التسامح الديني في ظل التنوع الثقافي
  • تاريخ الإسلام ومبادرة التعايش المشترك
  • هل شَنَّ المسلمون الحرب لنشر الدين؟!
  • حق الجيرة في الإسلام
  • الأخلاق الفاضلة نقطة التقاء لجميع الأديان
  • تعليم الإسلام عن المرأة، والطريق إلى الجنة
  • لا معنى للتسامح ما لم يكن ثمة اختلاف!
  • حفظ السلام انطلاقا من رعاية الحرية الدينية
  • دور المسجد في إفشاء السلام

__

خطاب ألقاه أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام

 بيوم 26 أكتوبر 2019م بمناسبة افتتاح مسجد بيت البصير بألمانيا

>

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم.

أيها الضيوف الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أولاً وقبل كل شيء أودّ أن أعبر لكم جميعًا عن خالص شكري لحضوركم حفل افتتاح هذا المسجد. ما كنت أتصور أن يسعدنا بحضور الحفل، هذا العدد في هذه القرية الصغيرة، ممن هم ليسوا من الجماعة الإسلامية الأحمدية بل ليسوا مسلمين أيضًا. ولكن حضوركم يدل على أنكم ذوو آفاق واسعة وصدور رحيبة. والأمر الثاني الذي يُسعدني هو أنكم أتيتم إلى هنا بناء على معرفتكم بالأحمديين، وأن أفراد الجماعة الأحمدية في هذه المنطقة متواصلون معكم برحابة صدر، وأنكم تقبلونهم. فإن حضوركم حفل افتتاح مسجدنا بناء على تلك العلاقات الطيبة المتبادلة مدعاة لسعادتنا. وإن حضوركم هنا لمشاركتنا أفراحَنا يُسعدنا أكثر، لأن تواجدكم معنا اليوم مؤشرٌ دالٌّ على أن المسلمين الأحمديين يهتمون بجيرانهم فعلاً، ويُنشئون معهم علاقات المحبة والود.

وبعد الإعراب عن شكري لكم، أود أن أشارككم ما أخبرني به أمير الجماعة وهو أن هذه قرية صغيرة وهذا أول مسجد بنيناه في منطقة عدد سكانها قليل. ولكن سواء أكانت قرية صغيرة أو مدينة كبيرة، فنحن لا نعتدُّ بمسألة العدد. الأصل في الموضوع هو حُسن أخلاق سكانها والتعايش معًا بالحب والوئام. يجب أن ننتبه إلى هذا الأمر جيدًا. والحق أن أهل القرى الصغيرة يتحلون بالبساطة والإخلاص أكثر. والسكان في المدن الصغيرة والبلدات والقرى هم أكثر رحابة من سكان المدن الكبيرة. وهذا الأمر مدعاة للاستحسان. لذلك نرى أن كثيرًا من سكان المدن الكبيرة يتمنون لو أنهم يسكنون خارج تلك المدن الكبيرة. أنا أقطن في بريطانيا، حيث تُلاحَظ هذه الظاهرة بكثرة، فمن تتيسر لهم الفرصة يبنون بيوتهم في الجو المكشوف خارج المدن.

والفائدة الأخرى لبناء المسجد هنا هي أن بيئة هذه القرية تسودها البساطة، والفائدة الأهم هي أن الجو المكشوف يكون نقيًّا من كل نوع من التلوث ويتوفر فيه الهواء النقي. فمن هذا المنطلق أرى أن هذا المكان مناسب جدًّا وإن كان قليل السكان، وإن سكانه يكونون نشيطين بفضل عيشهم في جوّ نقيّ الهواء. فآمل أن تظل قلوب أهل هذه القرية على حالها من النقاء والبساطة، وأن يبقوا مخلصين وعلى  علاقة مع خالقهم دائما.

تاريخ الإسلام ومبادرة التعايش المشترك

لقد ذكر أمير الجماعة تاريخ هذه المنطقة بإيجاز. والمعلوم أن للتاريخ أهمية كبيرة، ويجب على الأقوام أن يحافظوا على تاريخهم. والمعلوم أيضًا أن كثيرًا من الأشياء تغيب عن أعيننا، والتاريخ يوجّه أنظارنا إليها.

هناك كثير من القيل والقال عن الإسلام، وهناك مخاوف كثيرة بهذا الشأن، ولكن لو نظرنا إلى تاريخ الإسلام، نعلم أنه يدحض التهمة القائلة بكون المسلمين متطرفين. وعندما نطالع فترة فجر الإسلام نجد أن سيدنا محمدًا رسول الله وأصحابه واجهوا الاضطهاد في مكة مدة 13 عامًا، فأُوذي الكثيرون منهم وعُذِّبوا وقُتِلوا، حتى اضطروا في نهاية المطاف إلى الهجرة صَوبَ المدينة فتكوّنت هناك دولة إسلامية صغيرة. ولم يسكن المسلمون فقط في كنف هذه الدولة بل كان عدد لا بأس به من اليهود أيضًا يسكنونها، فعُقدت معهم المواثيق. وبحسب هذه المواثيق طُبقت شريعةُ كل فريق على أتباعها. بالإضافة إلى ذلك نُفِّذ قانون آخر للعمل بالمبادئ المشتركة بين السكان فكان الجميع يلتزمون به.

هلْ شَنَّ المسلمون الحرب لنشر الدين؟!

من الأكاذيب التي كثيرًا ما يُرَوَّج لها أيضًا تلك القائلة بأن المسلمين خاضوا حروبهم لنشر دينهم. لقد سبق أن تناولت بالشرح هذا الموضوع كثيرًا ولعل من يعرفون الجماعة الأحمدية قد قرأوه أيضًا، ولكن قد يكون هناك كثير ممن ليس لديهم إلمام بهذا الأمر تاريخيًّا، لذا أقول مرةً أخرى بإيجاز أنه عندما هاجر المسلمون إلى المدينة بعد تحمّلهم مظالم كثيرة وبدأوا العيش في المدينة بعد أن عقدوا المواثيق مع المواطنين المحليين بمن فيهم أصحاب أديان مختلفة، والقبائل المختلفة، مع ذلك لم يتركهم أهل مكة ليعيشوا آمنين، بل حاولوا تعكير صفو أمنهم، فشنوا عليهم هجمة إثر هجمة. عندها أنزل الله تعالى في القرآن الكريم لأول مرة أمره بصد العدوان وردّ الحرب بالحرب، فقال:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: 40-41)

وكان هذا الأمر يتضمن أنه لو لم يتم الرد بالقوة على المهاجمين الذين يعادون الدين بوجه عام لما بقيت صومعة ولا كنيسة ولا معبد رهبانٍ ولا مسجد. فلو نظرنا إلى الترتيب المذكور في الآية المشار إليها لوجدنا أن المسجد لم يُذكر في البداية وإنما في النهاية. إذًا، فما قيل هو أن الرد على المعتدين ضروري لحماية الدين، لأنهم يعادونه. كذلك لو قمنا بتحليل  موضوعي لأي معركة خاضها المسلمون لتبين لنا أنهم كانوا المُعتدى عليهم، وأن الأعداء هاجموهم أولاً وحاولوا إلحاق الضرر بهم، ومن ثم فإن المسلمين كانوا مُضطرين إلى القتال، عندئذ خاضوا حروبهم دفاعًا عن أنفسهم.

على كل حال إن لهذه المعلومات التاريخية أهمية كبيرة، ونظرًا إلى هذه الأهمية بينت شيئًا من تاريخ الإسلام أيضًا. إذا اعترت قلوب أهل بعض البلاد الغربية مخاوف من المسلمين، إذ تورط بعضهم في أعمال إرهابية، إلا أن هناك من غير المسلمين أيضًا من يتورطون في نفس هذه الجرائم، هذا ما أقرَّ به بعض المتحدثين اليوم، فليس من تعليم المسلمين أن يُبدوا التطرف والقسوة، بل هذه تصرفات شخصية لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة. باختصار سأخبركم في هذا الخطاب الموجز أن كل ما يصدر من المسلمين من أعمال العنف، هي تصرفات شخصية، إذ لا محل لها في تاريخ الإسلام ولا يجيزها تعليمه الوارد في القرآن الكريم.

حق الجيرة في الإسلام

المتحدث الثاني الذي ألقى كلمته، وهو ضابط في الجيش قد أحسن الحديث، حيث قال أنه قد اضطرم الخوف من المسلمين في قلبه قبل 30 سنة، وحين استقر هنا أحمديون وعلقوا لافتة «الحب للجميع ولا كراهية لأحد» في مناسبات عديدة ظنَّ هو وأفرادُ عائلته أن هذا الشعار مجرد ادعاء فقط. ومعلوم أن الأوضاع قبل 30 سنة لم تكن كما هي الآن، ومع ذلك كان ثمة خوف من المسلمين، صحيح أنه لم يُظهر هذا الخوف، لكن ظل في قلبه هذا الشعور. وبعد أن عاش  مع الأحمديين زال خوفه هذا، وذلك لأن الأحمديين بعد أن حلُّوا هنا حاولوا جاهدين إظهار التعليم الحقيقي للإسلام.

إن الإسلام ركز على أداء حقوق الجيران، وهؤلاء الأحمديون أثبتوا كيف أن المسلمين يهتمون بأداء حقوق الجار. لقد كان هذا الأمر كفيلاً بإزالة مخاوفه وشُبهاته. وبالحديث عن حق الجار أودُّ أن أوضِّح هنا أن القرآن الكريم قد عرَّف كلمة الجار بوضوح، فالذين هم يسكنون بجوار بيوتكم هم جيرانكم، والذين هم زملاء عملكم هم أيضا جيرانكم، والذين هم رفاق سفركم هم أيضا جيرانكم، وهذه القائمة طويلة. ثم قال القرآن إن احترام هؤلاء الجيران والإحسان إليهم واجب عليكم، كما قال تعالى:

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (النساء: 37).

ثم إن نبي الإسلام سيدنا محمدًا رسول الله قال: “مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ” (صحيح البخاري، كتاب الأدب)، أي كدت أظن أنه سيستحق نصيبًا في الإرث. إلى هذه الدرجة يولي تعليم الإسلام لمعاملة الجيران أهمية عظيمة، وإن سنّة سيدنا محمد المصطفى وعمل كل مسلم صادق أيضًا يشهد على أنه يُكْرِم الجيران.

الأخلاق الفاضلة هي القاسم المشترك لجميع الأديان.ثم جرى الحديث عن القيم فلكل ثقافة وأناس من خلفيات شتى قيمٌ خاصة، فكلٌ له قيمه، وهي حسنة في حد ذاتها، وينبغي مراعاتها. والأصل هو أن القيم الأخلاقية مشتركة لدى الجميع. فحين تحافظون على الأخلاق الفاضلة والقيم الأخلاقية السامية، عندها سيحترم كل امرئٍ العادات والتقاليد أيضًا، فلكل مجتمع ثقافته أو تقاليده، وسوف يحترم كل امرئ تلك العادات والتقاليد بحسب دينه. فالحفاظ على القيم الإنسانية والأخلاقية هو ما سوف يُجنبنا أي تناقض وتعارض. يجب أن نتذكر ونسعى نحن المسلمين الأحمديين وكلُّ إنسان طيب إلى الحفاظ على القيم الأخلاقية. في كل مجتمع أمور حسنة وسيئة أيضًا حتى لو اختلفت الثقافات وكان الناس من خلفيات مختلفة، كما توجد فيهم قيم سامية ينبغي أن يقلِّدها الآخرون أيضًا. بل قد قال النبي :

“الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا” (سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله)،

وليس من الضروري أن تجدوا الحكمة عند مسلم فقط، بل يمكن أن تجدوها لدى أي دين، بل وأي إنسان حتى لو لم يكن يؤمن بأي دين، فاعلموا أنها ضالّتكم، فخذوها واسعوا للعمل بها. فالقيم السامية توجد عند الجميع، ويجب أن يحترمها الجميع ويتبنَّوها.

تعليم الإسلام عن المرأة، والطريق إلى الجنة

ثم إن الإسلام أقام حقوق المرأة، حيث منحها الحقَّ في التعلُّم، ثم أمر النبي الرجل أن يعاشر زوجته بالمعروف، وورد في القرآن الكريم:

وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (النساء: 20)،

ثم شرع لها الإسلام حقًّا في الإرث. فهذا هو تعليم الإسلام. وعن معاملة المرأة كأمّ، قال النبي لرجل: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:

«فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا» (سنن النسائي، كتاب الجهاد)،

أي أن الأمُّ أو المرأة عمومًا تستطيع أن تُدخل ذريتَها الجنةَ نتيجة تربيتها الصالحة لها، وهي تجعل من البلد والمجتمع الذي تعيش فيه جنة.

فقد أعطى الإسلام المرأة الاحترام والكرامة، والمكانة التي أعطاها لها هي أن المرأة تؤدي دورًا مهمًّا في بناء الأمة، والمرأة الصالحة والمتخلقة والمتعلمة تستطيع أن تربي أولادها تربية حسنة ليصبحوا خدامَ الوطن والأمة. فمن هذا المنطلق أيضًا أعطى الإسلامُ المرأة مكانة مرموقة.

لا معنى للتسامح ما لم يكن ثمة اختلاف!

لقد تحدثت ممثلة الكنيسة عن التسامح الديني، فهذا جيد وضروري، وقد قُلتُ من قبل أنه ينبغي احترام أفكار ومعتقدات الأديان الأخرى وتقاليدهم، فعندها يسود جو التسامح الديني. لقد قال الله في أولى سُور القرآن الكريم بأنه رب العالمين. فهو رَبُّ المسيحيين ورب المسلمين ورب اليهود ورب الهندوس ورب أتباع كل دين، وليس ذلك فحسب، بل هو رب من لا يؤمنون به، ونؤمن بأن كل ما نستفيد به في هذا العالم هو من الله، لأنه ربٌّ ويرزق الجميع. فهذه الأشياء كلُّها مهيأة منه ، فهو يربي كل إنسان بغضّ النظر عن انتمائه الديني. فحين قال إنه رب العالمين قال أيضًا إنه رحمن ورحيم ، فهو يعطي دون سؤال، ويرحم الناس كلهم. أما الذين يسألونه فيعطيهم أكثر من ذلك. باختصار إن رحمانية الله تقتضي أن يَرحم كل واحد ويسدّ حاجته سواء كان يعبده أم لا، أو كان يؤمن به أم لا. أما الذين يطلبون منه فهو يرزقهم أكثر من منطلق رحيميته.

ثم قالت السيدة المحترمة: صحيح أن بيننا وبينكم اختلافات في التعليم عن المرأة أو في بعض الأمور الأخرى. فأقول صحيح أن هناك اختلافات، وكما قلت إن لكل دين تعليمًا، وهو يختلف عن تعليم دين آخر. لكن الأصل أن نعرف ما  المراد من هذا التعليم. إذا كان الإسلام نهى المرأة عن بعض الأمور فليس لتقليل احترامها، والحط من شأنها، بل كان قصد تعليم الإسلام أن يُعليَ مكانة المرأة واحترامَها. وكما قلت قبل قليل، ما أعظمَ ما قال النبي من أن الجنة تحت أقدام الأمهات، ولم يقل إنها تحت أقدام الآباء. فإنما أعطاها هذه المكانة لأنها تربي أولادها وتجعلهم أمة، إنما المرأة هي الأمُّ الصالحة التي يتربى في حضنها أولادٌ يحترمون قانون البلد عندما يكبرون، ويتخلقون بأخلاق سامية. إنهم ولا شك سيتحلّون بالحلم والصبر والتسامح الديني وسيواسي بعضهم بعضًا، فالأصل في كل شيء هو النية، أرى أنه إذا كانت النية صالحة فلا بأس فيما لو سلك كل واحد مسلكه، لأن تعليم كل دين مختلف عن الآخر بطبيعة الحال، ولإزالة الاختلاف في الدنيا يجب أن ننظر إلى الأمور المشتركة فيما بيننا ولا ننظر إلى الفروق. وعن الأمور المشتركة قال لنا القرآن الكريم:

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 65)،

أي: قل لأهل الكتاب ولأهل الأديان الأخرى ولليهود والنصارى تعالوا نتحاور بناء على القيم المشتركة بيننا ولا نرتكز على الأمور الفرعية في تعاليمنا، فالأمور المشتركة بيننا وبينكم هي أن الله واحد ولا نعبد إلا إياه، ولا نؤمن إلا به، وهو رب الجميع، وهذا الشيء مشترك بين جميع الأديان، وإذا فهمنا ذلك وعبدنا الله تعالى وحده وأدّينا حق عبادته وإذا فهمنا أنه هو خالق كل شيء والجميع خَلقُه لزال كل نوع من الاختلافات سواء كانت اختلافات دينية أو ثقافية أو اختلافات فرعية أخرى. قد تحدثت السيدة العمدةُ عن القيم الإنسانية وقد تحدثتُ عن هذا الموضوع في السابق أيضًا. والآن لا يقتصر الأمر على هذه المدينة بل قد أصبح العالم كله قرية عالمية ومن الضروري لإقامة الأمن في العالم أن ننشئ في أنفسنا التحمل والصبر واحترام الأديان الأخرى، وهكذا نستطيع أن نعيش مع بعضنا بالأمن والسلام والحب والوئام.

إسلامنا يدعونا إلى حفظ الجميل

وقد تحدث عضو البرلمان عن حق الحرية وهي أمور جميلة. لم نأت ونندمج في هذا المجتمع لأجل تحقيق مطامع شخصية، بل أتى هنا معظمُ الأحمديين من البلاد المختلفة لأنهم كانوا يُضطهدون في بلادهم، وكانت المظالم تنصب عليهم ولم يكونوا ينعمون بالحرية الدينية، وكانت تُغتصب كثير من حقوقهم.

لا نندمج في المجتمع هنا فقط لأننا قد حصلنا على المرافق والتسهيلات وقد نحرم منها إذا لم نعبر عن شكرنا! لا شك أن الشكر على ذلك ضروري، لأن نبينا    قال:

«مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ» (سنن الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله)،

وهكذا يصبح من واجبنا الديني أن نشكر هذه الدولة وهذا الشعب حيث سمحوا لنا بالإقامة في هذا البلد وبالاندماج معهم، ولذلك منحونا شتى الحريات بما فيها الحرية الدينية. لا شك أن هذا أحد الأسباب، ولكنْ هناك سبب آخر أنه حين نعيش في هذا البلد؛ يكون الالتزام بقانونه واحترام شعبه جزءًا من إيماننا، لأنه مما علمناه نبينا  أن حب الوطن من الإيمان.

فالبلد الذي هاجرنا إليه والذي سمح لنا أهله بالاندماج فيهم، وبالإقامة فيه، ويعيش فيه الآن جيلنا الثاني، بل الثالث أيضًا في بعض الأماكن، صار وطنًا لنا، فألمانيا وطننا، قد أصبح الآن مِن واجبنا الوفاءُ لألمانيا ومراعاةُ قوانينها، ومعاملةُ كل مواطن فيها بالحسنى متحلين بالأخلاق السامية والتسامح الديني والصبر، ذلك لكي يسود السلام هذه البلاد. والحفاظ على سلام البلد وأمنه جزء من إيماننا، لأن هذا ما يساعد على رقي المعيشة واستقرار البلد.

فمن مقتضى إيماننا أن نخدم هذا البلد الذي نعيش فيه، بغض النظر عن أديان الآخرين، ولا بد لنا من احترام القانون أيضًا. وخدمة البلد واجب كل مسلم صادق.

حفظ السلام انطلاقا من رعاية الحرية الدينية

هناك أمر آخر، وهو أنه قد تطرق الحديث هنا عن الحرية الدينية، وأقول مرة تلو الأخرى إننا إذا حافظنا على الحرية الدينية عندها سوف نحافظ على السلام والأمن في البلد أيضًا. أما إذا تدخلنا في أديان الآخرين، فلن نتمكن من الحفاظ على السلام والأمن،  بل سيؤدي ذلك إلى القلق والاضطراب. لذا من الضروري جدًّا أن نسعى لذلك دائمًا. ومن واجب كل واحد منا، سواء أكان مسيحيًّا أو يهوديًّا أو مسلمًا أو هندوسيًّا أو سيخيًّا أو منتميًا إلى أية ديانة، أن يحترم دين الآخرين واختيارهم. لقد قال القرآن الكريم إن الدين أمرٌ يتعلق بالقلب، ولا إكراه في الدين، وما دام الدين لا إكراه فيه، وما دام الدين يخص قلب المرء، فمن حق الجميع أن يمارسوا هذه الحرية. فمن أراد أن يصبح يهوديًّا فله ذلك، ومن أراد أن يصبح مسيحيًّا فمن حقه أن يصبح مسيحيًّا، ومن أراد أن يصبح مسلمًا فمن حقه أن يصبح مسلمًا. فأولاً يجب ألا يكون هناك أي نوع من الكراهية، وثانيًا إن هذه البلاد الغربية تتمتع بالحرية الدينية، وسيسود السلام هذه البلاد وستزدهر باستمرار، ما دامت الحرية الدينية سائدة فيها.

دور المسجد في إفشاء السلام

لقد تحدث عضو البرلمان أيضًا وقال إن المسجد علامة السلام، ويبدو من بناء المسجد أن المسلمين يريدون الاندماج في المجتمع. ونِعْمَ ما قال بأن المسجد علامة السلام! لا شك أن بناء المسجد مدعاة سرور لنا، كما أنه تعبير ضمني منا على أننا جزء من هذا البلد ونريد أن نسهم مع الآخرين في رقيه، ونود أن نبذل مع المواطنين الآخرين كل جهد ممكن لخير هذا البلد، عابدين بحسب أحكام ديننا وعاملين بتقاليده. وهذه هي أهمية المساجد، لأن الله تعالى قد قال في القرآن الكريم بكل صراحة ووضوح إذا لم ترعوا اليتامى ولم تحافظوا على القيم الإنسانية، وآذيتم الآخرين، فلا فائدة من صلواتكم أو من حضوركم المساجد أو تشييدكم إياها.

فتشييد المسجد ينبّهنا إلى أن علينا أن نهتمَّ بعبادة الله تعالى، كما يذكّرنا أيضًا بأن علينا مراعاة مشاعر الآخرين، أيًّا كان دينهم وحتى لو كانوا لا دينيين، وأن علينا إبراز الأمور المشتركة بدلاً من إبراز الاختلافات الدينية، لكي نستطيع العمل متحدين في سبيل مصلحة البلد والشعب.

وأود أن ألفت انتباه الأحمديين المقيمين في هذه المنطقة أن مسؤوليتهم قد تضاعفت بعد بناء هذا المسجد، لذا يجب أن تعبروا عمليًّا أكثرَ من ذي قبل عن أنكم أوفياء للبلد والشعب، وتحافظوا على المُثل الخُلقية العليا، وتتحلوا بها. كما يجب أن يؤكد كل أحمدي بعمله أننا نسعى الآن لخلقِ جو من الحب والوئام والصلح والتسامح أكثر من ذي قبل. وفقهم الله لذلك. شكرًا. تعالوا ندعُ الآن معًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك