!

عبد الغني جهانكير خان

  • هل الإنسان مخير أم مسير أصلا؟
  • كيف نوفق بين حتمية القدر واستجابة الدعاء؟
  • كيف نوفق بين الجبرية والإرادة الحرة؟

________

ودور إرادتنا في تقرير مصيرنا؟!

منذ القدم، ومسألتا القضاء والقدر تشكلان غموضًا لدى طوائف عديدة وكبيرة من الناس حتى إن بعضهم يتساءلون مثلا: هل كان مقدراً لي أن أكون هنا اليوم؟ أو هل كان مقدرًا أن أقول ما قلت وأن أفعل ما فعلت؟  لقد دلف الكثيرون، لا سيما الفلاسفة والمتكلمة، من مجرد التفكير في القدر الذي يخبئه لنا المستقبل الغامض، إلى التفكير في أصل أفعالنا، وهل كانت جبرًا أم اختيارًا! وهنا كان إنفاد الجهود الفكرية والفلسفية بشكل مبالغ فيه، لذا سيكون هذا المقال محاولة لتبسيط المسألة، وتقريبها إلى الذهن، بما يحفظ للمرء أمانه الفكري، وإيمانه العقدي.

وأود  أن أوضح في هذا المقام قضية لغوية خاصة بالعربية، وهي لغة جمهور قراء هذا المقال، ففي العربية ثمة تمييز واضح بين مصطلح «القضاء»، ومصطلح «القدر»، بينما في الإنكليزية مثلا، يُستعمل لفظ destiny للدلالة على معنى كل من المصطلحين السالفين.

في عقيدة الإسلام، يشكل الإيمان بـ «القضاء والقدر» أحد أركان الإيمان الستة، والتي لا يكون المرء مسلماً حقًا إلا بالتسليم بها. وقد نصت الأدلة النقلية من القرآن الكريم والأحاديث النبوية المروية على قطعية الإيمان بالقضاء والقدر كركن إيماني ثابث، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :

«كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَجَاءَ رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ فَأَلْزَقَ رُكْبَتَهُ بِرُكْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِيمَانُ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»(1).

يعتقد بعض الناس أن كل شيء مقدر سلفاً. في الحقيقة فقط بعض الأشياء مقدرة مسبقاً. أما أن نظن أن كل شيء مقدر مسبقاً فهذا غير صحيح.

هناك أشياء قليلة فقط في حياتنا مقدر لها أن تحدث. فقدرنا جميعاً أن نموت، ولا أحد يستطيع أن يغير ذلك. يسمى هذا بالقدر المبرم غير القابل للتغيير. إذ قدره وقرره الله لكل إنسان على وجه الأرض ولا يمكن لأحد الهروب منه، يقول تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (2)

ومثال آخر على ذلك هو الحد الأقصى  لأَجَلِ الإنسان الذي قدره الله، بحيث كتبه منذ البداية ولن يتمكن من تجاوزه مهما فعلنا. لكن قد يضع البعض حدًّا لحياتهم قبل انقضاء هذا الأجل المسمى بسبب بعض تصرفاتهم. فإذا كان نمط حياتنا غير صحي، فقد نمرض وقد نموت قبل أن نصل إلى سن الـ 90. لذا فإن قدرنا هو مسار معين وما لم نتصرف بما يناسب هذا المسار، لن نبلغ ذلك الحد الأقصى، والذي نصطلح عليه أحيانا بـ «العمر الافتراضي» ولنقل مثلاً أنه سن الـ 90 عاماً.

الدعاء والقضاء

عند مناقشة ظاهرة الانتحار من منظور فلسفي مثلا، حين نرى البعض ينتحرون، فلا يبلغون ذلك الحد الأقصى لعمرهم الافتراضي أي العمر المقدر لهم، لأنهم قرروا إنهاء حياتهم، نتفاجأ بقول البعض أن من ينتحرون كان مقدرًا لهم الانتحار! لكن ذلك ليس صحيحاً.

يتعلق هذا بالطبع بأعمال الإنسان وقراراته وخياراته. إذ يمكن له تغيير مصيره من نواحٍ شتى. فمع أن هناك كما قلت بعض الأمور الحتمية التي لا يمكن تغييرها مثل حتمية الموت، إلا أننا يمكننا تغيير الطرق التي نعيش بها حياتنا وبالتالي المسار الذي تأخذه حياتنا.

من العجيب أن بعض المسلمين أيضًا يعتقدون أن كل شيء مقدر سلفًا، سواء في ذلك ما اقترفته أيديهم، أو ما حدث لهم خارجًا عن إراداتهم، فيقولون إن كل أولئك كان عند الله مكتوبًا. لذلك سواء آذوا إصبع قدمهم أو تعرضوا لحادث أو أصابهم شيء جيد، فإنهم يرجعونه كله للقدر أي أنه كان مكتوبًا لهم منذ البداية أن يحدث كل ذلك. ولكن هذا ليس صحيحاً وإلا فلماذا علّم الله أنبياءه الدعاء؟

إذا كان دعاؤنا لا يمكن أن يغير أي شيء فبم نبالي؟ وهذا في حد ذاته يدحض الاعتقاد الخاطئ بأن كل شيء قد قُدِّر سلفًا. حتى إننا نجد ذلك في قول الله تعالى:

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى .(3)

 فالله تعالى يوجهنا إلى السعي، وبهذا السعي والجهاد نحقق الخير لأنفسنا ونعمل صالحاً فترقى روحنا وينتفع جسدنا في هذه الدنيا.

هذا يدل على أن هناك العديد من الأشياء التي يمكننا تغييرها. فلو رأينا أن أمورنا سيئة ولم نتصرف لتغيير مسارنا الحياتي فسيكون مصيرنا وخيماً.

ولكن إذا أدركنا حقيقة وجهتنا في مرحلة ما من حياتنا، فإننا سندعو الله بإخلاص شديد لتغيير ظروفنا، يمكن أن يستجيب الله لدعائنا ويغير من ظروفنا فتتخذ مجريات أمور حياتنا مساراً آخر. فيتغير مصيرنا في هذا الأمر.

فالأمور ليست كلها دائماً محفورة في الحجر، فقط بعض الجوانب المعينة من حياتنا غير قابلة للتغيير. فلا يمكننا مثلاً العودة بالزمن لتغيير الأسرة التي ولدنا فيها أو الحد الأقصى لطولنا، هذه الأشياء غير قابلة للتغيير. ولكن ضمن هذه المعايير هناك العديد من الأشياء التي يمكننا تغييرها بقراراتنا وبالدعاء إلى الله.

الحد الأقصى  لأَجَلِ الإنسان الذي قدره الله، بحيث كتبه منذ البداية ولن يتمكن من تجاوزه مهما فعلنا. لكن قد يضع البعض حدًّا لحياتهم قبل انقضاء هذا الأجل المسمى بسبب بعض تصرفاتهم. فإذا كان نمط حياتنا غير صحي، فقد نمرض وقد نموت قبل أن نصل إلى سن الـ 90. لذا فإن قدرنا هو مسار معين وما لم نتصرف بما يناسب هذا المسار، لن نبلغ ذلك الحد الأقصى، والذي نصطلح عليه أحيانا بـ «العمر الافتراضي» ولنقل مثلاً أنه سن الـ 90 عاماً.

فكرة الإرادة الحرة!

ما مضى يقودنا إلى الحديث عن موضوع يبدو مثار تفكير العديد من الناس، وهو موضوع «الإرادة الحرة». يسيء العديد من الفلاسفة ممن باتوا يُدعون بالجبرية، فهم هذا الموضوع، قائلين أننا في الحقيقة لا نملك إرادة حرة لأن الله يأمر بكل شيء، فلا يحدث شيء دون إذنه، وهكذا لا يكون لنا أية إرادة حرة!

إلا أننا في الواقع نمتلك الإرادة الحرة، وهي هبة عظيمة من الله تعالى. الإنسان هو المخلوق الوحيد من بين جميع المخلوقات على كوكب الأرض الذي يتمتع بالإرادة الحرة. يمكنه أن يقرر فعل الخير أو الشر، أن يقوم بما يفيد أو يضر نفسه والآخرين.

فلو قذفت بِكُرة في الهواء، فمن سنن الله أن تعود الكرة لتسقط على الأرض، تحت تاثير ما ندعوه بقانون الجاذبية. ولكن يمكننا أن نقرر تلقُّفَها حتى قبل أن تلامس الأرض. البعض سيحاولون الدخول بنا في حلقة مفرغة، إذ سيقولون: حسناً إذا قرر أحدهم التقاط الكرة قبل ملامستها الأرض، فحتى هذا الالتقاط كان مقدرًا له أن يحدث. فأيًّا ما كان أمر الكرة، اُلتُقِطت أم لم تُلتَقَط، سيقولون أن النتيجة كانت مقدرة سلفًا!

ما حدث في الواقع أننا اخترنا أن نتصرف والتقطنا الكرة، ولو لم نفعل لكانت الكرة اتبعت المسار الطبيعي، وفي هذه الحال يمكننا أن نقول إن قدرها والقانون الجاري عليها هو أن تعود لتسقط على الأرض. ولكن إذا تدخلنا بإرادتنا يتخذ الأمر مساراً مختلفاً. وهو الدور الذي تلعبه الإرادة الحرة.

الجبرية والجزاء

من التساؤلات التي نشأت في أذهان طائفة الجبرية، قولهم: إذا كان الله يتحكم فيما نفعله، فلماذا يعاقبنا على سوء أعمالنا؟ هذا التساؤل في حد ذاته قيِّم وعميق جداً. الشيء الأساسي الذي يجب تذكره هنا هو أن الله لا يجبرنا على اتخاذ قرار ما، بل نحن نقرر ما نريد فعله، وبيدنا حرية الاختيار بين ما ينفعنا وما يضرنا، بغض النظر عن مسألة إدراكنا العاقبةوالنتيجة النهائية، وما إذا كانت تلك العاقبة حميدة أو وخيمة.

لو اندلع حريق في منزلك “لا سمح الله”، فقد يقول الناس إنه كان مقدرًا له أن يحدث، ولم يكن بيدك تغيير أو تفادي ما حصل. إلا أن الواقع هو أن الحريق كان خطأك بالكامل إذ لم تتحقق مثلاً من أجهزة إنذار الدخان لمعرفة ما إذا كانت تعمل، أو لم تنتبه إلى وجود نار في مطبخك بينما كان محبس الغاز مفتوحاً، وبالتالي تراكمت الأسباب وأدت إلى نشوب الحريق.

لا يمكن أن نقول إنه كان مكتوباً لك حدوث الحريق بحد ذاته. بل إن تصرفاتك هي التي أدت إلى هذه العاقبة الوخيمة. تصرفك وخياراتك هذه كانت بمِلءِ إرادتك، لقد اخترت سلوك هذا التصرف بدلاً من سلوك سبيل التحقق من تدابير الأمان والحماية من الحرائق. لذا لا يمكننا القول إن كل شيء سيء هو من الله أو كل شيء جيد يأتي مباشرة منه، بل في الحقيقة إن أمور حياتنا كلها كان مقدرًا لها أن تمضي بصورة حسنة، لولا أن تدخلت خياراتنا البائسة أحيانًا فأفسدت علينا تلك الأمور، يقول تعالى:

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (4)

ويقول أيضا:

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (5)

هكذا أحب الله الناس!

بصورة ما، نحن لنا يد فيما يحدث. فلدينا خيار تغيير مسار الأشياء وجعلها تسير إما لصالحنا أو ضدنا، وفي الوقت نفسه كل خير هو من عند الله.

أفلا يدعونا هذا إلى تساؤل مفاده أنْ لماذا سمح لنا الله أن نخطئ أصلاً؟! وخلال محاولتنا البحث عن جواب علينا أن ندرك شيئاً ما، وهو أن الله يحب للبشر أن يتقدموا روحياً، ولكي يتمكنوا من ذلك، يجب أن تكون لديهم إرادة حرة. لو لم يكن لدينا إرادة حرة، لكُنّا مثل الآلات، فلن يسعنا أن نتطور من تلقائنا.

لذلك نحن بحاجة إلى إرادة حرة لنكون قادرين على تنمية أرواحنا ولهذا منحنا الله تعالى تلك الإرادة. لكننا قد نسيء استخدام تلك الإرادة كما أشرنا سلفًا، وهنا يكون الله تعالى قد ترك لنا كامل الحرية في الاختيار، وغير أن الجزاء على هذا الاختيار يكون من اختصاصه عز وجل، وهو داخل في إطار التربية من الله لخلقه. ومع ذلك، وعلى الرغم من اختيارنا سلوك سبيل خاطئة في بعض الأحيان، إلا أن الله تعالى يساعدنا على طول الطريق، فيتيح لنا الفرصة تلو الفرصة لإصلاح أمورنا ومن ثم تغيير مصيرنا. وبالتالي ليس من قدرنا أن نلحق الأذى بأنفسنا. لسنا محكومين بإلحاق الأذى بأنفسنا كما شرحت، بل هو نتيجة خيارنا نحن.

القضاء وبركات الدعاء

ما من جدال في أن بعض الأمور تقع علينا خارج نطاق سيطرتنا، فلا يكون لنا يد في وقوعها أو حتى منع وقوعها، مثل أن يكيد لنا بعضهم خفية. ولكن إذا دعونا الله ليخلصنا من مكائد كهذه فإنه عز وجل يغير الظروف وفقاً لدعائنا، لأن للدعاء تأثيرًا قويًّا خفيًّا يمكن أن يغير من حياتنا وأقدارنا، وهذا أحد جواهر قول الرسول :

«لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ»(6)

فائدة عن علم الله تعالى الغيب

لدينا سؤال مرتبط بمسألة علم الله تعالى الغيب، وهو: ألا يعلم الله مسبقاً وهو الذي يعلم كل شيء نتائج كل ما سنقرره وكل ما سنختاره؟ ثم إنه ليس لطيفاً منه أن يجلس ويشاهد ما يحدث وهو يعلم تماماً إلى ما ستؤول الأمور؟

علينا أن ندرك شيئاً عن علم الله الغيب الزماني، أي ما حدث في الماضي، وما يحدث في المستقبل، نعم إن الله يعلم كل ما حدث في الماضي، وكل ما يحدث الآن ويعلم كل ما سيحدث في المستقبل وهو عالم به منذ البداية. وهناك ما يصعب علينا فهمه في بعض الأحيان.

ولكن إذا أدركنا أن الله هو كيان خارج نطاق الزمن الذي خلقه. وبالنسبة له فإن كلا من الماضي والحاضر والمستقبل منكشف بين يديه سبحانه.  فالله يعرف أن حياة المرء تأخذ مساراً معيناً في مرحلة معينة ولكنه سيساعده بلفت انتباهه إلى تعاليم معينة أرسلت إلى أحد أنبيائه، فيستخلص الشخص درساً من ذلك ويبدأ بالدعاء فتأخذ حياته منحى آخر.

في جميع الحالات يعلم الله بكل ما سيحدث ولكن الناس هم الذين يتخذون تلك القرارات وهم الذين يغيرون مسار مصيرهم ضمن المعايير التي وضعها الله للأشياء القابلة للتغيير. ويمكننا بالفعل التحكم أو السيطرة على تلك الأشياء.

أعود لأقول إن كل ما نختاره يعلمه الله ولكن هذا لا يعني أنه عز وجل من يفرض علينا الخيارات السيئة جبرًا وإكراهًا.

الهوامش:

1.(سنن الترمذي، كتاب الإيمان عن رسول الله)

2.(القمر: 50)

3. (النجم: 40)

4. (الروم: 42)

5. (الشورى: 31)

6. (سنن الترمذي, كتاب القدر عن رسول الله)

Share via
تابعونا على الفايس بوك