هكذا تقام المجتمعات

هكذا تقام المجتمعات

التحرير

  • شيئا من دقائق قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
  • وبم تقاس قوة المجتمعات؟!
  • ثم ما السر الخفي وراء سعي القوى الدجالية الدؤوب لقطع أواصر القربى والتفريق بين المرء وزوجه؟!
  • وأخيرا، كيف يتسق إرساء الاختلاف بين الناس ومبدأ وحدانية الله تعالى؟!

__

خلق الله تعالى الأسرة الإنسانية الأولى من حال التقارب والتآلف بين أفرادها، أي أن نشوء الإنسانية من ارتباط أولئك البشر البدائيين ببعضهم البعض، وقد تخلوا عن وحشيتهم مكونين أول المجتمعات الإنسانية البدائية، وما كان هذا ليتم لولا التآلف والتحابّ، ولعلنا بهذا التصور ندرك شيئًا من دقائق قوله تعالى:

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (1).

إنها حال التعلق، أي علاقة الحب والألفة التي تنشأ في جو السلام والإيمان بإله واحد. ولكي نفهم هذا الأمر الاجتماعي أكثر، أي كيف تنشأ المجتمعات، ما علينا سوى النظر في بناء الأسرة، فبإدراك كيفية نشوء الأسرة كنواة أولية للمجتمع، يمكننا بكل سهولة ويسر إدراك منشأ المجتمعات ومن ثم الإنسانية الأولى.

فليس الهدف من خلق الاختلاف إذكاء نار الفتن والتناحرات، إنما الهدف هو التكامل والتعايش البنَّاء، وهذا ما غاب عن تفكير مشعلي نار الفتن في كل العصور.

وما من شك في أن قوى الشر تدرك تمام الإدراك أن قوة المجتمعات تقاس بقوة أواصر الحب والمودة بين أبنائها، وأن قوة جماعة المؤمنين تكمن في تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الواحد الذي إِذَا اشْتَكَى منه عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى، لذا فإن قوى الشر تلك لا يهدأ لها بال ولا تهنأ لها حال إلا بإفساد العلاقات بين الأقارب والجيران، سواء كان هؤلاء الجيران أفرادًا أو دولاً، وكم من شعبين يعودان إلى قومية واحدة، ولكن حالت بين مواطنيهما حدود مكهربة وأسلاك شائكة وجدران عالية وجنود مدججة! ولننظر مليًّا إلى شعوب الأرض قاطبة، سنجد هنا وهناك أواصر القربى تنقطع، فمن الكوريتين إلى دول أفريقيا، يرى المرء المتأمل انقطاع الأواصر بوضوح، أمَّا عندنا في بلاد المسلمين عمومًا والعرب منهم خصوصًا فحدث ولا حرج، فأصابع الدجال تتحكم في الخيوط بمكر سيئ. الغريب في الأمر أننا ندرك هذه الحقيقة، وعلى الرغم من هذا ننصاع لتحقيق أمنية الدجال القبيحة بكل ما أوتينا من مقدرات. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما السِّر الخفي وراء سعي القوى الدجالية الدؤوب لقطع أواصر القربى والتفريق بين المرء وزوجه؟! لا بد أن وراء هذه المشكلة سِرًّا أعمق من مجرد الرغبة في احتكار مقدرات الناس والشعوب والأمم. إن السبب الأعمق والأول ذاك هو الرغبة القبيحة في دحض مبدأ وحدانية الله تعالى. نعم، فإن اجتماع الإنسانية كلها متحدة تحت راية واحدة لإرساء وحدانية الله تعالى على الأرض، وهذه الوحدانية القدسية هي ما يزعج خفافيش الظلام بمنتهى البساطة.ولا نعني من دعوتنا إلى الوحدانية إنكار الاختلاف، فشتان بين اختلاف الرأي والمزاج وبين خلاف الكراهية والبغضاء! وكم من اختلاف يجعل كلا منا بحاجة إلى أخيه ليكمل نقصه! وتجدر الإشارة إلى أن ممن جرُّوا على الأمة المصائب كانوا يدعون إلى توحيدٍ بالتخلص من كافة مَن يختلف عنهم، وإننا نرفض هذا المسلك رفضًا بَاتًا، حتى إنه قد ورد في الشرط التاسع من شروط البيعة التي عاهدنا الله تعالى عليها على يد خليفة مسيحه: «أن يظل العبد مشغولاً في مواساة خلق الله عامةً لوجه الله تعالى خالصةً، وأن ينفعَ أبناء جنسه قدر المستطاع بكلِّ ما رزقه الله من القوى والنِّعَم..

فما هي الرسالة أو الحكمة التي نود بيانها ها هنا؟ نعود فنؤكد أننا مخلوقون مختلفين بطبيعتنا، وليس من شأننا إلغاء ذلك الاختلاف بقدر ضرورة التعايش معه، حيث قال تعالى:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (2).

فليس الهدف من خلق الاختلاف إذكاء نار الفتن والتناحرات، إنما الهدف هو التكامل والتعايش البنَّاء، وهذا ما غاب عن تفكير مشعلي نار الفتن في كل العصور.

أيها القارئ الكريم، مع مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 2020، يسر أسرة التقوى أن تهديك باقة هذا الشهر، فوردة العدد الأزهى والأبهى تتمثل في كلمة حضرة أمير المؤمنين (أيده الله)، والتي اقتطفناها من أرشيف خطابات حضرته بمناسبة افتتاح مسجد بيت البصير بألمانيا، وهي خطابات يركز فيها حضرته غالبا على قيم التعايش المشترك، من منطلق أن الإسلام دين بناء واحتواء وجذب، وأن مساجدنا هي رمز دالٌّ نصافح به أينما حللنا كل الناس من كل الأطياف. كما ننتخب لك هذا الشهر أيضًا جملة مقالات ترمي إلى الهدف ذاته الذي يرمي إليه حضرة خليفة الوقت في خطاباته في مثل هذه المناسبات عادة، ألا وهو هدف التعايش المشترك بين أعضاء المجتمع الواحد، وبالتالي الإنسانية ككل، فبإحلال قيم التعايش والمواطنة تنطفئ نيران الفتن من تلقائها، وهذا في حد ذاته كفيل بجعل حياتنا في هذا العالم جنة أُلفة وأمن وسلام.

فليكن عدد هذا الشهر من مجلة التقوى دعوة لنبذ القطيعة وعودة لعلائق المحبة مع إخواننا من الناس، فمن هنا يبدأ وصالنا برب الناس.

1. (العلق: 3)

2. (هود: 119-120)

Share via
تابعونا على الفايس بوك